}

نباح ويسكي

محمود الرحبي 25 يناير 2018
قص نباح ويسكي
عمل للفنان الأردني هاني حوراني

بين صف شاحنات الحدود، المعبأة بالأكداس الصلبة واللينة، ستّ أرجل تركض في ارتباك؛ تذهب لتعود وتعود لتذهب، والنباح، الذي كان على أشده، يسبقها ويوجهها كبوصلة خفية. يقفز الكلب فوق ظهر إحدى الشاحنات المصطفة أمام بوابة العبور، ثم يهبط راكضا نحو أخرى تربض بعيدا. وحين يصل إليها يقفز فوقها، ثم ينحدر متجها نحو شاحنة ثالثة بعيدة عن سابقتها. لا يلبث أن يقفز منها ليعود الى الشاحنة الأولى، في سعار متوتر، والشرطي المناوب يركض خلفه لاهثا، محاولا اللحاق بلجامه الذي يطوق رقبته حتى يمْكنه السيطرة عليه وتوجيهه.

ربما لو كان للكلب لحظتها لسان بشري، لشرح الأمر الخفي الغامض الذي يقلقه، ولفهم العالم بأنه أعقل المخلوقات في هذه اللحظة؛ ولكن صراع الفهم  لم يطل كثيرا، إذ ظهرت سيارة صالون، من نوع "نيسان سيدرك"ّ وصدمته.  

استطاع أن ينجو بأكثر من تسعة أعشار جسده، ولكن السيارة المنطلقة كرصاصة تمكنت من إحدى قائمتيه الخلفيتين وكان ذلك كافيا.

تقلب ويسكي في الهواء ودار بين السماء والأرض (دار وتقلب كما كانت تدور و تتقلب حياته). وبعد أن أكمل جميع دوراته في الفضاء، لم يسقط مباشرة إلى الأرض، كما كان مرسوما له، إذ سينفجر جسده ويموت، لأن ظهرا وثيرا مفتوحا لشاحنة تحمل قطع أثاث وأقمشة تلقّفه، وكأن سريرا قدريا برز فجأة ليحميه من موت محقق.

غاب ويسكي جزئيا عن الوعي، ولكنه ظل من وراء ذلك الغياب، ينبح وينبح وينبح..

***

ثلة من المتقاعدين، نجتمع كل صباح ونحتسي الكرك أو شاي "المسالا"، المطبوخ بمزيج مما شاء من بهارات هندية. نحتسيه بمهل في صباحاتنا المعطلة داخل مقهى المسافر في سوق الخوض، المتاخم لشعبية الخوض، ذلك الحي الذي عوضتنا عنه الحكومة بعد أن تم تنظيف حي "جبروه" في مطرح، الموبوء بروائح الجريمة والعنف.

كنت أعمل ضمن أفراد الشرطة، وتحديدا في قسم الكلاب البوليسية. وحين أحلت إلى التقاعد، طلبت أن يهدوني كلبي  "ويسكي". سلوقي اسكوتلندي، متحفز وفدائي، يؤدي واجبه بإخلاص. ويوم أصيب بالعرج في مهمة عمل، لم يتخلصوا منه، وكان لتدخلي دور في ذلك، فأعطيت الكلب الأعرج هدية.

أخذته إلى بيتي في الخوض الشعبية كحارس أو ونيس. ولأن الكلب مدرب على استكشاف الروائح الممنوعة، فقد ظل ينبح وينبح وينبح أياما دون أن يهتم به أحد، إلى أن وجدته ذات صباح ميتا.

هذا مختصر ما حدث لويسكي. ولكنْ إحقاقا للحق، فإن حياته ليست بالقصيرة، كما قد يظن القارئ من أول وهلة،  بل كانت حياة بعرض وطول مناسبين لكلب. فقد كانت حصيلة ويسكي من كشف المخدرات توازي حصيلة عنبر بشري كامل في السجن المركزي؛ خاصة حين يتم ربطه برفقة شرطة الحدود. فما أن تطلق استشعاراته أو ملاقيط أنفه إشاراتها، حتى يقفز محاولا نزع الحبل وهو يرسل أمامه نباحا حادا. وإذا قُدّر وكنت المناوبَ في تلك الأثناء، فإني أقوم بفك يدي من رباطه واللحاق به.

يقفز ويسكي فوق الشاحنة ويشرع في ضرب قائمتيه الأماميتين بقوة، وهنا أتدخل، بتهدئته ومسح رقبته وظهره، إيذانا بنجاح مهمته، ليأتي بعد ذلك فريق التفتيش ويكملوا عملهم. 

ولكنْ، ذات يوم، وفي زحمة طابور من السيارات المصطفة، كان ويسكي يركض في أكثر من مكان، حتى أني  احترت في اتجاهه وظننت أن مسا أصابه. فهو يذهب إلى تلك الحافلة ويتراجع عنها، في آخر لحظة، إلى حافلة أخرى، ثم ثالثة. ظل يحوم في أكثر من مكان وهو ينبح مهتاجا. ولكنْ، فجأة، ظهرت سيارة مسرعة من اتجاه معاكس وتجاوزت الصف لتصدمه وتلوح به بعيدا. تمت ملاحقة الفاعل وتفتيش سيارته، ولكنهم لم يجدوا فيها أية ممنوعات، فسجن  لتجاوزه مسار المنتظرين ولقيادته السيارة وهو في حالة سكر. 

كان رفاق المقهى، حين أصل عند هذه النقطة في سردي، يضحكون ساخرين من أن الكلب كان منتبها أكثر منا، وأن كل ذلك لم يكن سوى تمويه، فقد كاد ويسكي أن يكشف عن موكب كامل من المهرّبين، وتلك السيارة "النيسان سيدرك" ذات المقدمة العريضة الشبيه بمقدمة جرافة والتي ظهرت في الوقت المحدد وصدمته، كانت على علاقة بخطة التهريب؛ بل إن سكر السائق المطارد كان كذلك ضمن الخطة.. 

عولج ويسكي من معظم جراح جسده، ولكن إحدى قائمتَيه الخلفيتين تعطلت تماما.

-كيف مات ويسكي؟

-لا يمكنني التحديد، لأنه في لحظة موته لم تكن فيه أي علامة أو جرح، ما يرجح أن أحدهم رمى له أثناء نومي، ومن خلف السور، سُمَّا لإخراس نباحه إلى الأبد. ولأن موت كلب لا يمكن أن يدقق فيه كثيرا ولا يمكن أن يشغل بال أحد، رحل ويسكي.

*كاتب من عُمان

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.