}

قهوتها في الحنين

محمد العامري 21 يناير 2018

 1-

دائما يدهشني لون الشاي، أحسه أقرب إلى نار سائلة في كأس شفاف، لكن اندهاشي الأعلى هو بتتبع رائحة القهوة وسحرها الصباحي. لا أعرف ما الذي جعل القهوة شقيقة الصباح، كما لو أنها جارة الصحو واسترجاع الاحلام في ليلة فائتة، حيث تجعلني أكثر سلاسة في التعامل مع تفجرات الأصوات الصباحية، انفجار اللحظة المرتعشة، لحظة المواعيد الصباحية حيث تلتقي حبيبتك وهي خارجة للتو بطزاجة الورود، بل هي الوردة التي تضمُك لتعطيك من بخورها تعويذة اليوم، تسيل عليك اشتياقا كضوء في كأس الصبوح، تلك الرائحة الغامقة تؤثثك بهواجس عاشق شهقت أحلامه ليلا إلى عليائها، في الصباح اعتدت أن أوارب لأصنع قهوتها حين تتمنع عن ذلك، فالقبلة هي محو التمنع، مباشرة أذهب إلى السرداب أفتش عن حواس القهوة عبر أنف كلب خبِر الروائح، يقودني أنفي إلى أوانٍ أسطوانية تحمل في داخلها جغرافيا القهوة حين تتجاور مع السكر، أدركت أنني بين مُر الأنين وحلاوة الوصل.

2-

حين تشعل نارك الزرقاء، الأشبه بسماء ساخنة، تصعد باتجاه ركوة نام فيها سناج الروائح، تهدر تلك الركوة بأسئلة حارة وتدعوك لأن تلقمها بمسحوق ترابي على جسد الماء الفائر بالاشتياق، تراقب تلك الرغوة وهي ترسم ملامح صباحك المضاء بفيروز، فالمسافة بين قهوتك وأسئلة الصباح تكاد تكون ممحوّة، هي مسافة تشبه ذوبان السكر فيها، مسافة بين الظل المنكسر على الشباك ورائحة الياسمين، المسافة بين قلبك وجوف الفنجان المزخرف بنباتات صغيرة، تلك الرائحة المنبعثة من فنجانها الذي يجاور فنجانك هي محض مسافة لسؤال الحب، سؤال مرتبك في الغالب لكنكما تهجسان به، تهجسان برجفة اليد حين تشتبك باليد، تهجسان بالقهوة حيث تكون محور الكلام، تطلقان العنان لخيالات بعيدة تهمي على طاولة اللقاء في مقهى تسكنه الأرواح الطرية.

فالمقاهي عادة تحتشد بعائلة العشاق، العائلة التي تشهق من شدة الوجد، حيث ترمم القهوة برغوتها صدود العشاق، وتمنحهم أحلاما بفنجانها المقلوب، يقرؤون أحلامهم في حزوز الخزف، طرقات وأشكال تنبئهم بمستقبل سعيد، لم تكن طراوة الصباح في طلّه بقدر ما هو احتفاء بلقاء عاشقين حلما في ليلة فائتة بقبلة في الحلم، أو حتى في خصام حلمي أنها القهوة الصباحية التي تجمعنا على كلمات أقرب إلى طراوة الندى ورهافة الشمس حين تتسلل من ستائرنا.

3-

أذهب لصناعة قهوتها حيث يأخذني الحنين إلى طبيعة النار والرائحة، النار حين تهب من فوهة الموقد المعدني كأنها شعلة القلب في لقائك الأول، أتفقد موجودات البن وما جاوره من محسنات لفنجان يليق بفمها القرمزي الذي يتفتح عن ورد الكلام، فم ينوء بأحمال اللهاث، حيث يبدأ الماء بالغليان كنبع ساخن يهدر في جوف الركوة منتظرا مسحوق البن الغامق، وقليل من السكر البلوري، حيث تبدأ اليد الواثقة بالارتباك، كأنني ألمس حجرا مقدسا، فالقهوة قداستها بطقوس صُنْعِها وما يجاورها من كلام، القهوة فنجان الكلام، بها يتدثر العشاق قسوة الحياة، وبها يحلمون ويحلمون بمواعيد جديدة، كأنها المسافة بين التذكر والنسيان، المسافة بين ارتجافة الشفاه والرائحة، القهوة عطر المواعيد ومشمومات الصباحات الباكرة، فاتحة الكلام على الكلام، أصنع قهوتها كما لو أنها القصيدة المباغتة، القصيدة التي تجتاحك دون استئذان، فتكون حيث نكون كشقيقة اشتقت من ضلعك الأخضر، قهوتنا عشق لا يشبه إلا قبلا ساخنة طال انتظارها.

4-

الآن في الرشفة الأولى، أرى فنجان الخزف يطير بلهفة إلى شفتين ارتجفتا من عطر البن، كلقاء ظمآن إلى قراح ماء في الصهد، ما الذي تصنعه القهوة بالعاشق، هل تذكره تلك الرائحة النفّاذه بعطر العناق، أم بموعد خائب مع شقيق الروح، إنه الفنجان المطرز برسومات طيور صغيرة ونباتات أزهرت على حوافه، كانت اليد التي قبضت على الخزف أقرب إلى أوتار مموسقة شُدتْ على حمأ الفنجان، يد أرّق من موسيقى باخ وأقرب إلى ليونة العجين، تشرب فنجانها بذوق أميرة احترفت المذاق، يجتاحها حزن غامق، حيث تتزجج العينان برهيف الماء الساخن، وذكريات تسيل من حافة الأشياء، ذكريات نامت في الروح، ذكريات أيقظها البُن، ذكريات حبّرتْ اللقاء بحزن الياسمين وهو يسّاقط من نافذة الوداع، هي القهوة حين نقلب فنجانها، نطرق باب التأويل في قراءات هيروغليفية غائرة، قراءات محكومة بالغموض لكنها تسيل بالأحلام والأمل البعيد، آمال لا تنتهي في جوف الفنجان كما لو أننا نقرأ ما نريد أن يكون، فهل يكون؟ 


*شاعر وفنان تشكيلي من الأردن

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
21 يناير 2018
سير
18 نوفمبر 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.