}

تسوّق

مزن الأتاسي 17 يناير 2018
يوميات تسوّق
لوحة للفنان هاني حوراني

أعبر الشارع المزدحم بالناس والسيارات: أتلفّت بلهفة بحثاً عن عربتي الجميلة وبائعها أنيق الروح الذي يزهو ببضاعته مثلما يفعل فلاح بغلاله، أتطلّع إلى الزاوية التي اعتاد أن يركن عربته فيها، أراه، أبتسم له.. يبتسم لي.. فأنا زبونته منذ سنين.

بائع العربة أنيق الروح: ربع القامة منتصبها، يبدو لي أنه في عقده الخامس، حنطي اللون وعيناه داكنتان، يضع كوفيته وعقاله على الطريقة "العرفاتية"، ويلف رقبته بأطرافها حين يكون الطقس بارداً، وحين تدفأ الدنيا يتركها تتدلّى على كتفيه، وعلامته الفارقة: من الجولان المحتل، من سكان القنيطرة حاليا، ومن الوافدين من إحدى قرى الجولان سابقا واسم قريته "البطيحة: لاجئ وافد (بحسب تعبيره)" يركن عربته الأنيقة النظيفة في الزاوية نفسها دائما في سوق الخضار القريب من بيتي، محمِلاً عربته غلال الأرض الصغيرة التي استطاع تحصيلها عوضا عن "بطيحته" التي يرتع فيها "اليهودي" ويسبح "ببحر طبريا" الذي كان يسبح هو فيه ويصطاد السمك مع والده الشهيد.

ينادونه: أبو عرب 

عربة البائع أنيق الروح تزيّن حوافّها الخشبيّة رسوم صاخبة الألوان لأنواع الخضار والحشائش التي تحتويها، ومن سقفها تتدلّى أجراس صغيرة، أوراق رسم ملونة، بعض البالونات، وعموم أشكال الخضار البلاستيكية، أما كنوزها الطازجة المرشرشة بالماء، النظيفة والمصفوفة بعناية الصاحب الرفيق فهي منتجات الأرض كلها في الربيع: بصل أخضر وفجل، خس وبقدونس ونعناع، طرخون وزعتر أخضر وبقلة ...إلخ، تبادلنا التحية، وأخبار الأولاد، وبتواطؤ ضمني تجنّبنا الحديث عن الشأن العام وأحوال البلد – كما اعتدنا أن نفعل في غابر الأيام – فقد بدا واضحاً في سمعي صوته الكامد، وبدا واضحاً في عينيه تثاقل خطوي، لكنه - وهو يودعني – قال إنه يود أن يهديني شيئاً "على البيعة" ثمّ مدّ يده من خلف ظهره وأعطاني هذا الشيء: حزمة نرجس..

في طريقي إلى البيت كانت رائحته القوية تتغلغل في تلافيف دماغي وتتسلق سلالم الذاكرة.. شكلها ولونها تفتح ثغرات ..  وتنبش ما كمن في العمق السحيق...

حين وصلت البيت وضعت حزمتي في كأس زجاجيّة جلست قبالتها وخلوت إليها: مشاهد غامضة ومشوّشة، ومزيج من عواطف حزينة وفرحة تختلط في بعضها أحاول التقاط خيوطها الأوليّة وتجميع صورها لعلّني أصل إلى لوحة تقودني إلى مكان (ليست الرائحة سوى مكان) أو إلى زمان (فالمكان والزمان متلازمان) لكنها كانت تفلت مني وتتسرب لتضيع في دوائر .. دوائر تبدأ بنقطة هي المركز وتكبر وتكبر ثم تتلاشى.

يا إلهي لماذا أهملت التأريخ دائماً وأسقطت من حسابي تسمية الأيام؟ هل لأنها تشابهت حتى عزّ الاختلاف ما بين اسم لنهار وآخر؟ ما بين تاريخ لسنة وأخرى؟

أم أنّ العيب كان فيّ وحدي لأنني عجزت عن أن أضيف إلى الأيام ما يميّز يوماً عن آخر؟ يبدو أنّ لحظة نوعيّة تلد الآن.. برهة من زمن نرجسي أهداني ياها بائع أنيق الروح، فاقد لمكانه، منفيّ عن زمانه، مرتبط معي بموسم الربيع.

شعور بعيد... بعيد.. توقظه رائحة النرجس.. أغمض عينيّ لأمتلك الرائحة وأتفقدها وأسلم لها نفسي، أحسّ خيوطها تحملني تطير بي إلى طفولتي الأولى وتحطّ بي في بيت جدي.

بيت الجنّة والجنائن، شجر الجوز واللوز.. النارنج والبرتقال والليمون، الحبلاس والرمان ودالية العنب، الجب، وشجرة أحلامي حيث قرأت أول قصة حب: شجرة اللبلاب و.. الجدة الحبيبة ذات الوجه الطيب الحنون الراضي تصلّي الفجر وأنا نائمة في فراشها يوقظني صوتها الدافئ وهي ترفع دعاءها إلى الله كي يديم نعائمه عليها وعلى الناس أجمعين.

كنت أسمع تمتماتها بين صحو ونوم وأنعم بدفء فراشها الذي تفوح منه رائحة (الترابة الحلبيّة) رائحة التراب المعطّر، وبعد أن تفرغ من صلاتها تحمل مرشاشها والمقص وتبدأ رحلتها الصباحيّة مع أشجارها وأزاهيرها الغالية، تشذب هنا، وتعشّب هناك، وتسقي هنالك، وهي ما تزال تتمتم بأدعيتها، أو تطلق غناءً شجيّاً، الآن أكاد أرى تلك الطفلة تنهض من نومها وتختلس النظر من شباك غرفة الجدة المطل على الحديقة والذي بدأت خيوط الشمس الفضيّة تتسلّل عبره إلى الغرفة فتغمرها الطمأنينة والفرح، أكاد ألمس ذلك الشعور وأستنشق نسيمه، إحساس طفلة تفتح عينيها على ذلك الجمال الأصلي، يحيطها ما هو حبيب وأليف عندها، أراها وهي تراقب الجدة وتشكر الله على كرمه بإهدائها هذه الحبيبة، وهاهي الآن تغادر الفراش وتنزل إليها لتعرض المساعدة، فكانت دائما توكل إليها سقاية أحواض البنفسج والنرجس وقطف المتفتح منها، لقد اكتملت الصورة.

كيف تسقط من زمننا هنيهات بمثل هذه الروعة وهذا الصفاء؟ تحت أية وطأة نحرم من متعة الاندهاش أمام صباح وليد؟ تشدّنا نداءات الحياة والمشاغل اليومية واللهو العابر فنغرق في فوضانا إلى أن نكتشف أنّ معظم ما نسميه كلاماً ليس سوى لغط، وأنّ ما نعيشه ليس إلا تعبئة فراغ، وأن ما يضحكنا ليس إلا تهريجاً مبتذلاً، فنغوص في كآبتنا، ونتكئ على عُصابنا وتبدو العناصر باهتة لا شكل لها ولا لون ولا رائحة، ويطحننا الزمن ..

أنتزع نفسي من أفكاري التي غيّمت ذكراي لأستعيدها في تفاصيل مشاهد أحاول إعادة ترتيبها:

يرتسم أمامي المشهد الأغلى والأحلى (لمّة العيلة): بنات الخالات وأبناء العم والخؤولة يتسابقون في تسلق شجرة الزنزلخت الكبيرة التي كانت تقع بالقرب من باب الدارة وإلى يسارها (الجب)، أصوات ضحكاتهم تعلو، وآثار عبثهم يعمّ المكان، نجري ونتصايح، يخترع الصبية المعارك الوهمية، وتخترع البنات ألف حيلة كي يشركننا في معركتهم.. حتى إذا أفرغنا التعب من شيطناتنا كنّا نتوجه إلى البئر فنملأ (حاصل الماء) ومنه نملأ (السطول وأوعية النحاس) ثمّ تبدأ طقوس الاغتسال، صبياناً وبنات كنا نغتسل.. نخرج بعدها وجوهنا طافحة بالبشر والسعادة، بين الفينة والأخرى كان صوت جدتي يعلو: (كنّوا يا أولاد.. خلّصونا الغداء جاهز)

أبتلع ريقي الآن وأنا أستعيد نكهة طعام الجدة: ليس كمثله شيء.. أبداً

جولة من لعبة جديدة كانت تنتظرنا بعد الظهيرة: القطاف: ولكل فصل قطافه... ومن نصيبي كان دائماً قطف البنفسج والنرجس .. النرجس البسيط، الذي يعوّض بساطة إهابه برائحته  الفواحة. يا ويح نفسي.. كم من الأيام مضت.. وكم من السنون كرّت.. كم كبرنا.. كم تبعثرنا في الزمان والمكان.. حتى الأخوة ذهبوا في عيشهم بعيدين عن الوطن

أين أنا؟ إنني في البيت – بيتي – أجلس إلى طاولة المطبخ وأمامي حزمة من زهور النرجس، هدية بائع العربة أنيق الروح، أمشي بضع خطوات باتجاه المرآة وأتفحّص وجهي: بعض الخطوط الواهية بدأت تظهر فوق جبيني وحول عينيّ و.. شعرات بيض تختلط بلون شعري و... هاهو الزمن يعلوني/  ولم أنتبه.

حدث هذا المشهد الاستعادي قبل فترة وجيزة من النكبة، النكبة السورية أقصد، اليوم وفي هذا الصباح المتجهم البارد، وزخات المطر تبلل الاسفلت المقحوط وتبللني، عقدت العزم على زيارة سوقي، وتفقد عربتي وصاحبها، لم يعد الشارع مزدحما بالناس والسيارات، بل بالحواجز العسكرية العشوائية لزوم الأمن وقطع دابر المجموعات الإرهابية المسلحة، لم أجدها ..لم أجده، وعلمت من صاحب الدكان الذي كان مجاورا لها، أن أبا عرب التحق بالجيش الحر – قالها لي هامسا – ولم يعد...

أنا أيضا لم أعد تماما إلى البيت..

ولن يعود أحد منا إلى مكانه

فخريطة البلاد تمزقت .. عالمنا اختفى

افترق المكان عن زمانه .. انكسر السياق

ولن يعود .. ولن ...

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
14 نوفمبر 2018
يوميات
31 أكتوبر 2018
آراء
23 أكتوبر 2018
يوميات
11 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.