}

غليون أهملته الرائحة

عماد فؤاد 26 سبتمبر 2017
قص غليون أهملته الرائحة
لوحة للفنان الفلسطيني محمد غريب

ها أنا أخسر للتوِّ دورًا تاريخيًا في الشّطرنج، وهو ما سيجعلني أحتفي بخيبتي معكَ، وأدعوك إلى فنجان من القهوة لتستريح قليلًا. جفّف عرقك وتعالَ لتسترخي. من أين جئتَ.. وإلى أين تذهب؟ سامحني على فضولي وأسئلتي الكثيرة، فكما ترى، صرتُ هَرِمًا في الحادية والثمانين، لا أجيد شيئًا قدر إجادتي للثرثرة مع العابرين، الطارئين الذين يضطرّهم التعب والمطر الغزير إلى أن يستريحوا قليلًا بمقهانا العتيق، مثلك هكذا..

أنا..؟!

أنا مجرّد رجل ضئيل الحجم كثير الابتسام، يضحك على أيِّ شيء يراه في هذه الأزمان العجيبة، اسمي؟ اسمي أومير ڤانهيه، ولدّت في قرية صغيرة بالقرب من هنا اسمها "مورسيله"، خلف هذا الميدان الذي يقابلنا، هاااا... متى ولدتُ؟ يا الله! منذ زمن بعيد يا رجل، فأنا أكبرك بما يزيد كثيرًا عما تبقَّى لك من عمر، هاهاهاها... لا تؤاخذني يا صديقي، والعمر المديد لك، أراك شابًا وسيمًا إن لم تكن عيناي الكليلتان تخدعانني، ويبدو لي من رشاقتك أنَّك تحافظ على صحة جسمك وقوة عضلاتك، مؤكّد أنّكَ لا تدخّن مثلي، سامحني على الدخان، أحببت التدخين مذ جنّدوني في الحرب. كنت في العشرين حين اقتحم جنود هتلر قريتنا الصغيرة وأخذوني معهم لأعمل في مناجم الفحم الألمانية، وهناك تعلَّمت التدخين هربًا من تعلّم الصبر على الجوع. لكن اطمئن، لديَّ الآن ثلاثة أبناء لا يدخّنون مثلك، يصرّون على أن يموتوا أصحّاء، وأحمد الله على ذلك. فأنا أدخّن مثل تركي، وأنتَ – وإن تبدو لي صغيرًا بعد على هذه المهمّة - هل لديك أطفال؟!

هممم.. استنتجتُ ذلك، وأقسم لك بالمسيح، منذ النظرة الأولى وجدتك شابًا أكثر من أن تكون رجلًا، أقصد ما زلتَ صبيًا بعد، لا أعرف، أرجو ألّا تسئ فهمي يا صديقي، فأنت رجل بالطّبع، لكنّني أقصد أنّك لا تزال تراوح في هذه المنطقة الوسطى التي لا تبين بين الفتوّة والرجولة، تعرف؟ هذا الخيط الرفيع الذي يقابلك حين تتأمّل وجهًا لصبيّ ما، وتقف طويلًا غير قادر على الحسم إن كان شابًا فتيًّا أم فتى على مشارف الشباب، هه.. هذه المنطقة الضبابية بين أن يكون أو لا يكون، أوففف، يبدو لي أن قدرتي على التعبير تكثر اليوم من خيانتها لي، سامحني أيُّها الغريب، هل تعجبك القهوة.. أم تريد مزيداً من السُّكر؟ أنا أشربها دون سكّر منذ ستّين عامًا، أحبّها مُرَّة، تذكِّرني بأيّام فتوّتي حين كنتُ صبيًا يسرق السّجائر من حُرّاسنا الألمان، لندخّنها في استراحة القهوة ظهيرة كلّ يوم، جيلك ربّما قرأ عن هذه الحروب، طبعًا، فهم يدرِّسونها لكم في المدارس ويجمِّلون من أحداثها، لتصير في نفوسكم موضع فخر، بدلًا عن العار الذي نجرجره خلفنا نحن الشيوخ، مؤكّد أنك تعرف، لكن المعرفة دون رؤية تظلّ منقوصة يا صديقي، أولادي أيضًا لا يفهمون، أصبحوا رجالًا وأنجبوا الأولاد والبنات وصار لديهم حفنة من الأحفاد الصغار، ورغم ذلك لا يفهمونني، ربّما تكمن المشكلة فيَّ، فهم معذورون.. ولدوا بعد انتهاء الحرب، كنّا بدأنا نشمّ الهواء حرًّا من الأدخنة الناتجة عن القنابل والصواريخ، وننعم بالنّوم بعد خمس سنوات كاملة من الفرار تحت السماوات العارية إلا من هدير الطائرات. المحظوظون مثلك، ولدوا قبل أن يشاهدوا مفرمة اللحم والدّم التي صنعناها بأيدينا، لنلوّث بها العالم.

أعميتُ عيونكَ بهذا الدّخان؟! سامحني.. انتقل هنا يا صديقي. تعال إلى مقعدي، وسأنتقل إلى مقعدكَ. هكذا لن يضايقكَ دخان سيجارتي. الرّيح هي السبب، اللعنة على الريح. حين كنتُ أدخّن الغليون قبل عدّة سنوات لم أكن أضايق أحدًا، كلّ من حولي كان ينتعش من رائحة التبغ الخاصّ الذي كنتُ أدخّنه آنذاك. الآن، أنفخ طيلة اليوم دخّان هذه اللفافات البيضاء الحقيرة، ليتأفّف منِّي ومن رائحتها الجميع. أنتم أجيال تستحقّ الشفقة والله، مرفّهون وأغبياء. سامحني على صراحتي، فهكذا أداعب أبنائي وأحفادي حين يزورونني في عطلات الأسبوع، أسخر منهم لأضحكهم، وأنا أعرف أنّهم يشتمونني في سرائرهم، بالضبط مثلك الآن، لكن لا بأس، ربما تشفع شيخوختي لي، فكما تعرف.. يصبح الشيوخ أطفالًا كلَّما كبروا. هل تتخيّل أنّ هذا البلد الحقير، وبعد كلّ ما فعلناه لأجله، يجبرنا على الذهاب ساعةً كلّ يوم إلى مراكز العلاج الطبيعي، ليحرّكوا لنا مفاصلنا ويجددوا دوراتنا الدموية؟! المجانين، يظنّون أنّنا صرنا جثّثًا فيرغموننا على المتابعة الطبيّة مع حفنة من المراهقين؛ أطباء شبّان لم يعرفوا بعد وظيفة أخرى لأعضائهم الخاصة سوى التبوّل، وممرِّضات مهتاجات نضحت هرموناتهنَّ الجنسية على خدودهنَّ في غابات كريهة من الدّمامل والبثور، مراهقين تربّوا وكبروا في أيامٍ ليس بها حروب، اللعنة.. أنتم فعلًا أجيال من المساكين!

* * *

 

هكذا كان..

تعوّد أن يتَّخذ من نفسه مسافة كي يرى، يبتعد عن الصورة ليحيط بها كاملة، قبل أن يقترب خطوة وراء خطوة، ليدقِّق في التفاصيل، ليتتبَّع الخطوط وضربات الفرشاة وتحرُّش اللون برفيقه اللون، فيغلبه أو ينغلب. علّمته الأيام أن يبتعد كي يثبت حضوره، وحين يملُّ، يحضر كي يعرفوا طعم الغياب. كان أوَّل من أضحكني من قلبي حين جئت إلى هذه البلاد. هو الرّجل الرّبعة، النّحيف، الضّحوك، ابن النكتة الذي خاض حربًا كاملة وسيجارته مشتعلة بين شفتيه. عروق كفَّيه تتلوى منتفخةً بين تجاعيد أصابعه العشرة، وهي تستريح فوق انحناءة عصاه الملتوية التي يتوكّأ عليها حين يسير. بزَّته العُمَّالية الرمادية ذكَّرتني بسبعينيّات القرن الماضي. ذقنه الحليقة، غليونه المهمل الذي ما يزال يحتفظ برائحة التبغ المدوِّخة القوية، وعيناه اللتان تلمعان بقوة في ضوء النهار. حركة يده المتمهِّلة، الصبورة، المتأنّية، وهي تمتدّ في المسافة الضئيلة بين عصاه وفنجان قهوته الساكن على الطاولة، كلّها أشياء كانت تدفعني إلى التّفرس طويلًا في تفاصيل المشهد أثناء حدوثها، كأنّها أفعال استثنائية، تأتي من عالم آخر أو من زمن لم أعشه، فيما ضحكته ترنُّ في بهو بيته الريفيّ وهو يصبّ لي فنجانًا من القهوة، فأصحو من شرودي على ابتسامته وهو يغمز لي بعينه مشيرًا إلى مكعَّبات السكَّر: "قليل من السّم الأبيض يا صديقي"؟

اسمه أومير، ولد في الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة 1922، في قرية صغيرة اسمها مورسيله بالقرب من مدينة كورتريك في الجنوب الغربيّ لبلجيكا. كان في السادسة عشرة من عمره حين اندلعت الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر سنة 1939، وحين اجتاحت القوات الألمانية بلاده، تم القبض عليه مع آلاف غيره من الشبّان البلجيكيين، ليُرحَّلوا إلى معسكرات العمل الإجبارية في ألمانيا سنة 1942. كان في العشرين من عمره، مراهقًا لم يشبع بعد من النظر إلى جمال جاراته الفلمنكيّات، قيّده الجندي الألماني عنوة وهو يركله بين ساقيه فسقط مغشيًا عليه: "لم أكن وحدي، كنّا آلافًا نزأر من الألم تحت أحذية الجنود في الشاحنات التي كانت تشقّ الطريق مسرعة إلى معسكرات العمل"..

أظنّه رفع عينيه ليرقب قريته الصغيرة قبل أن تختفي إلى الأبد تحت أجمّة الأشجار، أظنّه تأوّه وهو يفكّر في أنّها ربّما تكون المرّة الأخيرة التي ينظر فيها إلى تلك الشوارع وإلى هذه البيوت، هو الصبيّ الذي يعرفه كلّ بيت، وتعرف رائحته كلاب وحيوانات جيرانه الفلاحين: "لم أبك، كنت فقط نادمًا لأنّني لم أودِّع أمِّي.. فربّما لا أعود".

* * *

 

لكنّه عاد بثلاث قطع من المعدن الصلب في قفصه الصدري، بعد أن سقط من فوق شاحنة كسّرت أضلاعه، فاضطروا إلى عمل جراحة سريعة له: "طبيب المعسكر كان ألمانيًا ومؤدّبًا على غير العادة، ارتعش وهو ينحني على صدري المحطّم. وحين رأيت حبّات عرق جبينه تسقط متتابعة فوق عنقي الساخن، عرفت أنني ميّت، فرسمت علامة الصليب قبل أن أغيب عن الوعي".

كان يضحك، لكنّه كالعادة كان يفشل في إخفاء غلالة الحزن الشفيفة التي تطلّ عليَّ من عينيه الصافيتين. بقي أومير عامين كاملين في المعسكرات الألمانية، يعمل في مناجم الفحم من أوّل النهار حتى مغيب الشمس: "عامان من العذاب، لكنّني عشت، أسأل نفسي أحيانًا.. ماذا لو كانوا أوكلوا إليَّ مهمّة ما في معسكرات محارق اليهود، لربما متّ حينها من الألم، أشكر الربّ أنّنا وقتها لم نكن نعرف شيئًا عن كيفية إبادة اليهود، وربّما - لهذا السبب تحديدًا – ما زلت تراني أمامك الآن".

لم أكن صديقه أو أحد رفاقه، كنتُ الوافد الجديد على عائلته الموزّعة على المدن البعيدة، "الأجنبيّ الوحيد الذي دخل بيتي" كما كان يقول وهو يمازحني: "لكنّني أحبّك، فيكَ شيء ما يعجبني، تذكّرني بما كنتُ عليه قديمًا من جنون وعنفوان وغباء محبّب، هاهاهاها، تعال.. هات رقعة الشّطرنج، ودعني أُمثّل بجثّتك".

قطع الشّطرنج هي التي جمعتنا حين كانت تفرّق بيننا اللغة. كنت أضغط زرّ جرس بابه في السادسة مساء، ثلاث مرَّات في الأسبوع، وأتمهّل منتظرًا حتى يأتي بطيئًا من حديقة بيته الخلفية. كان يفتح الباب وهو يتراجع خطوتين مُرحّبًا: "تفضَّل أيّها الفرعون، الملك ينتظرك في الداخل، والملكة ترعى فراخها في بستانها". أتقدّم خطوتين لأخلع معطفي المطريّ، فيحرص على تناوله منّي ويعلّقه على مشجب عتيق خلف الباب، ثم يتقدّمني بخطىً بطيئةٍ إلى غرفة الاستقبال، لأجد كلّ شيء مُعدًّا على الطاولة العريضة التي تتوسّط المكان: فناجين القهوة فارغة ومقلوبة على صحونها جوار فُخَّارة السكّر، علبة اللبن على يمين سطل القهوة الكبير، غليونه القديم يرقد متوسّطًا كيس التبغ الأزرق الفارغ وعلبة الكبريت الورقية العامرة بالأعواد الخشبية، عصاه ذات الرأس المنحنية تتكئ على ذراع مقعده الجلديّ الوثير قبالة النافذة العريضة المطلّة على حديقته الخلفية. كان البيت عتيقًا، رائحته وحدها تحيلك إلى الأمكنة التي لا تدخلها الشمس؛ عبقٌ معتّقٌ تشمّه يفوح في أركان المكان، فتشعر أنك في مكان قديم قدم أجساد من يسكنونه. كان أومير يجذب الكرسي الخشبيّ المقابل لمقعده الجلديّ، ويدعوني أن أجلس بإشارة من يده: "همممم، أخبرني، كيف تمرُّ أيامك الضبابية هنا يا ابن الشمس"؟ وقبل أن أجيبه يكون قد انحنى قليلًا متناولًا علبة من الفخّار الملون من على الطاولة، يقربّها منّي وهو يفتح غطائها: "قطعة من الشيكولا السوداء قبل القهوة.. وستدخل الجنّة"!

* * *

 

في السنوات الأولى لي هنا، كان بيت أومير المتهالك هو الملاذ الآمن لي من الخارج، بكل ما يعنيه هذا الخارج من شوارع وأناس ولهجات مختلفة ولغات متباينة، كلّها أمور كانت تجعل من مفرداتي الهولندية المعدودات مؤونة غير ذات جدوى، كان يضحك حين أصارحه بتعقّد لغتهم وصعوبة جريانها على لساني، لكنه كان يصمت طويلًا ويبدأ في ترديد ما صعب عليّ نطقه من كلمات، وحين كنت أخطئ في نطق كلمة ما، كان يرفع كفّ يده اليمنى أمامه كما لو كان يستحثّ طفلًا على التمهّل في الحبو: "لا تتعجّل يا رجل، حاول أن تتهجّى الحروف واحدًا بعد الآخر، كرّرها على لسانك، تشرّبها، ليس هناك من يطالبك بالتسرع، ولن يسخر أحد من لكْنتك المختلفة، وإن فعل، قل له إنك تحاول أن تتحدّث لغته، فماذا عنه"؟

بهذه البساطة الآسرة كان "أومير" يتعامل مع أخطائي، في الوقت الذي كنت أرى الجميع فيه ينتظرون مني الوقوع في الخطأ، كنت حينها غريباً، والغريب هشٌّ، سهل الكسر، و"أومير" نجّاني من الكسر: "أنتَ لست مُطالبًا بأكثر من أن يفهمك الناس".

كنت أتجوّل معه في الأسواق، أصاحبه إلى المقاهي التي يلتقي فيها بأصدقائه من الشيوخ والجنود السابقين في الحرب. وحين تمرّ امرأة عجوز من أمام المقهى الذي نجلس في شرفته المطلّة على الشارع، كان يغمز بعينه إلى رفاقه وهو يبتسم لأحدهم في خبث: "أمازلت تذكر يا ريمون"؟ ويضحك ريمون المكلّل بهالة من الشَّعر الأبيض وهو يلوّح بيده أمام وجهه، كأنّه يبعد ذبابة عن عينه: "اللعنة يا أومير، أصبحت جلدًا على عظم، ومازلت تعاني من الانتفاخ ذاته في سروالك"، فينفجر أومير كطفل من جديد في الضحك.

حين كان جيرانه يستغربون ملامحي وأنا سائر جواره، كان يمسك كفّ يدي أمامهم ويقول ساخرًا: "زوج حفيدتي، لا تخافوا منه فهو مسالم، على العكس من ملامحه"! وترنّ ضحكته لتتردّد بعدها في الشوارع بقوة المطمئنّ كأنّه في بيته..

* * *

 

الآن.. حين أفكر في سنواتي الأولى في بلجيكا، لا أستطيع أن أتخيّلها دون وجود "أومير" المؤثّر، ربما وجدّت فيه صورة ما تشبه ما كان جدِّي عليه، كطفل.. تعلّمت النفور من كلّ ما هو أبويّ، هربت منه عن عمد إلى حِجْر جدّي، المتصوّف العجوز الذي حملني ذات يوم وأنا ابن السّابعة من العمر أمام أبي وسألني: "أين الله؟"، وحين تلجلجت في الإجابة، نظر والدي إليَّ بعينين جاحظتين وهو ينهرني: "ردّ على جدِّك يا ولد"، وحين رأي جدي انعقاد لساني، همس في أذني: "ليس في السماء صدّقني، يضحكون عليك، الله في قلبك، فاحرص على وجوده دومًا هناك".

 

آنست أومير وائتنست به. كان ملاذي حين كان لساني يملّ البحث عن المفردات، فنقضي الساعات الطّوال نلعب الشطرنج في حديقة بيته، وزوجته - التي كانت تفوقه تحفّظًا تجاهي - ترعى دجاجاتها وإوزّاتها حولنا. وحين كان المطر يفاجئنا، نهرب إلى مساحة مغطّاة خلف البيت اتّخذها مجلسًا للتدخين. كان يطلق العنان لرغبته في الكلام، فيحكي لي عمّا عايشه أثناء الحرب، أو يسرد على مسامعي حكايات جيرانه من الفلاحين، ويتفاخر بما خبره من علاقات نسائية، مُلقيًا النكات الذكية من حين إلى حين، ربّما شجّعه حائل اللغة على الكلام معي لساعات طوال، أو ربّما أراد لي أن أستمع إلى لهجته الريفية لفترات طويلة كي أتآلف معها، وأبدأ في تشرِّبها على مهل. أكاد أؤمن أنّه أيضًا عثر فيَّ على أُذن تُنصت إلى ما رواه من قبل ملايين المرات على أسماع الآخرين، أو ربّما كنتُ منقذه من الصمت الذي كان يجد نفسه مضطرًا إليه في وجود المحيطين به. قال لي ذات يوم: "معك أكون على راحتي، لأنّك لا تعاملني باعتباري مَلِكًا مهزومًا. اللعنة عليكَ. تعالَ إلى الشطرنج لأعاقبكَ".

أغلب المقاهي التي كنّا نرتادها كانت تقع في قرية صغيرة بالقرب من بيته، في منطقة مشهورة يستريح فيها المسافرون على درّاجاتهم الهوائية بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا وهولندا أو غيرها من البلدان القريبة. وعادة ما كان هؤلاء المسافرون يستريحون في هذه المقاهي ساعة أو ساعتين أثناء سفرهم، فكان "أومير" ينتهز فرصة دخول أحد هؤلاء إلى المقهى ليتحدّث إليه. كان يتحوّل إلى كتلة من الفضول في صورة ذئب حقيقي حين يرى أحدهم يدلف إلى المقهى، فيرفع يده اليمنى هاتفًا: "تفضّل أيها الغريب، من أين جئتَ؟... وإلى أين تذهب؟".

* * *

 

في الليلة الأخيرة له، ظللتُ أُضحكه حتى دمعت عيناه، كانت قد مرّت سنة كاملة على دخولي بيته أوّل مرّة. غلبني ليلتها في الشطرنج مرّتين، وحين شرعنا في اللعب من جديد للمرّة الثالثة، قال لي مجهدًا: "دعها للغد، وحينها سنرى، إن فزتَ ستكون رقعة الشطرنج التي ورثتها عن أبي ملكًا لك".

ليلتها، في السادس من أبريل 2004، مات "أومير" أثناء نومه في حضن زوجته. كان في الثانية والثمانين من العمر، حليق الذقن، وتفوح من فمه رائحة التبغ الذي كفّ منذ سنوات عن تدخينه في غليونه، التبغ الذي انقرض، وحلّت محلّه لفافات حقيرة بيضاء، يسمّونها سجائر.

 

 

 *مجتزأ من عمل سردي قيد الكتابة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.