}

كيف بدأتُ الكتابة

فادي سعد 29 سبتمبر 2017

 

عندما يسألني أحدهم عن الدافع الأول الذي رمى بي في طريق الكتابة، أتردّد دائماً في الإجابة. وغالباً ما أخترع أسباباً وهمية، أُلبِسها ثياباً تفوح منها رائحة النبل والعظمة. كأنْ أقول إن الكتابة هي القدر الذي كان يومئ إليّ بإصبعه (أحبّ هذه الإجابة)، أو إنها الطريق التي رسمتْها يد إلهية اختارتني لهذا المصير الجميل!

في الحقيقة، الإجابات السابقة هي محض هراء. هراء يصلح لأن يقف مانيكاناً خلف الواجهات الزجاجية لمحلّات الوجاهة المـُدّعِية.

السبب الحقيقي غير ذلك، وسأعترف به الآن في هذا النص. فالأمر برمّته بدأ بقصة عادية وتافهة جداً، لا أدري إذا كانت تستحق أن تُحكَى في الحقيقة، فهي لا تحمل أيّ معانٍ عظيمة، أو تأويلات خفيّة. لكن عليّ أن أفرغ رأسي من هذه القصة، لأن بعض الحكايات إذا لم تخرج منّا، تصبح كالمطرقة التي تصدّع عظامنا من الداخل. كما أني أحب أن أعتقد، أن القصة قد يجد فيها بعض القراء مادة مسلية، قد تدفعهم إلى الابتسام، أو حتى السخرية، وهذا أيضاً هدف نبيل جداً برأيي.

***

 

القصة بطلتها فتاة، تُدعى حنان، كانت تقيم في العمارة المقابلة للعمارة التي كنا نسكنها في أحد أحياء مدينة حلب. منذ أكثر من عشرين عاماً.

لمحتُ حنان للمرة الأولى عندما كانت عائدة إلى بيتها، في واحد من آخر أيام دراستها الثانوية. كانت تسير ببطءِ مَنْ يعلم، أنها بتمهّلها في المشي، تُعطي فرصة أكبر للعابرين لرؤية وجهها المـُرهَف بتقاطيعه المرسومة بدقة كبيرة، لرؤية عينَيْها الواسعتين، خدّيْها النحيفَين، شفتَيْها الممتلئتَين، وأنفها الأشمّ بأرنبته التي تبدو كأنها دائماً تخاطب السماء. لم تكن حنان تثبّت نظرها إلّا أمامها، وكانت تبدو دائماً كمَن كان على وشك الابتسام، رغم أن ذلك لم يكن يحصل إلّا نادراً. أسنانها البيض مصفوفة بترتيب غريب (لم تتسنَّ لي فرصة رؤيتها إلّا في موقف لاحق، سأذكره في وقته)، شعرها الفاحم كان يصل إلى مستوى كتفَيْها، كأنه صُنِع خصيصاً من أجل بشرتها البيضاء والتي كانت تتحدّى الشمس بجرأة لا تتمتّع بها سوى الأجساد الشديدة الثقة بقوامها وتأثيرها.

كنتُ أنا في سنتي الجامعية الأولى. وفي أصيل أحد الأيام، بينما كنتُ أتسكّع في شرفة شقتنا (كما كنتُ أحبّ أن أفعل كثيراً)، لمحتُها عائدة على الرصيف المقابل بتهاديها الشامخ. لا أدري إذا كانتْ لمحتْني هي أيضاً بطرف عينها أم لا، فهذا ليس مهمّاً كثيراً الآن؛ ما حدث أني منذ تلك اللحظة، لم أعد أستطيع التوقف عن التفكير فيها وفي طريقةٍ تمكّنني من التواصل معها.

غنيّ عن القول، أني أيضاً منذ تلك اللحظة، بتّ ملازماً شبه يومي لشرفة المنزل، في الأوقات التي بتُّ أتوقع فيها رؤيتها. لم يكن يمضي يومٌ من دون أن أبتكر مخطّطاً جديداً قد يفتح لي نافذة التعارف ويمنحني مبادرة الحديث، فكل شيء فيها كان يوحي بأنها ليست من النوع الذي يسهل مقاربته. باتتْ هاجساً لا يغادر رأسي. كان العائق الأكبر أمامي هو جمالها، فالجمال الأنثوي كان دائماً بالنسبة إليّ المرآة التي تُريني قدرتي الفائقة والميؤوس منها على الارتباك والتلعثم في الكلام. مواقف مُخجلة كثيرة سابقة على لقائي بحنان كانت كافية لتذكيري بذلك. لذلك كنتُ مصمّماً على التحضير جيداً هذه المرة، حتى أكون على أتم الجاهزية ولا يحصل أي خطأ.

 

في البداية، ظللتُ لفترة لا بأس بها، أنتظرها كل يوم من شرفتي خلال أيام الدوام المدرسي. أجلس على الشرفة وأتأمل من بعيد وجهها، وتفاصيل جسدها، وحركاتها المختلفة، حتى حفظتُ تماماً مواعيد مرورها. ثم قررتُ لاحقاً الاقتراب منها أكثر، وصرتُ أتقصّد النزول إلى الشارع في أوقات تواجدها، والتظاهر بشراء بعض الحاجيات (التي لا تلزمنا طبعاً) من بقّالية "السراب" التي كانت على خطّ سيرها.

أخيراً، شعرتُ بعد عدّة أيام من هذا التسكّع المدروس بأني بتّ جاهزاً لطرْق باب التواصل.

أتذكّر جيداً البدلة البرّاقة التي لبستُها في ذلك اليوم، وشعري الذي كان مصففاً بدقة. استذكرتُ عشرات المرّات في رأسي الكلماتُ التي سأقولها، والتي اخترتُها بعناية فائقة من وحي قراءات سابقة لي لبعض الروايات والأشعار. اقتربتْ حنان أخيراً من المكان الذي وجدتُه الأنسب لاعتراضها، تعمّدتُ السير على الرصيف نفسه، حتى صرتُ وجهاً لوجه أمامها. توقفتُ بطريقة تسدّ الطريق أمامها. توقفتْ هي أيضاً، والتقتْ عينانا للحظات بدتْ لي ساعات طويلة. هنا، كان عليّ أن أفتتح الحديث وأقول كل تلك الجمل التي كتبتُها في رأسي وحفظتُها غيباً لأيام عديدة. لا شيء. أحسـستُ كأنّ لساني أثقل من عشرة تماثيل حجرية صامتة. حتى فمي لم أعد أقوى على فتحه. شفتاي بقيتا ملتصقتَين كأن بينهما صمغاً سميكاً.

أمام حضورها الطاغي، أمسَتْ ذاكرتي قطعة قماش بيضاء.

 

كانت حنان تحدّق في وجهي وهي ترفع حاجبها الأيمن باستغراب، وتنتظر منّي كلمة أو حركة ما. لكن، لا شيء. لا أدري كم مضى من الوقت، قبل أن يتحول استغرابها الممزوج بالامتعاض إلى ملامح هازئة. بدتْ لي مُستمتِعة بالموقف المـُهين الذي وضعتُ نفسي فيه. لم تحاول إلقاء أيّ طوق نجاة لي. ظلّتْ هي أيضاً صامتة، متفرّجةً على ما كان بالتأكيد بالنسبة إليها مشهداً مسليّاً. مع امتداد الصمت، ووقفتي الكوميدية، افترّ فمها الصغير، الذي يشبه حبّة كرز صغيرة، عن ابتسامة ازدادتْ مع الوقت اتساعاً. بعد برهة قصيرة، تحوّلتْ ابتسامتها إلى ضحكة عالية خُيّل إلي أن العالم برمّته سمع دويّها. قهقهة تبادلتْ صداها عمارات الحيّ كلها. كانت هذه المرّة الأولى التي أرى فيها تلك الأسنان الناصعة البياض المصفوفة بعناية إله مهووس بالجمال. للحظات، وأنا أتأمّل وجهها، فقدتُ أيضاً خاصة السمع، وبدا لي العالم صورة خرساء أشاهدها في أحد المتاحف الحزينة. عندما استعدتُ حواسي، كانت حنان تُنهي ضحكتها. للمرة الأخيرة حاولتُ يائساً قول شيء، لكن لم أكن استعدتُ قدرتي على النطق. أيقنتُ أن هزيمتي تامة. خفتُ أن تكون قدماي قد فقدتا أيضاً القدرة على الحركة، ولكن لحسن الحظ لم يحصل هذا. أدرتُ وجهي، وبخطوات أقرب إلى الركض، عدتُ مسرعاً منكّس الرأس إلى البيت.

في غرفتي، ارتميتُ على السرير، خلف عينيّ دموع حبيسة كبيرة. وضعتُ رأسي تحت الوسادة، وهربتُ من يأسي إلى نوم قلق، تتخلّله أحلام غريبة.

***

 

استيقظتُ في اليوم التالي بعينَين منتفختين. وكان أوّل شيء فعلتُه، هو الاطمئنان على قدرتي على النطق. كل شيء كان على ما يرام. استطعتُ أن أقول ما كنتُ أفكّر فيه بصوت عال. ازداد إحباطي. ماذا حدث لي البارحة؟ توقعتُ أن أرتبك قليلاً أمام حنان، لكن ليس إلى درجة الخرس التام.

حاولتُ بعد ذلك ترداد ما كنتُ أرغب في قوله. لدهشتي، استطعتُ وحيداً في غرفتي قول كل الجمل التي كنتُ حفظتُها في رأسي. مع ذلك، خرجتْ الكلمات ضعيفة ومتردِّدة. تأكدتُ عندئذ بأني سأُصاب بالخرس نفسه إذا حاولتُ التكلّم مجدّداً معها.

جلستُ أمام طاولتي، مُمسِكاً برأسي بين يديّ. خطرتْ لدي في هذه اللحظة الفكرة التي ستغيّر حياتي. لماذا لا أسجّل ما أريد قوله على ورقة، ومن ثم أتدبّر طريقةً لإيصال ما كتبتُ إلى عينيّ حنان؟

هكذا كتبتُ في ذاك اليوم جملتي الأولى. لم أهتم في البداية بتنقيح ما كتبتُ، كنتُ أريد فقط إفراغ قلبي من حمولاته الثقيلة.

نقلتُ أفكاري بخطّ عريض على ورقة بيضاء كبيرة، وفي اليوم التالي وقفتُ في المكان نفسه الذي شهد مهانتي. في الموعد المحدّد، ظهرتْ حنان بكامل أناقتها التي لم تهملها يوماً. عندما اقتربتْ، رفعتُ الورقة أمامها من دون أن أقول شيئاً. لم أعد أشعر بحاجة إلى الكلام. ستقرأ وتفهم، هكذا فكرتُ. نظرتْ حنان إلى الورقة التي ظللتُ خلفها متسمّراً أسترق النظر إلى وجه معشوقتي. ضحكتْ ثانية، مع سخرية بدتْ لي أكثر اصطناعاً من ذي قبل. كانت ضحكتها أكثر جديّة من المرة السابقة. عرفتُ أنها لم تستطع أن تتجاهل تماماً صدق الكلمات التي كتبتُها، وقد تكون قد تأثرتْ بجمالها، أو هكذا أظن الآن. أكملتْ سيرها، متجاهلة وجودي، لكني شعرتُ حينئذ بأن شيئاً منّي نفذ إليها.

عدتُ إلى البيت في ذلك اليوم، شاعراً بانتصار صغير. قمتُ في اليوم التالي، وفي المكان نفسه، بالحركة ذاتها. كتبتُ ثانية على ورقة بيضاء بخطّ عريض جملة أخرى. في اليوم الثالث، بدأتُ أزيد من عدد الجمل، ما اضطرني إلى زيادة حجم الورقة، التي صرتُ أثبّتُها على رأس عصاة، أغرسها في قارعة الطريق التي تسلكها حنان، وأقفُ أنا بجانبها. أحياناً كنتُ أكتبُ ما يشبه مقطعاً كاملاً. أذكر أن جملي الأولى حينئذ كانت رومانسية، غير متماسكة، بسيطة. لكنها كانت بالتأكيد عفوية وصادقة وربّما مؤثرة.

ما زال بعض هذه الجمل عالقاً في ذهني. مثلاً كتبتُ مرة: "أدمنتُ على حبّكِ حتى الانطفاء. على ظلّكِ المرسوم في كلّ الصور. بين الحروف، في الجفون، على الحجر". في يوم آخر كتبتُ: "ممّا صُنعْتِ يا امرأة؟ كيف تفسّرين انكساري بين عينيكِ؟ من أسقط السماء بين يديكِ، وسلّمكِ مفاتيح القدر، وجعل الأرض تثور تحت قدميكِ. استرجعي عطركِ من ثيابي، وارحميني".

كما ذكرتُ، في البداية بقيتْ حنان على تجاهلها المشوب بالتهكّم. ولكن مع كل جملة جديدة، كانتْ ملامحها تزداد جديّةً وليونة. كنتُ أشعر أن اللغة مطرقة ضخمة تسقط من ارتفاع عالٍ على أسوارها العالية.

 

حتى جاء اليوم الذي شعرتُ فيه أن الأدوار بدأتْ تنقلب، وصارتْ هي التي تريدني أن أتكلّم معها. أذكر جيداً أن هذا الانقلاب حدث بالضبط في اليوم الذي كتبتُ لها فيه: "يا حبيبتي، تسأليني عن معنى الصمت، عن سرّ السحاب خلف عيوني؟ لأنني أحبّكِ كثيراً، والحبّ ملاكٌ يحرسنا من الكلام. فالنطق رذاذٌ، واللسان أحياناً ضجر".  في ذاك اليوم، توجهّتْ إليّ حنان بثقة ورغبة لم أرها سابقاً في عينَيْها. كنتُ أنا أمسك بعصاتي ذات الورقة في نهايتها، متسمرّاً كالتمثال. وقفتْ أمامي، وكانت المرة الأولى التي أراها بهذا القرب. كان قلبي يكاد ينخلع من مكانه وهو يحاول ضبط ضرباته المتسارعة. حتى الآن لا يمكنني أن أنسى ذاك العطر، وتلك العينَين الواسعتَين. نظرتْ إليّ، وابتسمتْ. سألتني عن اسمي. حدّقتُ في وجهها الملائكي للمرة الأخيرة. أدرتُ ظهري ومشيتُ مسرعاً صوب البيت. لم أشعر بحاجة لقول شيء. كنتُ قد كتبتُ خلال الأسابيع السابقة كلّ ما أردتُ قوله. في لقائي الأول مع حنان، عقد الخوف لساني. هذه المرة، كانت الكتابة هي التي أثقلتْ لساني وبيّنتْ لي إمكانية الاستغناء عنه. لا أنكر، أن رغبة دفينة في الانتقام كانت ربّما أيضاً وراء ابتعادي عنها بهذه الطريقة، وعدم الرد عليها. لم أنسَ يوم سخرتْ منّي. أدركتُ أن الكتابة يمكن أن تكون فعل انتقام. انتقام هادئ عنيف. وأنّ القلم يمكن أن يكون أيضاً سوطاً جميلاً مؤلماً.

وصلتُ إلى البيت، يملؤني شعور بالامتلاء والسلام. لم أكن قد شعرتُ بهذا القدر من السكينة في داخلي منذ فترة طويلة. أحسستُ أني نجوتُ بالكتابة. قفزتُ عبرها فوق سور عال، وبتُّ كمَن يتفرج على بلاد مدهشة للمرة الأولى.

وضعتُ الورقة الأخيرة التي كنت أريتُها لحنان، مع بقية الأوراق الكثيرة التي كتبتُها من أجلها. كانت الأوراق تكفي لتشكّل كتاباً. كتبتُ وشُفيتُ من حنان (يا لها من أنانية!). الكتابة لم تكن حقنة ضد الألم فقط، بل حبالاً تعلّقتُ بها لأعبر تلك الطريق الوعرة التي ظننتُ أني لن أستطيع اجتيازها.

منذ ذلك اليوم، لم أعد أخاف خيانة اللسان. بل شعرتُ أني لم أعد في حاجة إليه. صرنا أنا والصمت أصدقاء. لم يعد يفزعني الفراغ. كلمات الحب التي قلتُها لاحقاً، كنتُ أكتبها قبل أن أنطقها. كنتُ أحتفل بالأصدقاء كتابةً، وأرثيهم على الورق. أحوّل دموعي إلى حبر، وأراقص القلم عندما أفرح.

 

بقيتْ رزمة الأوراق التي كتبتُها لها فوق طاولتي لسنوات. كتبتُ أشياء كثيرة بعدها، وكنتُ كلما أعدتُ قراءة أوراقي الأولى هذه، انتابني حنين إلى تلك العفوية الصادقة الأولى؛ العفوية التي فقدتُها تماماً عندما تعلّمتُ لاحقاً أن الكتابة أيضاً خدعة متقَنَة.

لم أحاول تتبّع حنان ثانية بعد لقائنا الأخير. فقط، مرة، بعد عدّة سنوات أردتُ أن أشكرها. استعلمتُ عن مكان إقامتها، وبعثتُ لها برسالة، كتبتُ فيها: "شكراً لك. بسببكِ، بدأ كلّ شيء".

لا أدري إن كانتْ فهمتْ ما أعنيه. فلم أتلقّ أيّة إجابة بالطبع.

 

*كاتب سوري مقيم في ديترويت

 

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
29 سبتمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.