}

ممر بارد طويل

صونيا خضر 19 سبتمبر 2017

كان يوماً طويلاً في المستشفى، الممر البارد الطويل، بين الغرف بأبوابها نصف المغلقة، يكتظ بالمرضى الخارجين للتو من عمليات جراحية بنصف حياة، فيما نصفها الآخر مغروز في شرايينهم ومعلّق على حوامل الأمصال المتحركة. يجرّون نصف الحياة تلك بخطواتهم البطيئة التي يعاودون اكتشافها على بلاط ذلك الممر الطويل.

 

يفكرون في صمت ويتلفتون حولهم بشرود، يغادرون فضاء الأحلام الشاسع إلى فضاء التمنيّ الصغير، أعظم تلك الأمنيات لا تتعدى العودة إلى التفاصيل السخيفة التي تركوها خلفهم، أسرّتهم القديمة، غرف نومهم الضيّقة، منازلهم المضجرة وشرفاتها التي تطلّ على مطابخ الجيران القذرة وضجيجهم، مناشف الوجوه المبتلة المعلقة في الحمامات، الروائح الكريهة التي تفوح من تحت إبطيّ الأزقة والحواري الضيّقة، تلك التفاصيل التي لم يعنوا يوماً بتصنيفها على سلّم أمنياتهم.

 يتساءلون عن أحوال الطقس في الخارج وكأنهم غادروا هذا الخارج منذ سنوات طويلة، الطقس الذي كان مجرد هامش صغير في ذيل الخارج الذي كان هامشاً صغيراً أيضاً مؤجلاً على الدوام وكأنه غير قابل للاختفاء على الإطلاق.

المرافقون يبتسمون بطيبة وبلاهة، منتظرون أي دعوة عرضية بالشفاء، مستعدون لرد التحيّة بأحسن منها في حال حدوثها، التحيّة التي لا يعد الرد عليها انتقائياً على الإطلاق، ففي ذلك الممر الطويل لا شيء يدلّ على اختلاف بين كائن وآخر، ولا شيء يمنح لنرجسية البشر ذلك التردد المقيت في ردّ التحية، أو للتدقيق في هويّة المحيّي أو وضعه المجتمعيّ أو حتى محتواه، وحده الرداء القطني الأزرق بفتحته الطولية من الخلف ومقاسه الموحّد الكبير هو ما يمنع تلك الهنيهة الفوقيّة من الحضور.

 

في ذلك الممر البارد الطويل يواصل المرضى التلفّت حولهم لتلقّف نظرات الغرباء، علّهم يجدون ما يملأ فراغ الأفكار من رؤوسهم التي لم تستعد وعيها بعد من الوهلة الأولى ابتعاداً عن الخيط الرفيع بين الحياة والموت.

 

كل منهم موصول بأنبوبين معلقين بكيسن بلاستيكيين شفافين، واحد لعصارات الأعضاء الداخلية والآخر للدم، وكلاهما خارجان من أجسادهما التي تم العبث فيها على طاولة العمليات. كم هي سهلة وممكنة إهانة الجسد، حتى من دون ذكر الكيس البلاستيكي الشفاف الذي يتجمع فيه البول، ذلك الكيس المقرف والجارح والمهين في آن واحد.

 

أدخلوا قريبتي المسنة إلى غرفة الطوارئ، نزعوا عنها ثيابها التحتية من دون استئذان وأدخلوا أنبوبا في مثانتها لإخراج البول، خرَجتُ أو على نحو أدقّ "هربت" إلى خلف الستارة لعدم مقدرتي على مشاهدة الألم وللخجل الذي اعتراني حيال المشهد المؤلم والمهين. ابتسم الممرض الذي مرّ مصادفة قربي وهو يرى أصابعي تغلق أذني في محاولة لمنع استغاثة قريبتي من اختراقها، الاستغاثة تلك أو ذلك الصوت الناجم عن الألم يشبه الرصاص الذي يصيب ولا يقتل، كان أنينها يمزّق روحي التي تهلهلت من العجز.

 

ما من شيء أقسى من ذلك الإحساس بالعجز الذي يدفع الإنسان للهروب من تلك النظرات التي تستنجد فيه وهو يعرف أن لا حول له ولا قوة. تمّر في خاطري تلك الذكرى التي حدثت في نفس المكان، يوم تحوّلت أمي على ذلك السرير إلى مجرد شيء، يلبسونه ويعرونه ويحقنونه ويعلقون فيه الأنابيب، مثل لعبة من القماش المحشو بالقطن، فأغضب.

 

بين كل هذا أفكر، ما الذي يدفعني إلى زجّ هذا النص بين نصوصي؟ ما الذي يدفعني إلى الاستمرار في كتابة النصوص أصلاً؟ من أين تخرج سوسة الكتابة وكيف تواصل النخر دون هوادة وأين اختفت تلك النصائح الذهبية التي كنت أتذاكى فيها على المقهورات من الحب، وأحصد لأجلها الكثير من علامات الإعجاب على صفحات فيسبوك؟

كنت قد بدأت في كتابة مقال بعنوان "ما الذي نريده من الحب؟" قبل مرافقة قريبتي إلى قسم الطوارئ، قفز إلى رأسي ذلك العنوان في محاولة لكتم أنين الألم الذي اعتراني في ذلك الممر البارد الطويل، بين تلك الأجساد الخارجة للتو من عذابات مضنية، قرب تلك الوجوه الباحثة ولو على طمأنينة صغيرة لوجود من يهتم لأمر وجودهم في هذا العالم، "ما الذي نريده من الحب؟"، هل ما نريده من الحب هو ذات ما تريده تلك الأجساد المنهكة من الأنابيب المطاطيّة ومحاولاتها العظيمة للإبقاء على الحياة؟ أم أن المراد منه هو مجرد محاولات بسيطة للإبقاء على جودتها وأقصد "الحياة".

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.