}

دعمتَ الباب بالخشبة؟

نصر جميل شعث 1 سبتمبر 2017
يوميات دعمتَ الباب بالخشبة؟
عمل للفنان العراقي عادل عابدين

على شاطئ الأطلسي، في مدينة "الجديدة" المغربية، عين على فرحة طفلتي بالماء وعين على خوفها من الموجة القادمة. ويقول أحد المصطافين: "من هذه النقطة أميركا تقع مباشرة في الجهة المقابلة وراء المحيط".

لكنّي تذكّرت، هذه الظهيرة، ليلةً من ليالي مداهمات جنود العدو لبيتنا المطلّ على شارع، في الانتفاضة الأولى. كم رصدنا من على سطحه جيبات الاحتلال وهي تعلّي نعيرها وتطلق الرصاص قادمة من رأس الشارع.

كم غمرَت عيونُ النسوة جثمانَ شهيدٍ متقدمًا مسيرةً ستكون أطول من الشارع ذاته، لأنّ الأطفال أكثر من الكبار فيه. وكم قوّانا استمرارُ الحياة الطبيعية جنبًا إلى جنب مع المقاومة بالحجر؛ كمشهد سيارة في مقدمتها إكليل ورد وشراشيبُ الزينة عليها، وفيها عروس خرجت للتوّ من "الكوافير". وكيف كانت سيارة كهذه تحلّ، في بعض العصارى، محلّ جيب الاحتلال ذي الاستدارة فائقة السرعة نحونا؛ وتقفل علامةُ الفرح تلك دورانها البطيء ذاهبة في اتجاه آخر.

وكنا نُضاعف، في الليل، تأمينَ باب الحديد الخارجيّ للبيت بخشبة بناء سميكة طولها متران تقريبًا. ذلك كان بحشرنا الخشبة بين جبهة أولى الدرجات الصاعدة إلى باب البيت الداخلي وبين الإطار في منتصف الباب الحديدي. رأس الخشبة، أو الحكمة، من جهة الباب كان يجب أن يكون تحت الحلقة التي تشبه مربط حصان في سور قلعة.

وكانت لازمةُ لسان الأب النادرة تأتي في صيغة سؤال أو طلب لأيّ من أبنائه: دعمتَ الباب بالخشبة؟ ادعمِ الباب بالخشبة. لازمة نادرة، لأنه هو من كان يدعم الباب غالبًا.

في أعالي ليلة باردة ضرب الجنود البابَ المدعوم ببساطيرهم ضربًا لا هوادة فيه. كنت، ساعتئذ، تحت بطانية فئرانية اللون، يعرفها من لهم صلة بالأونروا. الرعب الذي كان يحدثه فينا منظر الجنود، في الليل، ابتداءً من أحذيتهم، ليس هو الرعب الذي كنا نراه فيهم وحجارة النهار عليهم!

ثم فتح أبي الباب.

في كلّ موقف كهذا كان أبي يفتح الباب.

 

ومن ضعفٍ شديدٍ، تلك الليلة، رحّب بهم. ذلك الضعف تزامن والليالي التي كنا نرى فيها من على سطح البيت أشياءَ سريعةً في السماء؛ أطلقنا عليها توهّمًا، نحن الغزيين جيران صحراء سيناء وصحراء النقب، وتمشيًا مع الأخبار: "صواريخ صدام حسين" التي سقطت على بعض مدن شمال فلسطين المحتلة والنقب.

كانت جدتي لأبي، تلك الأيام، بين الوعي والغيبوبة. وعقّبت على الهلع الذي ساد في أوساط الناس من حديث الإعلام التهويلي عن الكيميائي؛ بالقول والموت بعيدٌ عنها بضعة أيام: "هوا الكيماوي بيخوف.. ابن أخوي عبدلرحيم بيرشّو على الزريعة". ماتت الجدة، وحصلنا على تصريح من الاحتلال لدفنها؛ بسبب فرض منع التجوال الشامل على القطاع كله يومها.

أعود إلى أمي. كانت تدعم الباب بالخشبة، أيضًا. وقد وقفت، من فورها، ليلة المداهمة تلك، على عتبة الباب الداخلي وقفةً شجاعة فوق الدرجات النازلة إلى الباب الحديدي؛ وقالت بأعلى صوت ردًّا على ترحيب أبي: "لا أهلًا ولا سهلًا.. إيش جايين بدكم تاني". كانوا في الليلة السابقة.

كان في المداهمين جندي من بدو النقب، وآخرُ من الدروز. القائد، كالعادة، من الأشكيناز.

والأطفال كالكبار كانوا خبراءَ في معرفة تشكيلة جنود الاحتلال اللمم، وأسماء الفرق التي كانت تعمل في الانتفاضة الأولى.

في ظهيرة العطلة هذه، على أحد شواطئ الأطلسي، التقطت طفلتي حجرًا صغيرًا داكنًا ومثقّبًا، والزبدُ عليه في الرمق الأخير. وفي حركة مضحكة كالبكا رمته ليس بعيدًا عن ظلّ رأسها البعيد عن الموجة الميّتة.

أعادتني هذه البراءة الرامزة إلى تذكّر باب البيت، والوقوف عليه بوصفه قصيدة واقعية ناجزة أورّطها، الآن، بالرموز التي يحشدها الشعراء في القصائد. فهناك باب وخشبة بناء.. آه من مشقة وتكاليف البناء!

ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، ستحيل الخشبة، ذات الثراء الرمزيّ في الأدبيات، على الصليب. أيضًا، هناك حلقة تشبه مربط حصان في سور قلعة. تشبه الحلقات التي تتوسّط مكعبّاتٍ إسمنتية يضعها الاحتلال على الحواجز، أو تشبه رسمة سلسة وسريعة لأُذنِ دابّة أو لثمرة، كيفما اتفق لطفل لم يكن أنا، حياته سهلة، لم يعرف كيف يرسم التعرّجات والملامح الدقيقة.

قبل أيام قليلة سمعتُ خبرَ فتح "معبر رفح". هذا يعني، بحساب العمر، أن آخر مرّة فتحت فيها السلطات المصرية المعبر كانت قبل نصف سنة. نصف سنة لا تكفي للحديث، ليل نهار، عن معاناة المرضى وطلاب العلم وحقّ الناس الطبيعي في السفر بحرية من وإلى القطاع.

كان لا بد، إذًا، من توسيع الحديث عن حلقة بابنا التي تشبه مربط حصان ناتئ من سور قلعة.

إنها تغري، حقًّا، باستدعاء أشكال أشياء مختلفة وفاكهة محرمة.

تلك الحلقة تكاد تنسيكم، وأنتم تقرأون: باب القضية نفسَه، الخشبة نفسها. وبالكاد تُذكّركم، في زمن المقتلة العربية العربية، بغياب الحصان.

 

مقالات اخرى للكاتب

شعر
17 فبراير 2023
شعر
20 أكتوبر 2017
يوميات
1 سبتمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.