}

النساء اللائي

وجدي الكومي 11 ديسمبر 2017
قص النساء اللائي
لوحة للفنان المصري عصام معروف



الحب.. ظل هدفًا صعب المنال، بعد نفاد سائل الحياة، باتت الحروب مبررة، فهي تشتعل بسبب سائل ما، ربما يكون سائل النفط الأسود، المفارقة هنا أن هذه الحرب التي أكتب عنها التقرير، اندلعت بسبب سائل أبيض، سائل الحب.

قبل الحرب بقليل، ظهرت كتابات على جدران المدينة، كتابات غريبة مؤذية، تركها بعضهم على جدران شهيرة ومعروفة، كانت تطوّق خصر المدينة ذات يوم، حينما اندلعت الثورة، وأرادوا غلق بعض الشوارع أمام الثوار لوقف زحفهم على المنشآت، تحولت الجدران إلى صفحات مفتوحة لا نهائية لكل من يرغب في أن يدون سبابه ويختفى، تبقت جدران أخرى في شوارع شهيرة، لكن ظلت الشتائم تلطخها، صارت الشتائم تحاصر الجدران، بعدما كانت الجدران تحاصر الثوار، استغلها هؤلاء وسطر عليها نقوشه التي اختلفت عن النقوش الهيروغليفية. من هذه النقوش، عبارة كتبها أحدهم بعلبة دوكو حمراء اللون تقول: الحب سينتصر على الحكومة.

ملاهى الأطفال خلت فجأة، الرياح تعصف بمراجيح ولعب خاوية كأنها مدينة ملاه لأبناء الأشباح، تحركها، كأنها تستجديهم أن يلهون، محال اللعب الكبرى أفلست، عجزت بطن المدينة عن قذف أطفال جدد إلى شوارعها، الحب كان يتآكل، كتبت شابة يافعة عبارة تقول "البلد التي تبتذل الجنس، هي بلد مخصية". تسببت هذه العبارات وغيرها في إزعاج السلطة، تداول آخرون صورة لرئيس الحي بكرشه الضخم، وهو يهدد كل من سيلوث جدران المدينة بكتابات مسيئة، توّعد بفرض غرامة ثلاثة آلاف جنيه، تداولوا صورة للرجل الذي ارتدى نظارة سوداء، ووقف يتحدث وبين أصابعه الممتلئة سيجار فخم، طبعوا صورته بطريقة "الاستنسل" ثم نسخوها على جدران المدينة ليلا.

 استيقظ الناس، فوجدوا صورة الرجل تلطخ جدرانهم في الكثير من الشوارع الرئيسية، فتذكروه وهو يهدد بقوله: أحدهم كتب على الحيطة العالم يزداد قذارة والهواء يقل، أقول له: تحب أبعت لك أنبوبة أكسجين يا روح أمك.

الشابة اليافعة التي كتبت عبارة "البلد التي تبتذل الجنس هي بلد مخصية" توصلوا إليها أخيرًا، لم يقبضوا عليها، لمحها أحدهم وهي تكتب العبارة على كل الجدران، كانت ترتدي بنطلون جينز، وبلوفر لبنيا على قميص داكن اللون، وترتدي كمامة من كمامات الغاز، التي تم توزيعها بكثافة في المواجهات الدموية التي أخذت طابعًا ثوريًا في البداية، ومنها أحداث محمد محمود.

الفتاة كانت تبدو كأنها لم تزل تختنق بالغاز بعد كل هذه السنوات، أو كأنها وجدت في الكمامة حيلة تنكرية، أو كأن الكمامة صارت وسامًا وشامة تضيف لجمالها، رجح البعض أن تكون هي نفسها الفتاة الشابة، بطلة الجرافيتي الشهير، الذي تظهر فيه مستندة بظهرها إلى جدار، بينما يضاجعها حبيبها في حب وشغف كبيرين، وهي تطوقه بساقها اليمنى، وتنظر بتلذذ إلى كاميرا، أو إلى عيني فنان يرسمها متلصصًا على لحظة متعتها.

تداول كثيرون على صفحاتهم بموقع فيس بوك هذا الغرافيتي، ثم تداولوا صورة الفتاة اليافعة مرتدية الكمامة التي تكتب العبارات المتوعدة لمن يبتذل الحب، صارت بطلة في فترة ما، خاصة بنظرة عينيها اللتين حملتا تصميمًا وإرادة قوية لكتابة العبارات على الحيطان.

وصلت إلى رئيس الوزراء رسالة بأحمر الشفاه، حينما فتحها مدير مكتبه وجد ثلاث كلمات في منتصف الصفحة: كيف جففتم الحب؟

احتار السكرتير، هل يجب أن يظهر الرسالة، أم يخفيها؟ ثم قرر أن يصطحبها معه إلى المنزل، وهو يفكر في فحواها، لكن في الأيام التالية توالت الرسائل التي كانت كلها مكتوبة بأحمر الشفاه، في البداية تلقى السكرتير مائة رسالة، في اليوم التالي تلقي خمسمائة، في اليوم الثالث طلب من سعاة البريد أن يكفوا عن حمل أجولة الرسائل إلى مكتبه، كان يفتح بريده الإلكتروني، فيجد عشرات الإيميلات تنسكب من شاشته، وتحمل ذات الكلمات.. كيف جففتم الحب؟

لم يستطع السكرتير إخفاءها جميعا، لذلك وضعها على مكتب رئيس الوزراء، حملها الأخير إلى رئيسه مترددا، كان مشغولًا بافتتاح مشروع كبير، من المشاريع التي لم تمنع الوباء من الانتشار، تلقى الرئيس مغلف الرسالة، وقرر ألا يتحدث عنه في خطبة مشروعه، وهو يذكر الناس بأهمية أن يصطفوا خلفه.

 

شاهيناز

 

عاشت في نكبتها، لم تنفرج كربتها أبدًا، كأنها معاناة سرمدية، تنتظر الفرج، وفك الكرب، تستعين بالأعمال والسحر، حتى تحولت إلى خادمة ضريح، لم يتبق من سيرتها سوى ورقة بالية من صحيفة قديمة، تحمل صورتها بشريطة سوداء على عينيها. لم تغادر موقعها كضحية طوال حياتها، مثل عفريت محبوس في قمقم، تحولت إلى جمرة ملتهبة تحترق طالما عصف بها الهواء، لم يعد بمقدورها أن تظهر، لكنها موجودة مع ذلك وتتنفس، مرت عقود، وشاهيناز وحيدة، تعيش في قلب القاهرة القديمة، لكنها تمر كل يوم من الميدان الذي انتهكوها فيه، لم أقصد فتح جرحها، كل ما قصدته الاستماع لشهادتها عن الظاهرة، التى أصابت رجال هذا البلد، وتسببت في حرب هائلة، هنا ستحكي شاهيناز بنفسها.

 

1

 

لا أعرف كيف توصل إليّ هذا الرجل المرتب مثل طقم حلل عروس اشترته عانسٌ، جاء من الخارج لكتابة تقرير ما، كنت أظن أن علاقتي بالرجال انتهت منذ زمن، لكنني دائمًا أقول لروحي: أحدهم سيعود، وكلما طُرق بابي، أقول ها هو قد عاد، وسرعان ما أفتح لأجد الصمت. هذه المرة كان على الباب هذا الشاب الحليق، تفوح منه رائحة عطور أخاذة، يرتدى بدلة كاملة على الرغم من حرارة الصيف، ولا تبدو على جبينه قطرة عرق، كانت في كفه ورقة مقتطعة من صحيفة قديمة، تحوى ذلك الخبر الذى كتبوه عنى بعد الواقعة، كان الخبر يقول: شهدت القاهرة حادثا مؤسفا مساء أول من أمس الخميس 18 مارس، في قلب ميدان العتبة الخضراء، بطلته فتاة كانت تقف إلى جوار والدتها على محطة الأتوبيس في انتظار الأتوبيس رقم 17، الذي كان من المفترض أن يقلهم إلى بولاق الدكرور، كانت الفتاة ووالدتها قد أنهيا رحلة تسوق منهكة، على مدار اليوم الذى مر هادئا كالعادة في الميدان المزدحم بهؤلاء الذين جاؤوا للتسوق وشراء احتياجات عيد الفطر، وقبل وصول الأتوبيس المنتظر، اقترب شاب أسمر قصير القامة مملوء البنية، ونظر للفتاة وأمعن في ملاحقتها بنظراته، وحينما وصل الأتوبيس، أسرعت الأم، وتركت خلفها الابنة، التي تحرش بها الشاب، ثم مزق ملابسها على مرأى من كل الناس.

 

حينما فتحتْ الباب، لم يلق التحية، فقظ ظل يحدق في وجهي، كأنه يتأكد من ملامحي، يتأكد من عثوره عليّ، ثم قال:

-أنا أعرفك جيدًا، جئت لأتكلم معك عن مأساتك، لا ريب أنك على دراية بما يحدث هذه الأيام؟

تعجبت من طريقته في الكلام، ومن الفصحى التي يستخدمها، كأنه مدرس نحو، خمنت أنه لم يتحدث كثيرًا مع آخرين، أو أنه تعلم الكلام بالعربي قبل أن يطرق بابي بلحظات، طرحت السؤال في تردد:

-أنت مين؟ وعرفت طريقي ازاى؟.

-سألت ووصلت.

أجاب بينما يسمح لنفسه بالدخول، تقدم خطوتين بقامته الشاهقة، وبدلته التي تشبه بدلة رشدي أباظة في فيلم "الساحرة الصغيرة"، تأملته، ملابسه تشي بأنه مندوب مبيعات، أنيق، سمحت له بالدخول، كان قد تخطى عتبة بيتي فعلا، في المعتاد لا أسمح للغرباء بدخول بيتي، لا يطرق بابي أي رجل، إلا أولئك الذين أجلبهم بنفسي، كنت أتحرك ببطء، أمسك يدى كأنه يختبر درجة حرارتي، وقال:

-تعيشين وحدك منذ سنوات؟ لم تتزوجي بعد الحادث..؟.

نظرت إليه فى استخفاف، من هو حتى يسألني لماذا لم أتزوج، انتزعت يدي من كفه ثم قلت:

- أتجوز مين..؟ دا أنا بلعن كل رجالة البلد.

 ثم بترت باقي عبارتي، أعرف أن نصف ما قلته كذب، ألعنهم صحيح، لكنني أنتظر دائمًا أحدهم. بحثت عيناه عن مقعد، ثم تقدم نحوه، وجلس في ثقة، كأن البيت بيته، أخرج من حقيبته ما يشبه الأجندة، لكنني فوجئت بانبعاث أضواء منه، ثم أدركت أنه ما يسمونه هذه الأيام "تابلت"، حاولت أن أراقب ما يفعل، لكن ضعف بصري أعاقني، أعفاني حينما قال:

- لكن الزواج كان سيداويك، أليس كذلك؟

شعرت أن كلماته جريئة أكثر مما ينبغي، قلت مستهجنة طريقته:

- بدون ما تعرفني بتتكلم عن جوازي؟

- لا، فيه أسباب أخرى.

قالها وهو يبتسم ابتسامته العريضة المغوية، ونظراته تتفحصني، أعرف أنه يتأمل في دهشة هذه المعجزة التي أصابتني، ظننت أنه مثل الآخرين، مخدوع بمظهري الخارجي الذي لم يتبدل، شكلي الذي لم يزل فاتنا، بدني الذي لم يزل مشدودًا وملفوفًا، وقامتي المفرودة، على الرغم من إنني أشعر بآلام في ظهري، وفي ركبتيَّ، وفي مفاصلي، ومع ذلك أبدو كفاتنة في العشرينات.

قلت له مبتسمة بمرارة:

-إذا كنت صحفي عاوز يفتح اللي فات، أنا زهدت في أي حق، أنا عجوزة، بوش شباب، وشي مكرمش، تحت جلدي، بضحك بالعافية، دا إن كنت فاكرني قمر.

رمقني في دهشة ثم اعتدل في مقعده مائلا تجاهي، وهو يقول:

-أنت معجزة مخبأة، تتقدمين في السن، بينما ملامحك صبوحة، نضرة، قوانين الكون عجزت عن أن تصيبك.

صمت قليلا، وهو يتخلى عن دهشته، ويحاول أن يكسو وجهه بطابع واثق:

- جئتك لأمر مهم، ظاهرة انقطاع ذلك الشيء... لا أعرف كيف أقولها، الشيء المهم، الذي يجعل الحياة تستمر، الكرة الأرضية تدور بفضله، تفهمينني طبعًا، سبب الولادة والخصوبة، ها أنا قد قلتها.

تفرّست فيه، وقلت في نفسي أنه جرئ ووقح، بالإضافة إلى علمه الواسع بما يحدث، ثم قلت:

-أنا أبعد واحدة عن الحكاية دي.

قلتها كأنني أنفي تهمة، بشكل ما أنا متهمة فعلا، لكن ما أدراه؟ أخرج علبة سجائر جلبها لا ريب معه من بلده، لم أميز نوعها، لكنه استل منها سيجارة رفيعة طويلة مدببة، ثم كأنه تذكر شيئًا نسيه، عاود التحديق في وجهى، ثم قال متخوفا من رفضي:

- ممكن أدخن؟

- هل تذكرت أن تستأذن الآن؟ لا يهمني أن تقتل نفسك، أنت أبله.. ما يهمني هو أن أعرف، كيف عرفت عنواني؟ من دلك عليّ ؟

أشعل سيجارته، ونفث دخانها وهو يحدق في "التابلت" الراقد على حجره، ثم قال:

- هناك الكثيرات مثلك، في أمريكا، من حيث أتيت، لدينا مونيكا، التي لم تظهر منذ عقدين. جريمة مونيكا أنها أحبت رئيسها في العمل، هل تتخيلين؟ فقط وقعت في الحب، الكل عاقبها على مشاعرها، هل تحبين أن أقرأ لك قصيدة كتبتها عن مونيكا؟.

- بتكتب شعر؟

-حينما لا أكون مكلفًا بكتابة التقارير لرؤسائي في الأمم المتحدة.

ثم مرر سبابته عدة مرات على شاشة "التابلت"، وابتسم في ظفر قائلًا:

-قصيدة رائعة، أتمنى أن تنال إعجابك.

ثم اتخذ هيئة من يتأهب لإلقاء كلمة في جمع محتشد، وبدأ يقول وهو يرمقني بين الحين والآخر:

- أنا مونيكا 

وصفوني بالمومس

وبالعاهرة

وصفوني بالساقطة

وبالمنحلّة

تنّصتوا على مكالماتي الهاتفية

وأحصوا عليّ دقات قلبي

لاموني على مشاعري

عاقبوني على قصة حبي

جعلونى أضحوكة للمسنّين في دور الرعاية

وأمثولة للصغار، في مهدهم كي يناموا

كتبوا قصة حبي في تقارير المخابرات

ولعنوني في أرشيفهم السريّ

جعلوني على بوستراتهم

صنعوا مني أرتيكيل لرفع مبيعات صحفهم الصفراء

نشروا صوري بالبيريه

و"بالبرا"

وعرضوا عليّ مليار دولار

لشراء فستاني الذي يحتفظ بنطفة "بيل"

أنا مونيكا

قصة حب نهاية القرن العشرين

وبقعة المني الأخيرة

المحفوظة في متحف الحب.



*فصل من رواية جديدة

 

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
11 ديسمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.