}

"تثبيت" الدولة

محمود عاطف 26 ديسمبر 2017
سير "تثبيت" الدولة
عمل للفنان الفلسطيني منذر جوابرة

 يمكن أحد أن يلتقط صورة للموت؟ بعبارة أخرى: هل بوسع أحدٍ أن يقبض على لحظة جوهرية ومجرّدة باعتبارها تمثيلًا أصيلًا للموت؟ قد يُنظر للماضي على أنه صورة للموت، صورة لما لا يمكن استعادته، أو لما لا بدّ من تخطيه، لكنّ هذا إذا صح على مستوى

اللغة، بتلك الطبعة الحدّية والفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه ولجهة تاريخ الشعوب والمجتمعات الإنسانية يبقى أمرًا جديرًا

بالمساءلة، إذ يظل الماضي والحاضر والمستقبل في حالة تفاعل دائم، وليست صورة الماضي إلا ابنة الحاضر، والحاضر نفسه عمل من

أعمال الماضي، كما يكون المستقبل شكلًا من تمظهرات الاثنين.

بالرجوع للصورة، يعرّف رولان بارت الفوتوغرافيا باعتبارها لحظة قنص للموت، إنها القبض على ما لا يمكن تكراره؛ فاللقطة التي

تثبّتها الكاميرا لا يمكن الرجوع فيها وإليها - خارج إطار الصورة - مرّة أخرى، إنها صورة لما مات، صورة للموت. هل يعني ذلك أن

الموت هو ما لا يمكن استعادته، ما لا يتوافر التراجع فيه؟ قد يكون الموت أيضا هو معنى الاكتمال هذا: القبض على لحظة زمنية يرتبط

تمامها واكتمالها حصرًا بوقت قنصها؛ بإمساكها في حالتها الصفرية حيث هناك ما قبل وما بعد، إنها (اللحظة) إذ تصل لذروة امتلائها

بذاتها تزامنا مع لحظة القنص، فيكون ذلك إعلانا بموتها.

ما يجمع لحظة القنص هذه مع الحالة الصفرية ليس فقط أن الصفر تامٌ بموته؛ مكتمل بفراغه، بل كذلك أنه يثبِت لغيره ما لا يثبته لنفسه،

قيمته ليست في ذاته فقط، وكذلك أيضا بما يمثله كمحطة انتقالية بين الأرقام الموجبة والسالبة، أو حتى بين تضاعيف الأرقام 10، 20، 30، ... إلخ. الصورة أيضا في موتها تجمع إلى ماضي تكوّنها الخاص، إمكانية لحياة مستقبلية. وهنا تكمن إحدى مفارقات الصورة:

بتثبيتها للحظة ميتة من غير الممكن استعادتها، فإن الصورة تصبح في وجودها المستقبلي علامة حياة، ليس فقط باستدعائها كذكرى لما

ومن كان، ولكن باعتبارها بديلا ممكنا للحياة، هامشا يقترح حيوات بديلة للموت الذي هو كائن أو كان.

كذلك الصفر وتضاعيفه على يسار أي رقم هو احتمالية لانهائية لعديد الأرقام. هل معنى ذلك أن العدد الميت في ذاته (الصفر) يمنح غيره

مزيدا من احتمالات الحياة؟

الصفر على يسار الأرقام هامش، من المحتمل أن يُكوّن متنا جديدا، لكنه يظل بقيمة حضوره الميتة هامشا جوار متن موجود. إن الهامش

يعطي للمتن قيمة وجوده كما يأخذ أيضا من المتن قيمة وجوده هو كهامش. لا هامش إلا بوجود متن، والمتن تتضاعف حظوظ التفاعل معه

بوجود هامش له أو أكثر. إنها علاقة وجود واعتراف متبادل.

***

كان أبي تقريبا في الثالثة من عمره، يتمدد أمامي على طاولة معدنية بيضاء، قوائمها نحيفة جدا وطويلة جدا، ولكي أصل لأبي وأرى ما به في استلقائه الصامت على الطاولة، كانت رقبتي تستطيل من مكاني بينهم كما تكون لزرافة، أرمقه وأعود بعدها لحجمي الطبيعي

وأخبر من حولي بحالته.

لم أكن أعرف عددهم ولا من هم، إلا أن القلق البادي على وجوههم يشي بصلة قرابة أو مصاهرة.

لم أكن طبيبا فيما أعرف، لكني أَقدرهم على التواصل مع الجسد المسجّى، أمط رأسي فتتمدد لأعلى بتدرج، وكذلك أفعل بذراعيّ. كان الأمر بسيطا كنظرة أرميها، ما إن أرغب فيه حتى يحدث، وكنت ألمح في عيون مُرافقيّ حسدًا وغيرةً، ولا أعلم تحديدا إن كان ذلك فقط

لليونة جسدي، أم لأن هذه الليونة تحديدا تمنحني إطلالات - لا تتوفر لهم - على أبي.

قال أحدهم من بين بكائه ;ماله يا ابني؟ كان طفلا مثل أبي، أكبر قليلا لكنه طفل. ومن أنت؟ سألته. لكن نشيجه زاد ولم أميّز شيئا من كلماته. انتحب كثيرا، وحاول من حوله تهدئته بلا جدوى.

تركتهم يلاطفونه، وصعدت لأبي، كان وادعا ومبتسما، عيونه نصف مفتوحة كما حال معظم أفراد عائلتنا وهم نائمون. لو رآها هؤلاء

الذين لا أعرفهم لربما يخافون. أود لو أقول لهم إن الذي به هو عيونه نصف المفتوحة. لكن ماذا لو أنهم من العائلة؟ ليس ذلك مرضا كما يعرفون، وسيواجهونني بكذبي. ;إنه طفل، وإذن يريد لعبة أو شيئا من هذا القبيل; قلت لهم وأنا أنظر من علياء رقبتي بجوار فراشه الأبيض، نظر واحدهم للآخر مبتسمين لبساطة الطلب ومندهشين لغيابه عن خاطرهم.

كان الطفل الأكبر قليلا من أبي انتهى من نحيبه، ولمعت عيناه بصفاء من خلف قطرات الملح، وشبح ابتسامة خافتة على وجهه بينما أنفاسه اللاهثة تهدأ، أشار إليّ لأرفعه لأبي، وهناك بالأعلى كانا يلعبان سويا.

 

*****

لا يولد الإنسان فردا، إنما داخل جماعة تشكّلت حدود معرفتها بالعالم قبل وجوده. تشمل هذه المعرفة اللغة وإشاراتها الدالة لهذا العالم

سابق الوجود. نستقبل العالم إذن على أرض ممهدة قَبلا، نتلقاه كما هي عملية الرضاعة. بكلام آخر: نولد في حضن اللغة، كما يقول تزفيتان تودوروف. وحياتنا في أحد تجلياتها مجاهدة مع المتن السالف وتصوراته سابقة التجهيز، إما بتحوير مضامين اللغة ودلالاتها، أو بخلق هامش بديل وجديد: يقول البعض لُوطيّ الجنس; كإشارة موضوعية لما تدل عليه، فيما يقول آخرون ;مثليّ الجنس ; بانحياز ينافح في ذاته - بسبب من السياق الحاضن - عن اختيار جنسي مغايرٍ في وجه من يصرخون ;شواذ; بما في الكلمة من دلالات سلبية يحملها

سياق الصراخ نفسه كما ماضيها السيئ القريب.

اللغة ليست محايدة إذن، وكل متن يخلق لغته ليسيطر بها على عالمه؛ إذ أن السيطرة على العالم تتم عبر تسميته. وليست التسمية مجرد

الإشارة، بل إنها تشمل كذلك معاني التفسير والتعليل والشروحات. إنها تقدم صورة شمولية وعامة. سقطت التفاحة على رأس نيوتن فقدّم

للعالم نظريته عن الجاذبية. إنها رؤية للعالم تتيح فهمه والقبض عليه. تصنع اللغة ذلك، لغة الأديان أو لغة العلم أو لغة الأيديولوجيات الكبرى أو لغة السلطة: إنها تضع العالم بين دفتي كتاب ليسهل على المؤمنين تفسيره، ومن ثم الثقة في سيطرة متنهم الأعلى عليه.

لكن ماذا لو تسلل الشك لقلوب بعض المؤمنين؟ ماذا عن غير المؤمنين ابتداءً بالصورة التفسيرية التي يقدمها المتن؟ حين ينخر الشك ذوات المؤمنين فإن المتن صاحب الحظ الأوفر من الذكاء/ الخبث لا يجعل نفسه منغلقا على ذاته، إن لغته مفسّرة وجامعة، لكنه مع ذلك

يُبقي بها بعض المنافذ القابلة لإعادة التأويل وتقديم تفسيرات جديدة، وحتى لسريان هواء المعارضة، ولو بقدر ضئيل. إنه ذكاء ضمانة

الوجود واستمرار فاعلية الهيمنة.

عرفت الكتب العربية قديما - قبل دخول المطبعة - شيئا من هذا المتن المفتوح على هامش واسع. كان تصميم الكتاب العربي يتيح لمقتنيه

أن يكتب في الهوامش العريضة لكل صفحة ما يعنّ له إزاء ما يقرؤه، إما معارضةً أو استرسالًا أو تعليقًا أو شرحًا أو تكملةً وخلافه.

ولتمييزها عن المتن فإن تلك الحواشي كانت تُكتب على سطور مائلة أو حتى عشوائية في تنظيمها، وبألوان مختلفة أحيانًا عن كتابة

المتن. بعض هذه التعليقات طالت وكثرت بحيث أنها قاربت أن تصير كتبا، فلم تظهر الكتب المتون فيما بعد على أيدي النُسّاخ إلا وفي هوامشها تلك الشروحات باعتبارها كتب الحواشي، وفي أحايين أخرى انفصلت الشروحات لتصير كتبا مستقلة بذاتها.

صارت الهوامش تنافح المتن في وجوده، بحيث لم يعد المتن معرّفا إلا بحواشيه، كما أن الهوامش اكتسبت وجودها من ذات المتن وعلى أرضه. مرة أخرى: إنها علاقة تجاور واعتراف متبادل.

 

 

*شاعر من مصر، وهذا النص نشر في مطبوعة "الهامشيون" 2017، الصادرة من "معهد غوتة"، وهي دعوة لتبني الموقف الهامشي والانطلاق منه لتأمل الشأن المصري العام بعد 25 يناير في ممارسات نصية إبداعية، متنوعة بين البحثي والتخييلي والفلسفي والسيري، وهذا النص واحد من ستة نصوص إبداعية.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
7 يناير 2018
سير
26 ديسمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.