}

لجأتُ إلى الكهف

آمال نوار 25 ديسمبر 2017
يوميات لجأتُ إلى الكهف
عمل للفنان الفلسطيني منذر جوابرة

أحداثٌ أبوكاليبسية تتسارعُ في الأرض. كأنّنا في صالة سينما دائرية، مُحاطة بالشاشات، تتوزّعُ حروبُ العالم بينها، في أفلامِ رعبٍ، يتبارى أبطالُها في فنونهم الإجرامية، حتّى أنّهم يتقافزون فوق رؤوسنا من حربٍ إلى أُخرى، بمكائدهم المُعلَنة والمُستترة، مُتصارعين بأسلحتهم النُجومية، مُعَوْلمِين المَشْهَد في فيلمِ رُعبٍ عالمي مُوَحَّد، لا فكاك منه حتّى ولو حَشَرْنا حيواتنا تحت المقعد.

"يا للعنة! ماكوندو مُحاطة بالماء من كلّ الجهات"؛ اقتباسٌ يصلحُ لمئةِ عامٍ من اللعنة، من تلك اللعنات التي بشّرنا بها كسينجر.

 

وإذا كان العالمُ يتوحَّدُ؛ فمن أجل أن يحكمَه جبّارٌ أوحد. التعدديّة لم يعد لها مَطرح. من الآن فصاعدًا، الكلُّ روبوتات. الكلُّ تُحدَّد لهم مشاكلهم وحلولها، وتُصنّف لهم رغباتهم ووسائل إشباعها، وتُبَرْمَج لهم أفكارهم وتخزّن في ذواكر وميضية، ويُؤطَّر لهم وعيهم والحدود التي لا يُمكن تجاوزها (على غرار البرمجة البُوشية: إمّا أن تكونوا معنا وإمّا ضدّنا، أو البرمجة الترامبية: إلهائنا بقضيةِ عاصمةِ كيانٍ مُغْتَصِبٍ عن قضية أنّ الكيان نفسه هو القضية). ولن يكونَ نسيانٌ بعد، لأنه لن تكونَ ذاكرة. ولن تكونَ أحلامٌ طبعًا، لأنه لن تكونَ فِطْرة. والعملُ جارٍ الآن على الجينات الوراثية، وقريبًا، قريبًا جدًا، ستُبَرمجُ خصائصُ الإنسان وطِباعُه وهو بعدُ في بَطْنِ أُمه.

 

إلهي، خلقتَنا في كَبَدٍ، فإذ بنا في كَبِد الشيطان، جدائلُه الطويلة تلتفُّ حول أعناقنا وتسحبنا نحو ثُقبه الأسود.

إلهي، لا ألوي إلاّ على ظلِّ وَهْمٍ رقيقٍ أتمسّكُ به: وحدَه الشِعْر؛ فبرحمتكَ، أَدِمْ ظلّه، وقدّسْ سرَّه كي أنجو.

 

سنونٌ مضتْ وأنا أنتظرُ أن يكسوَ لَحْمي جِلْدٌ، غير الذي سُلْخ. قد سحلني الصهاينة والماسونيون والمتأسلمون وكلّ الأُصوليين، فاقدي الأصل، على طُول الأرض وعرضها، ثم رموني في مِرْجَل الدم الهنديّ الأحمر، لأتبخّرَ مثلما تبخّر، ولأغدو صِفرًا آخر في رقمٍ كثير الأصفار، من أشرار "الجوييم"، ومن عبيد السلالة الخَزَرية؛ فراعنة العصر الجُدُد، الذين يدّنسون المُقدّس، ويقدّسون المُدّنس، داخل هَرَمهم الشيطاني، في مدينة سلامهم العالمية؛ عاصمة الأديان اللاإنسانية.

 

إلهي كيف لي أن أخترعَ حياةَ وَهْمٍ مُوازية؟!

ها قد لجأتُ إلى الكهف مع شِلّة من المُعذّبين في الأرض، "ربِّي أعلمُ بعِدَّتِهِم"، ولا كلبَ يحرسُنا ولا عنكبوتَ بلُعابه. إلهي، ها أنا أتقلّبُ على جنبَيَّ - وأصحابي الأثيريين - فلا يطالني لهيبُ حروبٍ شيطانية، ولا زُقاءُ طاووسِ عَوْلَمةٍ يفردُ ريشَه، ولا زلازلُ "هارب" وتسونامياتها، ولا عدوى جرثومية من "بيغ فُوت" يانكيّ الهوية، يتّهمُ قُرودَ أفريقيا باختراع الأسلحة البيولوجية، ولا عواء ذئابٍ وضباعٍ منفردة أو فالتة، ولا موجاتُ أزياءٍ كهرومغناطيسية، ولا أورامُ بوتوكس خبيثة أو حميدة. ها أنا ممتلئة رُعبًا لو اطلّع عليه الناس لفرّوا مني وامتلؤوا رُعبًا. بَيْد أني أحيا في السُّهاد، إغماءاتي مُشمسة في لياليَّ الدهماء، وأحلامي كاذبة؛ لا رؤيا صافية من دون غَشْيَةِ العَيْن. إلهي، فانشرْ رحمتكَ، وهيّئ لي في كهفي سببًا للنوم.

 

وقفتُ تحت المطر طويلًا، أغتسلُ من سُّمِ الحُكَّام، ورغوةِ جَهْلِ الغوغاء، وصمغِ الموروثِ الخُرافيّ، ودَبَقِ الفِكرِ المُستعار، وماءِ الذَّهَبِ الأسود، الذي زاد الغنيَّ غنىً والفقيرَ فقرًا، وألبسَ الحَلالَ حرامًا والحرامَ هُراءً. وقفتُ تحت سُحُب التلوّثِ البيئيّ التي تُعمي بصائرَ أجيالٍ بعد أجيال، كالمستجيرةِ من الدَّاء بالدَّاء. لم أجدْ سماءً نظيفةً، ولا غيمةً بيضاءَ القلب، تغسلني من الهَمّ.

 

ذهبتُ الى مكة، فوجدتُها رُخامًا مصقولًا، وتُراثًا مدفونًا، تُشَوّهُها حداثةٌ مجوّفة لم تحدّ من عادة البُصَاق على أرصفتها. ولم أجد رِمالًا ولا خلخالًا ولا جِمالًا ولا حتّى كُحْلًا في عَيْنِ إيمانٍ دامعة. قصدتُها حُكمًا، طمعًا بماء زمزم، علّه يغسلني من ماء القهر الدامي.

وجدتُه ماءً غريبًا مثلي، يتشرّبني ويسودُّ بغَمِّي، غامضًا صموتًا، يخفي حكايته وبصيرته، وطَعْمه ولونه، عميقًا في عذابِ الأرضِ، مع كلِّ أَثَرٍ أصيلٍ غُيِّبَ فيها، حيثُ السحق والمحق لشاهدةِ قَبْر، والخلود والمجد لمارد الإسمنت، وللجرّافات.

 

وقفتُ تحت ماء روما الجميلة، بينما آلهتها في الساحات يبولون على تاريخِ أُمَمٍ لا تُشبههم، وعلى مُدُنٍ، وحضاراتِ شُعوبٍ، خضعتْ لهم ذليلة. ماؤها الوَثَني لم يكن ليغسلني، ولا الصليبي طبعًا، ولا حتّى ماء ليوناردو دا فينشي، الذي طاولته اليوم رياحٌ صحراوية، ولعلّه مثلي الآن يصلّي في قَبْره السِّريّ، كي يغتسلَ مسيحُه من ثرواتِ الفساد العربي.

 

إلهي، دموعي لا تُرضعُ الحُلم، ولا تحرقُ خدودَ قمرٍ ولا حُشَاشَةَ صمت. عيناي مريضتان بداء الحَجَر. إنّه القلب؛ مركزُ الأذى والزلازل والرُؤى. أتضعضعُ بدون أن أُرى.

إلهي، أنا في الصَّحْو؛ صَّحْو البراكين الجوفيّ، أسألكَ نورًا أمشي فيه؛ نورًا يقي الأجيال المُدَجَّنة من العماء، ومن ظلامِ مُعتقداتِ القُدامى الجُدُد، أكانوا إنجيليينَ صهاينة، أم يهودَ متطرفين، أم داعشيين، أم صليبيين، أم نازيين، أم مُحافظين، أم امبرياليين؛ تعدّدتْ التسميات والعقل القَبليّ واحد، في تنميطِ الخَلْقِ واستلابهم، لينقادوا مُسرنمين، في نظامِ القطيعِ "القديم"، الذي مَكْرًا يُسمّونه "الجديد"، بينما ثغاؤه يصلنا من زرائب التاريخ.

 

إلهي، أسألكَ بعَيْنِي المُشرّعة على الجَمْر، أن تغلقَ عَيْنَ الحقيقة في القلب، وتجعل لي فيه بُؤبُؤَ وَهْم. أسألُكَ التِّيهَ في لُغةِ الضَّباب وخُرافةِ الزُّجاج، كي أثقَ ولو قليلًا بالحياة، وأكتبَ بخفّةِ فَراشة، بلا أرضٍ مُوْحلةٍ أَطَؤُها، ولا إحساسٍ قاهرٍ بالنهايات.

 

وفي غيابِ المكان والأوطان والأمان، أسألُكَ وَهْمَ الزمان، كي أكتبَ من خارجه. والأدقّ، أسألُكَ لحظةً ليس إلاّ، من تلك اللحظات البارقة، التي يُطَهِّرُنا فيها الشِعْرُ من الخراب، فنُحلّق فوق الطُّوفان، آملين أن يطولَ بِنَا الإلهام، فلا نبصرُ أرضًا جافّةً أبدًا، تكسرُ جناحَ قُلوبنا، وتحطِّمنا، كما في كل مرّةٍ على صُخور واقعنا.

 

إلهي، لا بدّ أنَّ لكلِّ إنسانٍ كهفه، وأنتَ عالمٌ بأنَّ كهفي الشِعر. وها أنا أحاولُ القبضَ على الظلّ، من أجل التغلّب على هذا الشيء الضخم من اللاشيء. ها أنا قد تحالفتُ بنزاهةٍ مع وَحدتي بانتظار لحظةِ البَرْق.

أيّها الشِعر،

يا بيتي الخُرافي الذي أنا فيه أكثرَ حقيقية،

أيّتها المرآة التي تتكسّرُ فيها روحي وتشعّ،

أيّها الجحيم الذي يُداري زهرة وُجُودي،

يا وَحْشي البدائي الأنقى

يا مائي النورانيّ العميق،

اعمني

اعمني

عن هذا المَشْهد.

 

* شاعرة لبنانية تقيم في أميركا

 

مقالات اخرى للكاتب

شعر
12 أبريل 2018
يوميات
29 مارس 2018
يوميات
25 ديسمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.