}

حين يبوح الكرسيّ

هناء البواب 22 نوفمبر 2017
يوميات حين يبوح الكرسيّ
لوحة لعبد الرحيم سالم

الحياة جميلة ومثيرة ومليئة بالغرابة بما يكفي لتلعنها، ومليئة بالغموض لأن تنشغل بها كلّ مرة رغم الوعود التي قطعتها على نفسك قبل أن تنام كل ليلة بأن تلهي ملكاتك وعقلك العظيم بما هو أهم. الآن فقط يلذّ لي أن أتقمص شخصية الكرسي المتخفف، لطيف المعشر، غير الآبه بما سمع وعلى من تعرّف؛ لا من كثرة لكنه سيموت ومعه كل الأسرار والحكايا.

رتّبوا موعدًا مع الخوف حتى لا يصادفكم  سرّ في أحد الدهاليز حاملًا لكم الرعب في يد والرجفة في اليد الأخرى، فكرسيّ الخوف أُغنيةُ الراحلين، ووجع النائمين على أشواك الأنين. كرسيُّ الخوف غيمةٌ مُثقلةٌ بمطرِ الكلام، حفِظَ أصوات الخفقان الذي لم يسمعه سواه إلى حين الوصول إلى المقصلة بألم ووجع صاحبها حين شكواه مظلوما ومعه تسكن تفاصيل لا يحفظها غيره.

الأخشاب وحدها تدرك تلك الجلسة، هي امتلاء الكأس بالماء منتظرًا أي اهتزازةٍ قبل أن ينسكب ويُغرق من حوله. فحين تغرق في عذاباتك منتظرا التائهين على شباك الموج وقلبك متعب، فلن يسمع انتظارك سواه، ويحفظ ما قلته مع نفسك جيدا، كرسيُّ الانتظارِ مُعشوشبٌ بمشاعرِ العابرين، وحده يتسعُ قلبُهُ لتأفُّفِ المُتأخرينَ وضجرِهِم.

وحين تنبتُ عليه ورود حمراء يكونُ مُلتقى عاشقيْن، ويكون رِواية حدثِ العشقِ رِواية تفصيلِيّة يأْتي فيها على تفاصيلِ الحدثِ العشقيّ وما اشْتمل عليه من صَمْتِيّات، وكلاميّات، وحركِيّات، وحده فقط يدرك كلام العيونِ، وإِشاراتِ البنانِ، وإيماءاتِ الحواجِبِ في حدثٍ عِشْقِيٍّ كان قَد عايَنَه، فَوَصَفَه، فَوَفّاهُ حَقَّهُ في النَّقلِ والتَّصْويرِ، فَيَكونُ ناقِلاً أَمينًا، وشاهِدًا مُبِينًا.

من لي لو سامت الدنيا جبهتي بعذابات الدهر، من للضحكة الهائمة في تفاصيل وجهك؟ لم يبقَ للحب أثر؟ هل اجتاحته رياح الملل العادية؟ من للرعشة في غيابك؟ ومن يجبر الكسر الذي كسرته؟ ما أصبرك أيها الكرسي حين تستمع لصوتها وهي تبكي فقدان حبيبها وتلقي عن كاهلها تساؤلات كبرى... وتظل وحدك تجترّ هذه التساؤلات بلا دموع ولا صوت.

ولكن كيف تقنع مفردة واسعة جدًا بمقام السُلطة على أن تتنازل عن عرش اتساعها اللامتناهي لتقبع مكبلة وشديدة التهذيب والوضوح ومفهومة المناسبة في مكانها، وكيف للقاعد عليها أن يفارق مكانه دون أن تدرك ما ارتكبه حين غياب الظل القابع في روح الضحية. وكيف يتناسب فعل مقدس وأبدي كالـتضحية مع فناء مقعده ويشكلان ثنائيًا متناغمًا من التحرر من الزمن والرضوخ له. سيظل شعورك الطافح بالغثيان من هذا النفاق وادعاء اللباقة في تعاملهم، والتقزز من استغراقهم المخجل في الملذات وكأنهم خالدون في هذا المكان سرا لن يدركه أحد.

كل ذاك أيها المقعد المتشابك ليس مُلكاً لهم، فأنت ابنُ اللحظةِ، ولطالما شعرتَ بشعور الغريب الذي لا ينتمي إلى أحد، كالذي تواطأ الناس على حضور مأدبة من دونه، وصُعقوا عندما وجدوه هناك قد سبقهم: حملقات العيون، الدهشة المغلفة بابتسامة صفراء، الاستغراب الذي يبدونه، التذاكي السخيف،كل ذاك  يشعرُك بمدى الفراغِ الذي يسكنُك.

فأنت مرة آهةٌ وسطَ الطريق، وأخرى فاصلةٌ منقوطةٌ تسألُك عنْ سببِ وجودِك هُنا

أنت فقط من يدرك تفاصيل ملامح جمعتها لتكون حاضرا في كل أيامهم.

 في أعلى الوجوه براءة يعقبها حنان يكتسي عينين متلونتين بلون الوفاء والأمل 
وأسفل الوجوه أضحوكة مزيفة، في كل وجه تختبئ لك ملامح وحدك يتذكرها.

أنت لا تحتاج عددًا من البشر كي يهونوا عليك حتمية موتك المنتظر ولا بؤس حياتك الرتيبة، فأنت وحدك من ينتظر موتهم جميعا، وستبقى.

 

*كاتبة من الأردن

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
22 نوفمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.