}

أغنية حب

لؤي حمزة عبّاس 28 نوفمبر 2017
قص أغنية حب
لوحة للفنان أحمد نعواش

          (إلى: إسماعيل عيسى)

 

كلُّ شيء يتنفس حولي يخلّف في شعوري هزةً، تحرّك في نفسي فكرة أن يموت المرء بلا مقدمات في غفلة من الأمر، وكنت قد خبرت إحساسي مشدوداً لكلِّ شيء، بعد أن مات عيسى ميتته الغريبة الصامتة حتى رأيته ثلاثاً منذ اللحظة التي غاب فيها، اثنتان منها في الحلم والثالثة هذا النهار، بعد أن اعتدت رؤيته، وربما انتظاره، لكنني لم أكن أفكر به أو بمعنى أن يموت المرء لحظة صعودي سلّم أكاديمية الفنون الجميلة ضجراً بسبب الذهاب المتكرر لغرفة جنان المقفلة، في الطابق الثالث، بالقفل الأسود الكبير، بعد أن حدّثتها بالهاتف عن دي كيريكو، وعن قفاز الصحة والكرة الخضراء الصغيرة، ورأس التمثال ذي الابتسامة الأليمة، من الطرف الآخر سمعت تنفسها وسألت:

ـ هل أنت معي؟

قالت:

معك.

وأكملت حديثي عن كيريكو، وعن الأخضر في لوحته بقوّته الفريدة، ثم تحدثت عن الصمت النابض في وحشة عالمه، صمت الفراديس النظيفة المقفلة، حتى عنَّ لي أن أسألها:

ـ هل تذكرين المسمار؟

شعرت بتنفسها ينقطع قبل أن تردَّ، أحسست بخوفها وحدّثتها عما يُثيره في نفسي مسمار اللوحة الأسود الصغير، ينبت بين الأشياء الغامضة، أقصد القفاز والكرة ورأس التمثال وهي تمارس حياتها في سكينة موتى وحيدين، ثم صعدت منشغلاً بارتفاع السلّم وبتنفّسها إذ انقطع وهي تفكّر بشيء ما، وباللوحة المصوّرة في جيب حقيبتي الجلدية، نظرت إلى الأعلى ورأيت الدرابزين يميل في صعوده السريع، وفي نهايته رأيت عيسى منحنياً انحناءه القليل، ينظر إلى بئر السلّم ولا يراني، مكشوفاً في ضوء الضحى، بشعره الخفيف ولون بشرته الأصفر كالجبن القديم. يداه مشبوكتان على صدر قميصه الأخضر ذي الكمين القصيرين، يثير في نفسي رغبة أن أحدّثه، فهي المرّة الثالثة التي أراه فيها، صامتاً، بالقميص نفسه، ينحني فيبدو رأسه مفصولاً، خارج الدرابزين، يغمض جفنيه قليلاً ويميل مترصداً فتحة الممر الواسعة كمن ينتظر أحداً. كنت واثقاً من ارتجاف شفتيه، ومن انفتاح فمه وهو يجاهد، في هدوء، ليقول شيئاً للمرّة الثالثة، بعدها يرجع إلى الوراء ويعدّل وقفته ويفكّ يديه، من دون أن يتغيّر انطباع المنتظر على وجهه، ويغيب.

من كوبها المشجّر أدارت قليلاً من الشاي في كوب فارغ، وضعته أمامي وقالت:

ـ آخر ما في الأكاديمية من شاي.

كنا وحيدين في الغرفة، يفصل بيننا مكتبها العريض وقد فرشت على سطحه ورقة كارتون دكناء، تركت على طرفها قفل الغرفة مفتوح اللسان. في الركن، على رفّ خشب، رأيت التماثيل من طين مفخور، وبعد أن أخرجت الصورة أحسست بتنفسها ينقطع، مرّة أخرى، وأصابعها ترتجف قليلاً قبل أن تستقر على حافة الصورة ثم تأخذها بحركة قوسية بطيئة:

ـ هل يُخيفكَ مسمارُ اللوحة؟

ـ إلى حد ما.

قلت من دون أن أحسَّ بالخجل، تدفعني رغبة للحديث عما رأيته قبل قليل، فقد كان لون الكرة كافياً ليثير في نفسي إحساساً بحضور عيسى، وبارتجاف شفتيه وهو يجاهد كي يقول شيئاً، دفعت يدي فجأة، لأتحسس الكرة فاصطدمت بالكوب وسال الشاي على سطح المكتب، مبللاً الورقة قبل أن يتساقط قطراتٍ متتابعةً من الحافة الصقيلة. وفي أعلى السلّم أحسست غياب عيسى مجسّداً بالرأس الذي انفصل في الضوء. كان طلبة الرسم يتوزّعون في الحديقة، بحوامل لوحاتهم وبلا حوامل، يتخاطفون في الأخضر القوي، خطواتهم على النجيل المقصوص تخلّف صوتاً لا يكاد يُسمع لكنه يُرى من الشبّاك العلوي، حافلاً، لا نهاية له.

من الباب المفتوح بمواجهة عتبة السلّم، رأيت تماثيل بشريّة من طين حي، مكشوفة وملفوفة بقطع من النايلون الأبيض الثخين، وفي الجهة المقابلة، أمام الباب مباشرة رأيت تمثال التشريح، ممدود اليد، دموي العضل، فاحتضنت الحقيبة وملأت أنفاسي رائحة الجلد المدبوغ.

في الوقت الذي أستلقي مثقلاً برائحة القميص، أفكّر بما حدث ضحىً، بانتظاري الطويل في الساحة الفسيحة المزدحمة، وقد فضّلت، كما في كلِّ مرّة، أن أقف تحت مظلّة مصلحة نقل الركاب، أتأمل المارّة وأتساءل، هل أرى عيسى مرّة أخرى؟

 

 *كاتب من العراق

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.