}

نسيان

مهند يونس 26 نوفمبر 2017
قص نسيان
لوحة للفنان الفلسطيني زهدي قادري

نسيان

ما زلت أذكر جيدًا ذلك اليوم الذي التقيتُك فيه لأول مرة، كنتُ في الثانوية العامة، وطوال الطريق إليك كنتُ- كعادتي قبل الذهاب إلى أي لقاء مهم- أتخيل كيف سيكون اللقاء، بل وأتمادى في رسم الحوارات والسيناريوهات المتوقعة. صافحتَني بحرارة ثم تحسست وجهي بين يديك. تنظر إليّ وتقول في نفسك، كيف تحوّل ذلك الولد الصغير ذو الشعر الأشقر، الذي كان يتقافز ليصل إلى الشباك ويرى البحر، فصار الآن شابًا بمثل طولي. ثم أخذتني إلى حضنك الذي حُرمتُ منه سنين، عانقتني بدفء حاولتَ فيه تلخيص كل تلك السنين بتفاصيلها المعقدة بين أب وابنه. كان دفؤك حنونًا واعتصارك لي قاسيًا. في الحقيقة أنت لم تفعل ذلك كله، حتى ظننتُ بعد أن مددت يدك لتصافحني وجلسنا برهة وسألتني عن حالي، أن هناك جزءًا ثانيًا من هذا اللقاء، سأشاهد فيه البقية، ذلك الجزء لم يحدث أبدًا.

لعنة السيجارة

تطلّ من شباك بيت الجيران- الذي لم ألحظه سوى الآن- فتاة تبتسم بمكرٍ، أبتسم لها ببلاهة، تلقي بماء الغسيل فوق رأسي، ألتفت مرة أخرى وأحييها، أمشي بضع خطوات، وأتحسّر على نصف سيجارة، تحتبس في صدري.

أركب سيارة الأجرة، بجانب السائق الخمسيني، يبتسم لي، بثلاث أسنان أمامية، أستلُّ سيجارة لأشعلها، فيعترض بأن التدخين ممنوع، أرجعها إلى جيبي في حسرة، أستغرب، أشير إلى أسنانه، فيبرر، لقد أجّل قرار إقلاعه عن التدخين ثلاثين سنة حتى اللحظة!

أقترب من وصولي للجامعة، أبصر جمهرة أمام مفترق الأزهر، يبدو أنها للعاطلين عن العمل والأمل، أشعل السيجارة اللعينة أخيرًا، أجد امرأة تقف إلى جانبي، تتأملني وعيناها مغرورقتان بالدموع، أبادلها النظر، لكنها لا تكف، أستفهم: أنت تشبه ابني الأسير، حتى طريقة إشعال السيجارة ونفث دخانها.

أقرر أن أقلع عن التدخين، لا بد لتلك المصادفات من معنى. ألقي بعلبة السجائر على الإسفلت، أرى عشرة شواقل تنسحق تحت عجلات السيارات، أخيرًا أصل إلى الطابق الخامس، كلية الصيدلة، يسألني صديقي: معك سيجارة؟

*مهند يونس، كاتب من غزة، وضع حدا لحياته في أغسطس 2017 وهو في الثانية والعشرين من عمره. صدرت له حديثًا مجموعة بعنوان "أوراق الخريف".

مقالات اخرى للكاتب

قص
26 نوفمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.