}

نافذة لا يجد المرءُ وقتاً لكي يحبها

محمود خير الله 31 أكتوبر 2017
سير نافذة لا يجد المرءُ وقتاً لكي يحبها
لوحة للفنان المصري سيد عبد الرسول

الفصل الثاني من السيرة الذاتية

 

 

(1)

كان  الانتقال إلى القاهرة بالنسبةِ لي، رحلةً شبه يومية، طويلةً ومليئةً بالضحايا، لا يمكن أبداً أن تعود منها كما بَدَأت، منذ كنتُ صغيراً وإلى اليوم، تبدو القاهرة مصحوبةً في ذهني دائماً بصورة بالألوان الطبيعية لقطارٍ ضخم الوجه، يحملُ رجالاً أشداء في بطنه وعلى ظهره وحتى فوق شاربه، وهو يعبرُ متجهِّماً بين القبور والعشش  والمساكن، إذا صرخ بصوت صفيرِهِ العالي، فهذا إيذانٌ منه بأنه يمرّ، وحين يمرّ تطير الملابس المعلقة على الأسطح محطمة "مَشابكها" (ملاقطها)، وترفع الكلاب عقيرتها بالنباح وتلوي الطيور أعناقها، وتميل الأشجار تحت وطأة الغبار الذي ينفثُهُ، هذا الكيان الضخم، الذي يحمل أحلام الفقراء ـ كل عدة ساعات ـ إلى "أرض الأحلام".

كانت القاهرة تبتعد عن مدينتي الصغيرة في محافظة "القليوبية"، حوالي 35 كيلو متراً، لكن شتان بين المدن الصغيرة الضائعة في متاهات المقاهي الصغيرة المظلمة، وتلك المدن، التي تحوم حولها الأحلام، في هذه اللحظة كانت القاهرة تعني لي، كل ما يعنيه حضور الندوات الأدبية، وزيارة الصحف والتعرّف إلى المثقفين، على المقاهي، حيث كان هدفي الأول كشاعر شاب، يكتب لتوّه قصيدة النثر، هو زيارة ندوة جريدة "المساء" الأدبية، التي كان يديرها الكاتب محمد جبريل، في مقر دار "التحرير للطبع والنشر" مقر جريدة "الجمهورية" القديم، زيارة لا تزال رائحتها عالقة في دمي إلى اليوم، فبينما كان شعراء وكتاب وروائيّو وقصاصو جيل الثمانينيات، يمارسون حضورهم في المشهد الثقافي، ويلقون تجاربهم القصصية والشعرية أمامي، في هذه الندوة، كانت رائحة المطابع التي تنبعث طوال الوقت من الدور الأرضي، تدير رأسي حرفياً، منذ أول يوم شممتُها فيه، ولا هي تزال تديرُها حتّى اليوم.

في أول قطارٍ ركبتُه "بمفردي"، باتجاه القاهرة، اكتشفتُ أنه كان على الناس من أمثالي، سكان ضواحي "القليوبية"، أن يجلسوا لساعاتٍ طويلة في انتظارِ "الفَرج"، ذلك "اللعين" الذي يتمثل في القطار "المُقابل"، الذي لابد أن يلتقي قطارَنا، كل مرة في محطة هي في منتصف الطريق بين المدينة التي أسكُنُها، "شبين القناطر"، والمدينة التي تسكنني "القاهرة"، وخلال هذا الانتظار المُمل وسط الذباب واليأس، يمكن للمرء أن يتعلم قراءة البشر، ربما اقترب أكثر من الشعر، خصوصاً هؤلاء الضحايا، الذين يعيشون على خط "المرج ـ شبين القناطر"، المُترب والمثير للغثيان.

الرحلةُ إلى الشعر، كانت عبارة عن تسع محطات من الجنون والأتربة، زمنياً تدومُ لأكثر من ساعة ونصف الساعة، لكنها في حقيقة الأمر كانت طويلة جداً، ولا يمكن حسابها بالساعات، لأنها الرحلة الوحيدة، التي تكون فيها مُلتصقاً بأكبر قدرٍ مُمكن من المرضى والمحتاجين والثّكالى، خصوصاً من "المجانين" و"المجذومين" وأهالي المساجين، الذين يهبطون في محطتيْ "الخانكة" و"أبوزعبل" عادةً، لأن الأولى تضمُ داراً للصِّحة النفسية، بناها الخديو عباس حلمي الثاني، في منطقة صحراوية بالخانكة، مطلع القرن العشرين، (قبل أن أولد بستين عاماً على الأقل)، والثانية تضم "مُستعمرَة الجذام" الشهيرة وسجن أبوزعبل الأكثر شهرة، الأمر الذي يمنح هذا القطار، دليلاً إضافياً على وعورةِ الطريق إلى الشعر.

العالم في هذا القطار كان يهتزّ وسط الدخان الذي يأتيك من كل اتجاه، خصوصاً من "قمائن الطوب"، المنتشرة في ريف هذا الزمان، هواء هذا القطار كان مُعبأ بالحشرات والذباب والإحباط، بعض الصبية الأشرار، كانوا ينتظرون لحظة أن يمر القطار بين بيوتهم القصيرة، حتى يقفوا برعونة متحدين الإعصار الترابي الذي يُسببه القطار، لكي يقذفوه بالحجارة والزّلط المُدبب، هكذا، على سبيل التدريب على دقة إصابة هدف مُتحرك، يتمثل في فتحات الأبواب و"النوافذ"، المُهدمة غالباً.

الركَّاب كلُهم نُبذة مُختصَرَة ومُفيدة جداً عن فكرة "الضحايا"، لذلك يعلقون على وجوههم نظرات فزعٍ مجانيّ مُخيف، تعتبر وساماً على رأس كل "ضحيَّة"، ركب هذا القطار يوماً بحثاً عن حلمه، فأصيبَ في جزء من جسده، أنا أيضاً أحمل واحدة من هذه النظرات "المرعبة" ـ كوسامٍ ـ على وجهي، بوصفي واحداً من هؤلاء الركاب، أصبت مثلهم ـ ذات مرّة ـ بقذيفةٍ عشوائيةٍ طائشة ـ أتحسّسها في الذراع الأيسر ـ وأنا أكتب الآن ـ كأنها قصيدة طويلة مَحفورة بالدمِ، تركها القطار على جسدي، كأنَّه يذكرني دوماً بما عشتُ فيه من ألم، وها أنا أحاولُ أن أسددَ له الدَّين.

(2)

في هذا القطار، ذي المقاعد المتهالكة، والشبابيك التي تمتلئ بالقصائد ـ رغم أن الصدأ أكلها وضيّع الترابُ لونَها ـ لا يخجل اللص من نفسه أبداً، ولا تستطيع أنت أيّها المُثقف، أن تميّز الشيخَ المُتقي من بائع الكتب الدينية "السريِّح" الذي يدخن السجائر بين العربات، والذي يستمد بضاعتَه من التاجر نفسِهِ الذي يعمل لديه أيضاً شبابُ تجار الممنوعات في المنطقة، في توليفة ساحرة لا يمكن أن تجتمع أبداً إلا هنا، في هذا القطار العجيب، حيث تنسى نفسك أمام الوجوه التي نحتها الشقاء، من البائع سيئ الحظ، إلى العاملة التي فقدت إحدى عينيها في مستشفيات الحكومة، بينما كانت تُعالج من مرض في الأمعاء الغليظة، إلى الموظف التعِس، الذي فقد عمله بالقانون، وصرف مكافأة "نهاية خدمة" كلها، على "خمس عُلب صغيرة من الصيدلية" كل شهر.

في هذا القطار، لابدّ أن تلتقي العاهرة، وابن الطريق والفتاة التي يُمكن أن تحبها ذات يوم في مِقعد واحد، وهكذا يستطيع جميع الركاب أن يتبادلوا الحكايا، تماماً مثلما يفعلون دائماً في قطارات الضواحي، ومثلما أفعل أنا هنا بالضبط، حيث اجتهدتُ كثيراً لأكتب ما سمعته من آهات بأذنيّ من هؤلاء الضحايا، في القصائد، وذلك على سبيل رد الجميل، لا أكثر.

النساء هنا عجوزات بطريقة ما، مُصابات بأمراض مُستعصِية كثيرة ولا حصر لها، "الطُرَح" سوداء دائماً وملفوفة بإحكامٍ تام حول الرأس، تمنع خصلات شعر مليئة بالبثور من التنفس، كروشهنّ بارزة دوماً، ككرةٍ صغيرة تهتز، من تحت الجلاليب التي تمتلئ بالورود الذابلة، النساء في هذا الركن المتحرّك بهوادة بين البيوت، ولأسبابٍ كثيرةٍ، يعِشْنَ مَحنيّات وصارخات، ومُصابات بالفَزع، ولدى كل منهن، رغم كل ذلك قصة مؤثرة، عن القطارات التي لا تخلو أبداً من هؤلاء الوحوش الكواسر، الذين يفكرون في ارتكاب كل أنواع الحماقة مع أول امرأة يلتقيها أحدهم، حتى ولو كانت عجوزاً بائسة، تستقبل صباحَ يوم مُشرق، وهي تجلس بجوار "جوال بطاطس"، قرب نافذة مُحطمة لقطار لا يريد شيئا من هذه الدنيا، إلا أن يسير مختالاً بين الأشجار.

رأيتُ لصاً ذات مرّة، في هذا القطار، بأم عيني رأيته يدس أصابعه النحيلة ليسرق "المحفظة"، من جيب راكب يجلس أمامي، ساعتها استطعتُ أن أتأمّل أول عملية سرقة تدور فعلياً أمامي وفي وَضح النهار، كان ذلك شيئا مثيراً للانتباه، بحيث أتذكر هذه اللحظة الآن وأشعر كم كانت نبوءة مُدهشة يقدمها لي القطار، كهدية لا يمكن ردها، ولا يمكن نسيانها أبداً.

رأيتُ ذلك في عام 1995 تقريباً، وكانت الواقعة على النحو التالي: الرجل يجلس ناعساً وبجواره زوجته السمينة تغط في نومٍ عميق، يرتدي "جلابية" على الطراز "السعودي" الأبيض، ذي الجيب في الجزء العلوي من الصدر، هذا الجيب بدا منتفخاً بمحفظة كبيرة وعامرة، اللص القصير والنحيل تماماً ـ من كثرة العمليات ـ وقف في ردهة القطار، واختار الهدف، اقترب بدقة وبصق شيئا أسود من فمه على كتف الرجل، الذي يجلس ناعساً بجوار زوجته التي تغط في نوم عميق، اللص ادعى أنه يحاول أن ينظف الجزء المُتسخ بيديه، قبل أن يخطف ـ في لمح البصر ـ المحفظة، ويفر هارباً من باب القطار المفتوح إلى الرصيف المقابل، ثم يغادر المحطة كلها تائهاً وسط الشوارع، قبل أن ينتبه الضحية إلى كل ما حدث، مَرَّ قليلٌ من الوقت قبل أن يتحرّك الرجل من مِقعده ليلحق باللص، ساعتها تحرك القطار لسوء الحظ، حيث لم يكن أمام الرجل المسروق إلا الهُتاف من باب القطار، مودّعاً قروشه وأوراقه هاتفاً في البرية التي لا تسمعه:

ـ "حرامي.. حرامي"..

(3)

نظرةٌ واحدةٌ من نافذةِ هذا القطار، كفيلة برؤية البشر وهم يتحركون على طبيعتِهم في الشوارع المليئة بالبرك والكلاب، ورؤيتهم ـ على راحتهم ـ في البيوت الضيقة التي تفوح منها روائح الطعام الرخيص وتتلطخ جدرانها وشبابيكها وستائرها الداخلية، بما تبقى في الأصابع من زيوت، الرجال دائماً بالملابس الداخلية يطلون من الشرفات لكي يدخنوا، و"فوَط" الحمّام باهتة الألوان على أكتافهم العارية، بينما النساء جالسات في البالكونات وعلى سلالم البيوت وعلى العتبات وبين أصابعهن دائماً ما يستحق العمل.

نظرةٌ واحدةٌ من نافذة قطار مُتغطرس، يحلق عالياً فوق البيوت، تكشف ما في هذا العالم من عيوبٍ وعِبر، يُمكنك أن تشاهد أسرةً صغيرةً بكامل أفرادها تتحلق حول "طبق" واحد صغير، موضوع على "طبلية" خشبية مُتسخة، كأنهم يأكلون، أعترفُ أنني شاهدتُ جثثَ حيوانات كثيرة تطفو "مَنتفِخة" وهي تعوم لا إرادياً في مياه الترع والمصارف، من هذا القطار رأيتُ جنازاتٍ لا حصر لها، ودموعاً لانهائية وخدوداً حمراء من كثرة العويل واللطم، عرفتُ لماذا تعتبر مقابر كل قرية نهاية "حدودية" لوجود هذه القرية على الخريطة، حيث تبدأ حدود قرية جديدة، لتنتهي أيضاً بالمقابر، شاهدتُ أشجاراً مقطوعة تبول عليها الكلاب نهاراً ويبيت فيها البشر ليلاً، وتبدو كأنها تحقد على جارتها التي أزهرت توتاً يأكل منه الصغار وهم يعبرون، رأيت أنواعاً لا نهاية لها من الأرغفة، مُنتشرة في شوارع المدن، شاهدتُ المئات من عمال البناء والنجارين، يقفون حول عربات الأطعمة السريعة، في كل مكان، حزانى كما لو كانوا في جنازة، حيث تفوح أبخرة زيوت وشحوم مُحترقة، تجعل الجو العام مشحوناً بالمرارة، في طقس صيفي ساخن، يبدو وكأنه لا يعرف الشتاء، أعترف أنني شربتُ آلاماً كثيرةَ من نافذة هذا القطار، وأتمنى أن أسقي بها دائماً قصائدي.

استمتِعْ بإيقاع العجلات على القضبان و"الفلنكات"، وإياكَ أن تفزع من حشرةٍ بشرية تتسول بين العربات، تبدو كجسدٍ بشريّ نحيل يزحف، يُفترض أن نُفككه من بعضه أولاً لكي يبين كشاب أسمر لا يخلو من وسامة، لا تفزع من جلباب واسع مُتهرِّئ يتحرك على الأرض من دون أن تتبيَّن له رأساً من قدم، سوف يزحف بكل ما في الكلمة من معنى بين المقاعد ـ كخنفسةٍ كبيرةٍ ـ  قبل أن تتبين أن فمه القريب من الأرض، يجعل منه ممسحةً لا يمكنها أبداً أن تنظِّف، لأنّ لُعابه الذي يسيل دون إرادة منه، على وجهِهِ وملابسِهِ، يُلطّخ كل شيءٍ في هذا القطار، لعابُهُ يلطخ الذراعين الرفيعين كعيدان القصب، والساقين اللتين أصيبتا ذات يومٍ بعَطبٍ ما، جعلهما سيقان طفل لم يكتمل نموه لسبب ما، ولسبب ما أيضاً نبت فيها زغب ذكوري خفيف، جعل من وجوده ـ على ما يبدو ـ في هذا العالم، مجرَّد لعنةٍ أبديَّةٍ صغيرةْ، قذرة، وذات زغب في الوقت نفسه.

راكب هذا القطار، يعرف كيف يدرّب أذنيه على الأصوات الكثيرة المتداخلة، التي تأتيه من بعيد، يتعلم كيف يفرق بين شتات الخبط والغناء والعويل والشجار، الذي لا يخلو من سباب، حين يكون القطار في قمة سرعته وعجلاته تخترعُ إيقاعاً فجاً وشديد الرتابة، راكب هذا القطار لا شك سيفرق بين كل هذا ولحظات الهدوء الطويلة، حينما يكون القطار مضطراً للوقوف، في انتظار "المُقابل"، الذي لا يجيء في موعده أبداً، ساعتها سوف تسمع أمهاتٍ يصرخن على بناتهن من الشبابيك، وسترى اللعان تتحرك بأمان بين النوافذ، وربما سمعت أصواتاً موسيقية، تتمتع بعذوبة لا توصَف، وربما صادفت مثلي ذات مرة صوت هذا الشيخ المداح، ينبعث من جهاز مسجل تقليدي، وهو يقول:

"الدنيا دي مَدرَسة بتربّي اللي متربــــــــاش

تاخد من اللي يساوي وتدي اللي ما يسواش

واللي ما يوعى لنفسه تضيع حياته بـــــلاش

لو مالت الدنيا ياعمي أصبر ولا تلومهــاش

الدنيا دي غدارة على حالها متسنتنـــــــــاش

ياما فقير اغتني ياما غني صَبح مَلقــــــاش"..

 

(4)

 

يمرُ القطارُ على كثيرٍ من القصائد الواقعية في حقيقةِ الأمر، على "مصانع أسمنت" يفوح منها الغبار المسبب "للتحجُّر" في الجهاز التنفسي، يمر على ورشٍ ومقار عسكرية وشرطية، وعلى مخازن سلاح "هالِك"، من مخلفات الحروب، كما يمر على حقول قمح وشعير وملاعب بإضاءة ليلية و"مكامير فحم"، وعلى مساحات هائلة من أشجار "النخيل"، ومساحات أخرى من "التين الشوكي"، من نافذته سوف ترى عدداً لا نهائياً من الأبواب والأحجار والجبال، يعبرها القطار سريعاً للأسف، وسوف ترى كثيراً من النوافذ المفتوحة والمغلقة، والتي لا يجد المرء وقتاً ـ حتّى ـ لكي يُحبّها.

يمر قطار الضواحي على قصائد تحكي قصصَ هؤلاء الذين يعيشون داخل هذه البيوت، بعض "البالكونات" ليس فيها سوى "عجلات" صغيرة لطفل غائبٍ، بعضها يحمل قصيدةً على هيئة ملابس مُعلقة في حبل غسيل أنيق، رتَّبته سيدةُ البيتِ الشابة، بحيث تضع في الصدارةِ الملابس الداخلية للأولاد الذكور، بيضاء وناصعة إلى جوار الملابس الداخلية للزوج، وفي الخلف، لا تظهر الملابس النسائية القليلة المُلونة، لكن يمكنني أن أتوقَّع نعومتها وألوانها بسهولةٍ، كلما جلستُ وحيداً ونظرتُ من نافذة القطار.

ركبتُ قطاراتٍ كثيرةً في حياتي من أجل الشعر، لقد كان قطار "المرج" رفيقاً عميق التأثير في كل ما رأيت بعد ذلك من قطارات، ركبتها في مصر وفي السودان ـ التي زرتها في أبريل 2010 ـ ثم مؤخراً في فرنسا التي زرتها 2015، خصوصاً في محطة "شارل ديغول" للقطارات، التي تنطلق من نقطة تحت العاصمة الفرنسية باريس، إلى الجنوب الفرنسي، لقد كان قطاري الفرنسي لامعاً ويحمل عبارة "ممنوع التدخين" في كل العربات، لكنه كان حقاً قطاراً لامعاً، كل شيء فيه يمكن أن ترى فيه وجهَك بوضوح، الزجاجُ الذي يعرض ملايين الأراضي المثمرة والخضراء، والمقاعد والمناضد المضاءة بالمصابيح الصغيرة المطلة من فوقك كأنك في "بار" قديم، حتى فخذ المرأة الخمسينية الرشيقة، التي تجلس أمامك في المقعد المقابل، وهي تقرأ كتاباً واضعةً فخذاً على فخذ، وتنظر باحتقار إلى مواطن من العالم الثالث، كان يُمكن لهذا الفخذ ـ بطريقة ما ـ أن ترى فيه وجهَك، من كثرة لمعان البشرة، المدهونة بأرقى أنواع الكريمات.

في كل هذه الرحلات إلى البلاد البعيدة، كنتُ أتذكر قطار "المرج"، خصوصاً حين يغضب ويقتل وتسيل الدماء من شبابيكه وأبوابه ومَقاعدِهِ، ففي مصر كانت القطارات دائماً مصدراً من مصادر الحزن ومخزناً من "مخازن الضحايا"، فحين يغضب واحد من قطارات الضواحي، لا يُمكن لأحدٍ أن يتخيل الشيطان الذي يركبه، وهو يكتسح البيوت ويجرفها بالأطفال والنساء ومقاعد الحمامات، إلى مكان آخر، لا يمكن لواحد مثلي أن ينسى أبداً أنه استيقظ ذات صباح ليجد القطار المهووس وقد دخل بالفعل إلى الشوارع وفتح بعض الدكاكين وتجول في غرف النوم، واستقر جزء من مقدمته مهشم الملامح، داخل أحد دواليب الملابس، في بيتٍ قريبٍ من محطة القطار، هذا القطار المهووس بالذات ظل جرَّاره "كُهنة" ملقاة بإهمالٍ على جانب المحطة، لعشرات السنين، إلى أن جاء اليوم الذي اختفى فيه، وبدا كأن الحكومة تخلصت ـ أخيراً ـ من إحدى عاهاتها "الحديدية" الحمقاء.

 (5)

علمني هذا القطار، أن صورَ الذين تركتُهم يتسولون لقمتهم من تراب هذا العالم وغبارهِ، أكثر بكثير من صور الذين رأيتهم ينامون سعداء، كل يوم، ببطون شبعانة، الباعة هنا دائماً أكثر عدداً من المُشترين، مَن يهربون من مُحصل التذاكر، أكثر من الذين يتقدمون إليه بقروشهم طواعيةً أو عن طيب خاطر، المصابون والحمقى والأذلاء، أكثر بكثير من الأذكياء والقادرين على الوصول إلى أهدافهم، المتواطئون أكثر من الأبرياء، والكل ـ رغم ذلك ـ يصل إلى محطته الأخيرة، سعيداً بسلامة الوصول.

علّمني هذا القطار أن الوصول إلى المحطة الأخيرة ليس دائماً نهاية المطاف، وأن أصبر على قطارٍ بطيء، قد يطول مشواره لعدة أعوام، وألا أتعجّل النتائج، علمني ألا أنسى قطاراً ركبته ذات يوم، لأنه سوف يأتي يومٌ ويحمل النهرُ جثة عدوي إلى هنا، خصوصاً النهر الذي يعبره هذا القطار مسرعاً، بينما في الأسفل، تحتجز الرافعات الحديدية للقضبان، جثث الظَلمة والمستبدين والأبرياء معاً مُنتفخةً، في مياه الترع والمَصارف، ورائحتها تزكم الأنوف، وكثيراً ما حدث ذلك ـ بكل أسف ـ في الواقع وفي القصائد أيضاً.

 

  • نُشر الفصل الأول من السيرة بعنوان "شرفة تطل على شارع ضيق" في مجلة "نزوى" العمانية عدد 89 يناير 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.