}

حين ارتدى شهريار ربطة عنق

ريمة راعي 12 أكتوبر 2017
قص حين ارتدى شهريار ربطة عنق
لوحة الفنانة المصرية شيماء عزيز

 

ريمة راعي

حدث في الليلة الأربعين، أنّ شهريار راح يتنهد بسأم بينما ينصت لشهرزاد الجالسة قرب قدميه، مستغرقة في سرد طقوس اقتران أميرة من الجان بفارس من الإنس.

وكان شهريار قد قرأ في صحف الصباح عن جماعة من المرتزقة يقنعون ضحاياهم بوجود العفاريت والجان، ويدّعون قدرتهم على التواصل مع هذه المخلوقات الخرافية، وأكد كاتب المقال أن هذه طريقة للاحتيال على الأناس البسطاء كي لا يفكّروا بالبحث حولهم عن أسباب تعاستهم وفشلهم، فيلصقون التهم بهؤلاء العفاريت الأبرياء!

وفي المجلّة، التي اشتراها شهريار منذ أيام من المكتبة المجاورة لقصره، قرأ تحقيقاً صحفياً حول سباق للسيارات، وردت ضمنه إشارة سريعة حول الفرسان، الذين انقرضوا منذ وقت طويل، لأنّ الفارس يحتاج لفرس، والخيول قد شاخت وأعُدمت منذ دهور، واستبدلت بسيارات لكلّ منها أربع عجلات ومقود، يركبها رجال لا يطلقون لحاهم إلا في مواسم الحداد!

وحين صاح الديك، راحت شهرزاد تراقب، بكثير من الضيق، شهريار الذي كان حليق الذقن، ومنهمكا، كما الممسوس، في قراءة الجرائد والمجلات. كانت ترغب بأن تصيح به لتذكره بأنّ حكاياتها أفضل بمرات من كلام مكتوب بحبر أسود من دون حب أو طقوس، لكنها ظلت تراقبه بصمت.

وحين غابت الشمس، وحان موعد الحكاية، ارتدت شهرزاد ثوب حرير مطرزا بخيوط ذهبية، وبدأت تعدّ طقوس ليلتها بحرص عرافة:

 وضعت في كل ركن شمعات صدفيّة اللون توحي بوجود قمر ما، وضمخت السجّادة بعطر شرقي باذخ، وألقت عليها، بلا مبالاة متعمدة، وسائد حريريّة محشوّة بريش النعام.

وبعدما انتهى شهريار من متابعة مسلسله اليومي، جلس قرب شهرزاد، التي انتظرته طويلاً بصبر امرأة، وراح يستمع إليها بأذنين ذابلتين.

وحين صاح الديك في ذلك الصباح، كان شهريار غارقاً في أحلام سريّة، وشهرزاد تهذي بحكاية عن فرس أصيلة عثر عليها رجل مهلهل الثياب، فعصب عينيها، ووضع على ظهرها الأملس سرجاً، وأكياساً ثقيلة مملؤة قمحاً وشعيراً.
 
ومنذ تلك الليلة اعتادت شهرزاد أن تحكي لعينيها في المرآة قصصاً مشوّشة على صوت أنفاس شهريار المنتظمة. وعندما تخرّشت حنجرتها، وصار صوتها كالصدى، راحت تكتب حكاياتها على أوراق بيضاء تشبه أذناً ما، وحين يصيح الديك تضع رأسها المبلبلة الأفكار على وسادتها، وتنام، بينما يقفز شهريار من السرير، وهو يصفر ألحاناً مرحة.

وخلال التسعمائة والستين ليلة، التي تلت تلك الليلة، أصبحت شهرزاد شبحاً مسربلاً بالحرير، فالليالي التي اعتصرت وحدتها كانت كريمة معها، فتركت في بشرتها الرقيقة رماد حريق، ووشمت شفتيها بارتجافة ذعر. في حين حسّن النوم باكراً من مزاج شهريار، وبات يصحو باسماً، ومتحمساً ليحيط عنقه بربطات مزركشة، يسافر إلى مدن أخرى لشرائها، و يتغاضى عن الشعور الدائم بالاختناق الذي تسببه له، لقاء بهجة الابتسامات، التي تنثرها عليه نساء عابرات.

أما شهرزاد فقد استقبلت بصمت الصحفيّين وأصحاب دور النشر، الذين أتوا من أصقاع  الأرض للحصول على المجلد السحري السميك، الذي كُتبت فيه حكايات ألف ليلة وليلة (كما سمتها).

ولم تستطع شهرزاد أن تخبر أصحاب العيون المتّسعة أنّ الليالي ناقصة، فقد عجزت عن تذكّر الحكايات التي جعلت شهريار يجلس قربها كطفل وادع، ويسهران حتّى الفجر أربعين ليلة، ولم تعد تذكر إن كانت قصصها تلك محزنة أم مبهجة، لكنّها تذكر جيّداً قصصها، التي حكتها لنفسها في ليالي الوحدة الشاحبة.

وبعد أن غادر الجميع، سجنت شهرزاد نفسها في مخدعها، وأقسمت ألا تغادره حتّى تذكر حكاياتها القديمة، التي كانت تجعل شهريار ينصت لعينيها اللتين كانتا ذات يوم تملكان لوناً، ويصدّق، دون هواجس أو أسئلة، أنّ هذا العالم الضيق يتسع للفرسان والجنيات وملاحم الحب.

مقالات اخرى للكاتب

قص
20 نوفمبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.