}

الألم بوصفه متّهماً

عمران عز الدين 7 أبريل 2015
قص الألم بوصفه متّهماً
لوحة للفنانة ريم الجندي
ـ 1 ـ

يُحكى أن الألمَ تجوّل، ذات بؤس مدقع، بين المحلات والمطاعم والمتنزهات، ثمّ ذرف آخر دمعتين من عينيه، وغادر مسقط رأسه، إلى حيث اللا وجهة!
بينما كان يسير الهوينى، ذليلاً، منكّس الرأس، في الطريق، داهمته دورية أمن، واقتادته إلى السجن.
في صباح اليوم التالي، مَثُلَ الألم، بين يدي ضابط مكرش، يتدلى شاربه، وسأله على مضض:
ـ لماذا تود الهجرة؟ ثمّ أردف مستفهماً، من دون أن ينتظر منه جواباً:
ـ أنت تسيء إلى سمعة البلد بتصرفك الأرعن هذا!
ـ أنا أتألم.
ـ وما ذنبنا إذا كان والدك قد اختار لك هذا الاسم؟
ـ الذنب ليس ذنبه، بل ذنب جدي الأكبر.
ـ كيف؟
ـ كان جدي الأكبر ـ حسب رواية والدي ـ منبوذاً، مهمّشاً، ومقصيّاً، لذلك سمّاني والدي بهذا الاسم.
ـ انتبه... فهذا اعتراف صريح منك بأنك تتعرّض، في عهدنا، للنبذ والتهميش والإقصاء.
ـ لكنني أتألم.

أُحيلت بعد ذلك أوراق الألم إلى القاضي:
ـ هل تعلم أن جرمك هذا لا يقلُّ في شيء عن جرم المتهم بالخيانة العظمى؟
ـ لكنني عبرّت عن ألمي فقط.
ـ هذا يتنافى، يا مواطن، مع بنود حرية التعبير، المخولة لأمثالك.
ـ .........
ـ لا تلُذ بصمت الأغبياء، فهذا لن يفيدك في شيء.
ـ وأين هي حرية التعبير التي تتحدثون عنها؟
ـ اخرس يا خائن!
ـ .........
ـ ثمّ ما الضير، إذا تألمتَ في حياتك، ليسعد الآخرون؟ وأردف:
ـ أنت ـ وللأسف ـ مواطن غير صالح.
ـ أنا.....؟!
بعد أن تمّت إحالة ما جاء في ضبط الألم، إلى فضيلة المفتي العام، قرّر هذا بدوره ما يلي:
ـ يحكم على الألم بالرجم حتى الموت، أمام ذويه وصحبه وخلانه.

….. ثم جاءت أناس تتألم حتّى الوريد، لكن من دون أن تجسرَ، على اعتراف، أو حتى تذمّر.

ـ 2 ـ

تمّ اعتقالي منذ سنتين بتهمةِ سلخِ جزءٍ من أرض الوطن وضمّه إلى دولة أجنبيّة، وهذه تهمة، حقيقةً، بل هي خيانة كبرى، لكنني يقيناً لم أقترفها، فأنا لستُ مجنداً. أنا فاشلٌ، لا أجيد إلا الكتابة عن الحشرات والضفادع والسناجب والثيران والأموات والنمل والقمل والكوابيس والترّهات والهلوسات والقرود. نعم القرود أخيراً.
وبعد ألف رعبٍ ورعبٍ، زُجّ بي في غرفةٍ مُعتمةٍ، ولما طال انتظاري، رجوتُ الحارسَ إخباري أنْ متى سَأُستجوب، فوثب نحوي مثل ثورٍ هائجٍ، ثمّ رفس ـ من دون رحمة ـ بطني بكعب قرنه.. عفواً بكعب رجله.
مثل منتصرٍ، في حربٍ ضروسٍ، عادَ الحارسُ إلى مكانه، ثمّ قفل راجعاً، واقتادني إلى مكتبٍ وثيرٍ، به ضابطٌ قصيرٌ، ومُكرش. الضّابط القصير والمُكرش، لم يستوجبني، بل غافلني، بعد صمتٍ رهيبٍ ونظراتٍ حاقدةٍ، بصفعةٍ، زلزلت أسناني، وطرطشت الدمَ من أنفي وفمي. ارتعشت أصابع ذلك الضابط بشكلٍ غريبٍ، فلاذَ بأقرب كرسيٍّ، تهالكَ عليه، ثمّ سحب ـ لاهثَ الأنفاس ـ من جيب سترته علبة دواء، لم يتمكّن من فتحها، فسحبتُ العلبة من بين يديه، فتحتها، وناولتهُ حبة من ذلك الدواء، ثمّ سقيتهُ كأس الماء، وعدتُ إلى مكاني. بعد برهةٍ، متحسّراً، بَحلقَ الضّابط في أصابعي، وصرخ، مشيراً بعينيهِ إلى الباب الحديديّ المُصفد: انصرفْ يا قررررد!

ـ 3 ـ

وأنت في البيت، بيتك المتداعي، أنت بين أطفالك، أطفالك البائسين، تشعر بالإهانة، حتّى وأنت في عملك، أو في المقهى، وبين الأصدقاء، أو في الباص، تفرمك الإهانة. تشعر بها، وأنت تتثاءب، تشعر بها، وأنت تكشّ الذباب عن صفحة وجهك، في باحة المدرسة، لأداء تحية العلم. وأنت تتأمّل المرآة، أو صورة المجنّد الذي كنته، تشعر بها. تشعر بها، على الرغم، من أنك، كنت ذات واجبٍ، مقدسٍ، متأبطاً سلاحك، لتصرعَ عدواً طامعاً في أرض الوطن.
مضى على حالتك هذه، زمن طويل، ولم تتغيّر، حتى أنك لم تعد تمارس هواية الرّسم، المحبّبة إليك.
ما الذي تنتظره؟!
ارسم.. اكتب.. اقرأ.. اصرخ.
ثرْ على نفسك ومن حولك.
وعلى مضض، حمل أدوات الرسم، ثمّ توجه إلى مرسمه، الذي اغبرّ بعد اعتكاف، انقطاع، فرسم فأراً متهدّل الشّارب، وكتب تحته ـ أسفل اللوحة تماماً ـ مُهان.
خرج بعد ذلك من المرسم، لكنه سرعان ما استجمع بقايا شجاعته المُنْتَهَكَة، وعاد إليه ثانيةً، ثمّ بصق في تلك اللوحة، بصقةً كبيرةً، إيذاناً بمرحلةٍ جديدةٍ.

ـ 4 ـ

كلّ ما في الأمر، أن قريباً لي، شيوعياً، كان يدعوني في مناسبة وأخرى، لأشاركَ معهم، بخربشات، كنت أقوم بتدبيجها. قريبي هذا، كان رجلاً قيادياً، وإذا أمطرت في بلاد ماركس، سَارعَ إلى مظلّته تضامناً. كان يثني عليّ، وعلى قصصي قائلاً:
- قصصك ملفتة يا رفيق، وجمهورنا يحبك.
كنت لا أتوانى عن القول، دائماً، إن ما أكتبه لا يعدو أن يكون إلا هراء. كان يضحك ملء شدقيه، وكان يحرجني، بأن يلحّ على حضوري. ضجرتُ، حقيقةً، من تلك الدعوات الممطرة، التي كانت تقتصر، في أُسّها العميق، على الاحتفاء بحرب تشرين، وثورة الثامن من آذار، والحركة التصحيحية، أكثر من الاحتفاء بمناسباتهم، وأعيادهم!. كنتُ أقرف من رؤية كأس العرق، وصحن البيض المقلي، في نهاية السهرة، وأنأى عنهما قدر الإمكان. كنت أتحجج، بأنني أستمتع بالعرق أكثر، عندما يرتشفه غيري، وأن البيض المقلي لا تتقنه إلا أمي.
مرّة، في حوش بيت أحد القياديين، وأنا أقرأ قصة لي أمامهم، توقفتُ عن القراءة فجأة، حتى أنهى المؤذن الأذان الذي كان قد صدح به، وقبل أن أواصلَ القراءة ثانية، تمتمت ببعضٍ من التعاويذ التي لا أعلم، حقيقةً، كيف ومتى وأين حفظتها، ارتجلتها مغمغماً، ثمّ واصلت القراءة من جديد.
أجزم الآن أنهم تيقّنوا صدقَ كلامي، من أنني لا أكتب سوى هراء. وما أكد هذا الزعم لهم، قرفي الكبير من كأس العرق، وصحن البيض المقلي.
وهكذا.. لم أُدْعَ منذ ذلك اليوم، للمشاركة في مناسباتهم.
ـ هاااااي ماركس.. هل كلّ شيءٍ على ما يرام!؟

ـ 5 ـ

المرّة الأولى التي استلمَ فيها عبد الباقي شيكاً من إحدى المسابقات غيّرت حياته تماماً، إذ أعرس، وتزوج الفتاة التي كان يحبها.. "بَرْوَزَ" ذلك الشيك، ثمّ علّقه على الحائط، في صدر غرفة الاستقبال. وكان كلّ من يزوره، يستفسر عن تلك الصورة، فكانت زوجته تتبختر، وهي تضع ساقًا على ساق:
ـ "هذه صورة عن الشيك، الذي استلمه زوجي مكافأةً عن فوزه بجائزة أدبية". ثمّ تردف للضيوف، وهي ترتشف قهوتها:
"زوجي كاتب كبير، وسيفوز يوماً ما بجائزة جوكر!".

منذ يومين، استلمَ شيكًا آخر، وما بين الشيك الأوّل والأخير، استلمَ العشرات من تلك الشيكات. قصة هذا الشيك الأخير مختلفة جداً، فلم يقبل أي بنك سوري، أو أي تاجر، أن يصرفه له، بسبب العقوبات المفروضة على البنوك السوريّة من جهة، واتهام الريال السعوديّ بما يحدث في الأراضي السوريّة من جهة أخرى، لكنهم نصحوه أن يقوم بصرفه في لبنان أو تركيا!. قيمة هذا الشيك 672 ريالاً سعودياً، أي ما يعادل 200 دولار، وبالليرة السورية يقدّر بـ10000 آلاف ليرة سورية تقريباً.
زوجة الرجل المهم متحمسة للسفر، لكنها لا تعلم أن الشيك لا يكفي ثمناً لتذكرة، فكيف بتذكرتين!؟

مقالات اخرى للكاتب

قص
27 أبريل 2019
قص
4 أبريل 2019
قص
25 فبراير 2019
قص
7 أبريل 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.