}

جنود الخرافة

عزيز تبسي 26 يناير 2017
-1-


لم يعد أحد يكترث بعناصر العالم المحيط، لا بجدوى الكراسات التي لا تزال تباع على الأرصفة، تحت عنوان تعلم الإنكليزية أو الفرنسية أو غيرهما من اللغات بسبعة أيام من دون معلم. لا من يبيعها الذي يعلم أن المشترين لن يتعلموا الإنكليزية لا بسبعة أيام ولا بسبع سنوات، لأنهم لا يحسنون تهجئة العربية التي شرحت بها وكتبت بحروفها الكلمات التعليمية، ولا المشترون المدركون أنهم سينسون ما سيتعلمونه، كما نسوا قبلها معارف أكثر أهمية من اللغة الأجنبية، بأيام أقل من عدد الأيام السبع، ومن دون معلم أيضاً.

ولم يعد أحد يتفحص حدود الدقة في شعار:الشعب يريد إسقاط النظام، الذي انتقل مع مرور الزمن إلى حقل المجازات اللغوية، لا لأنه لم يبق شعب فحسب، بل لأنه لم يعد هناك نظام. أفقدت الوقائع الشعار معناه، واستولت على فراغ المعنى حشود من أجهزة المخابرات.. توهم من يصغي إلى إعلامها أنها تعمل بمثابرة على إسقاط أنظمة وتأديب أخرى، وتقويم اعوجاج ثالثة. وأن عملها هذا جزء من واجباتها العديدة كتقليم أظافر أنظمة، وتصفيف شعر أخرى.. فيحصل ربما عن غير قصد إسقاط للدول والمجتمعات.. والإبقاء على الأسوأ والأقبح فيها: القوة العارية للتوحش، بمواجهة جماعات منهكة وعزلاء.

ولم يعد يسأل عن آخر أسعار المشاركة بالتظاهرات، أحافظت على سعرها القديم خمسمائة ليرة وصندويشة فلافل، أم ارتفعت مع ارتفاع تكاليف المعيشة والمجازفات القاتلة، بعدما بات يقتل الناس بمصادفات تشبه القوانين، في طريقهم لشراء الخبز أو بفسحة الراحة داخل باحة المدرسة، أو أثناء تناول الطعام في بيوتهم مع أسرهم... ولا عن آخر مزاد وصلت إليها الكتيبة المقاتلة وعن جواز تعاقدها بمقاتلين أجانب، أسوة بالفرق الرياضية لتجويد أدائها وتمكينها من المنافسة على البطولات. ولم يعد أحد ينظر إلى الأعلى، ليرى من سيشق طريقه إلى الجنة: الانغماسي الذي اقتحم المسجد بحزامه المتفجر، أم المصلون الذين تحولوا إلى لهيب؟

يمكن التنبه الاضطراري للأصوات التي تأتي ملهوفة متعجلة واعظة، بعد ولوج الأزقة المعزولة والهادئة بقصد الاحتماء من القذائف، حيث يتصاعد الكلام المرسل من أجهزة المذياع والتلفاز...عن التكتيكات الحربية لمواجهة الجراثيم على سبيل المثال والنية تطبيقها على غيرها. عن أجهزة المخابرات في الدول المريضة التي تبتلع حبوب الدواء قبل ساعة من موعدها لمفاجئة الجراثيم الغافلة، بينما تؤثر أجهزة مخابرات لدول مريضة أخرى، ابتلاع حبوب الدواء بعد ساعة من موعدها، في منهج حاذق للتلاعب بأعصاب الجراثيم المتحفزة، قبل الإجهاز عليها.

على المسرنم في هذه الأزقة المتقاطعة مع بعضها، التهيؤ لتقبل ما تأتي به الوقائع التي لا تبقي إلا الترقب المذعور، وميراث السخرية بالكلمات، بعد تقليب مواجع حروفها، لتبين الحقيقة المهيضة الجناح تترنح دائخة بين: مكافحة الإرهاب ومصافحة الإرهاب.
والتأمل في الكتابات الرخوة لمن عجزوا عن وضع حدود سلوكية ورقابية ومحاسبية على الجماعات الدائمة العضوية في الحكم والمعارضة، بعد تحفزهم البلاغي، عن جد لا عن هزل،  لمحاسبة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وتقريع مجتمع افتراضي، لا وجود له لا على الأرض ولا في السماء، أطلقوا عليه اسم: المجتمع الدولي.

والاستفسار عن الكيفيات التي ستؤول إليها المشاركة بأغنية "جنة يا وطننا"، التي ابتكرت في زمن، لمواساة شظف العيش في لهيب جهنم بعد وصول غير متوقع إلى روابي "الجنة".


-2-



يحتاجون وقتاً يشبّه دوماً بالذهب، لتفحص اختبارات المبادرة، أي الإمكانات التي لا تزال بحيازة جماعات وطنية - علمانية، من الرجال والنساء، الذين واللواتي تقصفت أعمارهم في السجون، والاستدعاءات الدورية إلى أفرع المخابرات، ولم يعقهم ذلك عن المشاركة في التظاهرات والندوات والحوارات، وولجوا إلى قلب الفعل، محملين بأكياس أدويتهم، بحبوب تخفيض الضغط، وضبط جموح السكر، وتخفيف أوجاع العظام.

تشكل إعاقة لاندفاعات جنونية لفاشيات تحمل سمتين كارثيتين، كافيتين لحرق الأخضر واليابس في الأوطان والشعوب: العنصرية بتعييناتها المحلية، والتبعية للخارج تتهاوى إلى درك العمالة.
لا إعاقة بالمعنى العسكري...فهذه مهمة شاقة، تدخلها في باب المستحيلات لأناس لم يمتلكوا الرصاص واكتفوا بالأقلام الدالة عليه، بل إعاقة بالحدود الفكرية والأيديولوجية، تفكيك أقوالها، كشف أكاذيبها، الرد على تخرصاتها.
عجز عن الحوار لا لنقص لغوي، أو المهارات السجالية، بل لغياب أي مشتركات، يمكن اعتمادها لتأسيس حوار. خلاف على التاريخ القريب والبعيد، خلاف على أنظمة الاحتلال المتعاقبة، والأنظمة التي أعقبتها، على موقع الدين والثقافة الشفهية والمدونة في صياغة الهوية الوطنية. خلاف على مفهوم السلطة، على الدولة، على معنى الشعب، على قيم ومعايير الدستور، على الجيش والشرطة وأجهزة الأمن، على المعايير التي تحدد الأغلبية والأقلية، على الحقوق والواجبات، على معنى المواطنة، على حقوق المرأة ودورها.

خلاف على أن تكون في موقع الثورة في جغرافيا، وموقع الثورة المضادة في جغرافيا أخرى، على مناصرة الأقلية في بلد والتحريض على إبادتها في بلد آخر، على تسويغ الاستعانة بدول وجيوش وأجهزة مخابرات لجماعة، وإنكارها على جماعة أخرى، على وظائف اللباس وقيمة الطعام والأغاني والثقافة، على ما تبقى من معنى للكلام عن الثورة بعد كل هذه الخلافات.

يبقى غياب البدائل الملموسة هو الأرض الخصبة لإنطلاق هذه الجماعات، وجل أفاعيلها صبت بوعي أو بغيابه، في المجرى الذي يؤبد الجماعات الحاكمة، ويعيد إنتاج العدم، ويدفعه إلى مواقع أشد عدمية.

الطرقات ليست طويلة، لكنها مربكة بعتمتها وحواجزها وغياب الناس عنها. والبيوت ليست بعيدة، ويمكن الوصول إليها من دون إجهاد. ضاقت المدينة وخفتت أنوارها وضجيجها. اختنق شهيق الحياة في رئتيها، كأنها مترددة بين النوم واليقظة، بين النهوض والاستلقاء.

وإن كانت أسئلة السياسة مكربة وشائكة تحتاج لصفاء ذهن وتخفيف صوت المذياع والقذائف ليسمع المتحاورون كلام بعضهم، فتبقى لأهلها أسئلة الحياة، كاستخلاصهم المتأني لروح الزهور من جوف دوارق رابضة على نار لا تنطفئ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.