}

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الروسي جوزيف برودسكي

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 4 فبراير 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الروسي جوزيف برودسكي
جوزيف برودسكي (24 مايو 1940 - 28 يناير 1996)(Getty)

لم نكن نعلم أنه كان مغرماً بالقطط، ولو أدركنا ذلك بشكل مبكر، لكنا أخذنا معنا في البريد السماوي مجموعة من القطط، ليختار منها القطة التي تعجبهُ. إلا أن الشاعر الروسي، جوزيف برودسكي، كان في عالم آخر غير عالم الحيوانات، المتوحشة منها، أو الأليفة.
وفي غمرة انهماكنا بالوصول إلى الشاعر، قررنا العمل على تتبع آثار روحه التي صعدت من مقبرة سان ميشيل الإيطالية في مدينة البندقية إلى السماوات، حيث دُفن هناك.
وما إن وجدناه في انتظارنا على حافة الهاوية المطلة على وادي الجحيم، برفقة حيوان "الكوباكي"، حتى أدركنا أننا أمام مأزق قاتل. إذ كيف يمكن أن نجري حوار بريد السماء الافتراضي مع شاعر يقف على حافة الكون؟ إلا أن جوزيف برودسكي سرعان ما كسرَ حيرتنا، عندما تخلى عن حيوانه المخيف، وتقدم نحونا وهو يحمل زجاجة من شراب الفودكا قائلاً: إنها لذّة الكحول التي ستجعل الحوار طريّاً من دون عقبات.
آنذاك.. وبعدما فعلت الكؤوسُ فعلتها في الأنفس، طرحنا على الشاعر السؤال الأول قائلين:


(*) أي شارع في لينينغراد كنت تحب؟
شارع الهوى.

(*) وهل كان شارعاً بلا أرصفة كما رأيت؟
نحن نخلق للشعر شوارعنا الخاصة، كي نتمتع بملاحقة الثعالب لأرانب الأفئدة.

 

(*) ولكن روسيا كانت تُضيّق عليكم شوارعها وحاناتها بالسياسة في عصر ما بعد ستالين. أليس كذلك؟
كان مخبرو جهاز KGB يُضيّقون الأمكنة على الأرض، فيما نحن نوسّعُ النصوصَ على الورق.

(*) كيف ترى العلاقة ما بين الورق والأرض؟
إنها أفضل العلائق الجدلية ما بين اثنين: فالورقُ هو الابن الحنون لتربة الأرض. لقد كان شجرةً، وهاجر من الغابة من أجلنا.

 

(*) من أجل أن تُدوّنوا عليه مخاوفكم وهواجسكم ومشاعركم المحطمة.
أجل. شيء من هذا القبيل، فالورقُ في أثناء الكتابة، لا أشعر به أنا إلا حاضنةً كتومةً تحرسُ

حطامنا الداخلي، وتحرصُ على عدم أن نفيض بممتلكاتنا الأدبية إلى الخارج.

(*) تقصد أن الورقَ كان يحمي الشاعرَ المناوئ من السلطة؟
بالضبط. حتى إن روسيا في الزمن السوفييتي كانت من أضخم عنابر العالم لإخفاء الورق عن أعين أجهزة أمن الدولة الذائبة في حضن الحزب.

 

(*) لماذا؟
لأن كلّ ما كان يُكتب يذهب للاختباء في الأقبية، أو تحت الأرض، خوفاً من المخابرات والبوليس السريّ.


(*)
ولكن الورق ذاك، سرعان ما فضحك، وأودعك السجن للمرة الأولى، عندما زج بك في السجن، وحكم عليك بالنفي مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة أعوام، بتهمة التطفل على الأدب. أليس ذلك صحيحاً؟
أجل. ولكن سجني لم يستمر طويلاً. فبعد قضاء 18 شهراً تم إطلاق سراحي نتيجة احتجاجات الكتّاب والشعراء الروس.

(*) لمَ تعتقد أن السجون أمكنة مزعجة ومرفوضة؟ ألا تليق بكتابة المؤلفات العظيمة المناوئة للقمع والاستلاب والقهر، وربما تكون أفضل بذلك من المقاهي والبيوت والمكتبات؟
قد يوافقُ البعض على هذا الطرح. ولكن احتجاج النصوص سيكون على وجبات الطعام السيئة. فإذا كان الورقُ هو الحاسة السادسة للشاعر، فمن الجريمة بمكان أن تُقدم إليها وجبات من الأطعمة الفاسدة ناقصة المعادن والأوكسجين وألبومات المخيّلة.

(*) وهل يتغذى الورقُ. وعلى ماذا في رأي جوزيف برودسكي؟!
أجل. فهو ابن الشمس والهواء الطلق، وحاضنات الطير، وراديوهات الأنغام في الغابات. إنه

يستعيد حياته القديمة، ليحصل على طاقاته من التركيب الضوئي للغة الشعر وتصاويرها المخبأة في الباطن العميق للمخيّلة.

(*) منْ يمارسُ الضغطَ على منْ. الشاعرُ على المخيّلة، أم العكس؟
هما مثل جهنم، لا تعرفُ النارَ فيها من الحطب.

(*) قيلَ إن قصائدك هُرِبت ورقاً عبر الحدود، فتم طبعها في كتابين شعريين: "قصائد"، و"محطة في الصحراء". ما رؤيتك لقصائد تُهرّب للنشر حول العالم، ولشاعرٍ يبقى حبيساً ورهينةً في قفص؟
لا يمكن لكائن من كان إزاحة روسيا من مناطق نفوذها في عموم جسدي قيد أنملة، بدءاً من الرأس وحتى القدم الذي أمشي به، وما زلت، حتى هنا. قصائدي التي تم تهريبها قديماً إلى الخارج، مع عشرات المخطوطات لشعراء روس وروائيين، كانت إعلاناً عن وجود ثورة أدبية روسية تضاهي ما كان يوجد في الغرب.


(*) حتى في السموات، ما زلت تمشي بقدميك الروسيين نفسهما يا جوزيف؟
أجل. وكذلك فأنا استخدمُ حتى برد روسيا السّوفييتية في مواجهة جهنم السماء، وجميع مواقد النيران المنتشرة هنا وهناك.

(*) هل يستعملُ الشيوعيون الأقنعة في الآخرة خوفاً من يوم الحساب؟
أبداً، لا. فالاشتراكية في الآخرة مطلب أيديولوجي ربانيّ.

(*) هل الإيمان هو الأيديولوجية الوحيدة عند الله؟
ما إن وضعتُ قدميّ هنا، حتى قيل لي بأن الله العارف لا يدركهُ إيمانٌ غير إيمان العارفين من العشاق.

 

(*) والشعراء. أية منزلة عند الربّ ينزلون؟
منزلةُ الجَمالِ على أول سطرٍ من الشغف الإلهيّ.

(*) هل ثمة اختلاف ما بين نظرة الله للجمال، وما بين نظريات الجمال، أو الإستاطيقا، عند فلاسفة الأرض؟
لم أعرف ذلك حتى الآن، إلا أن الجمال المدعوم من الربّ نصٌ بثنائية أنثوية - ذكورية مكتملة اللذّة بنيوياً، وقد لا تفسد كنظرية في اللغة، ولا كجسدين في حوض للتناغم العاطفي للنكاح الحُوْرَاني حسبما ورد في الكتاب.

(*) وأنتَ. كيف كنت مع نساء الأرض؟
كنتُ مثل مدينة أفرغتها الزلازلُ من سكانها بالضبط.

 

(*) تقصدُ أنك تزوجتَ بالعدم بشكل مبكر من حياتك يا جوزيف؟
لا يمكنني الاعتراف بذلك. فقد سبق لي أن أتلفت قلبي بنساء أوصلني غرامي بهنّ إلى المشرحة، وذلك عندما تكررت الجلطاتُ، وصولاً إلى عملية القلب المفتوح.

(*) وهل أخبرك الأطباء بما رأوا في قلبك؟
أجل. أخبروني بأنني أملكُ ضريحاً تنوح حوله النساء، وليس قلباً لأغراض البيولوجيا المتعارف عليها عند البشر.

 

(*) هل كنت معادياً للإناث؟
لا. لم أكن كذلك، وإلا كيف أصبحت شاعراً.

 

(*) وهل ليكون المرءُ شاعراً يستوجب عليه أن يكون عاشقاً على سبيل المثال؟
الخريطة الجينية هي التي تحددُ ذلك وتفرضه على الشعر والشاعر على حد سواء، كي تتشكلَ النصوصُ من نطفٍ نظيفةٍ وبرحم طبيعي، وليس بالولادات المخبرية التي يأتي بها أطفالُ

الأنابيب.

 

(*) ولكن ألا تشعر بأن البؤس والدراماتيكيات جزء لا يتجزأ بتأليف الشعر، وبالتالي ليس كلّ نطفةٍ نظيفة هي نصٌ طبيعي.
لم أجزم بذلك. إلا أن النصوص لا تعي معرفة جيناتها في أثناء التشكل داخل الأرحام، لأنها عادة ما تكتشف أصولها الجينية والفنية والبنيوية بعد النشر.

(*) وهل اكتشف برودسكي شعريته بعد أن أصبح خارج الرحم البلشفي، هو المتوج بجائزة نوبل عام 1987 في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً؟
أنا ولدتُ شعرياً خارج جائزة نوبل. ولا أعتقد أن الرحم الأميركي أنظف من رحم روسيا، على الرغم من عدم استقرار ذلك الرحم المهدد بالطمر تحت جليد أم المنافي قارة سيبيريا التي تشكل مساحتها 77% من روسيا. حيث تمتد غرباً من جبال الأورال حتى المحيط الهادئ شرقاً، ومن المحيط المتجمد الشمالي حتى حدود كازاخستان ومنغوليا والصين جنوباً.

 

(*) هل يخاف الشعرُ من سيبيريا لأنها ثلاجةٌ مُجمدّة، أم لسبب لا نعرفهُ؟
الواقع أن الروح الشعرية هي المعادية الأولى للجليد، حيث يبدأ الخوف من تثلج المشاعر والتصاوير والذكريات في حواس الشاعر أولاً، وقبل أن تولد قارة الجليد تلك في الأصل.

(*) هل كنت تخاصم نفسك على هوية الانتماء الأيديولوجي، كأن تكون شيوعياً، أو كأن تبتعدَ مستقلاً بالعقل الليبرالي؟
ما زلتُ متمسكاً بالهوية الشعرية الناضجة بمعارف الحداثة وتأويلاتها، دون أن أكون مناوئاً للشيوعية بشكل مطلق. أنا حاولت دمج الشعر بالماركسية، ووجدت صعوبةً في ذلك العمل. كان الاندماج بالآلة الحديدية صعباً وقاسياً.

(*) ولكن سبق للفيلسوف وعالم الاقتصاد، كارل ماركس، أن كتب ثلاث مخطوطات شعرية في الحب والحياة، فلماذا وضع العصي في العجلات ما بين الأيديولوجيات وما بين الشعر؟
ربما فعل ماركس ذلك بهدف أن يعطي ظهرهُ للأيديولوجية، ولو قليلاً. أي أنه استعمل الشعر

قيلولةً، لتفيض روحه في مكان رومانسي آخر.

 

(*) ما الذي في رأس برودسكي الآن، وهو في هذا المكان السماوي؟
أحاول التخلص من اللغط الأرضي القديم، فأستنجدُ بما يمكن معرفته عن العلاقات ما بين الموتى بعد انبعاثهم أحياءً هنا.

(*) ما هي قراءتك للموت يا جوزيف برودسكي؟
الموتُ هو عضلةُ الوجود الساكنة ليس غير.

 

(*) كيف كانت علاقتك به؟
كلانا تأمل في وجه الآخر، ثم افترقنا في منازل الدموع وشوارعها على مضض.

(*) ولم تلتقِ به ثانيةً.
تقصد الموت؟!

(*) أجل أقصد الموتَ ذاته.
الموتُ مجموعة أقنعة تتعايش معنا على الدوام. ولكنه يفضل السهرَ بعيداً عن المدافن، لذلك تراهُ ينتزعُ الجميل والجميلات من تحت التراب، ويذهب بالموتى إلى حاناته المحصنة بالأشباح والمصابيح السحرية.

(*) وما الذي يفعله بموتاه الأحياء هناك؟
يُقال إنه يمارس الجنس في مختبراته الخاصة، فيقوم بتصحيح أخطاء الأجساد تعويضاً عن كل

نقص في الشهوة تعرض لها هذا الميتُ، أو تلك الميتة، يوم كانت على الأرض.

(*) ألا يعتبر ذلك اغتصاباً؟
لا وجود لمفردة من ذلك القبيل هنا. فالنكاح مكفولٌ بالشرائع، ومنصوصٌ عليه بالفوضى الخلّاقة التي تحرص على إدامة خلايا الحب بالعمل التصاعدي، من دون توقف، أو ذبول.

(*) هل عشت حصاراً في القبر، مثل ذلك الحصار الذي عشت رعبه أيام حصار لينينغراد؟
أجل. فقد كانت الاشباح تُذكرّني بكلّ ما مرّ في حياتي، ومنها كيف كنت أعمل على آلات طحن القمح بعد مضي أعوام الحرب القذرة.

(*) ولكنك حصلت على وظيفة في مشرحة الموتى. أليس كذلك يا جوزيف؟
لقد درّبتني الحربُ العالمية الثانية على مختلف الأعمال والمهن. إلا أنني كنت ميّالاً إلى طباعة روحي على الورق، وذلك ما حدث بالضبط، عندما اندمجتُ بخلاياه الغابوية، وأصبحت شاعراً يحاولُ الطيران.

(*) قيل إنك فشلت مع آخرين في محاولة اختطاف طائرة والهرب بعيداً عن الجحيم السوفييتي. ما مدى صحة ذلك؟
لقد أحبتني الشاعرة آنا أخماتوفا بشغف منقطع النظير، وشجعتني على فعل ذلك، على أن تحاول هي مغادرة روسيا  من بعدي. ولكن سرعان ما تحطمت أجنحتي، وفشل مشروع التحرر من الشاكوش السوفييتي الذي قضى على الحب أيضاً.

(*) وأظن أنه كان الدافع وراء عملية الانتحار التي قمت بها يا برودسكي وفشلت.
ربما. فالإقامة القسرية في مستشفى الأمراض العقلية قد تصلح لكتابة الشعر، أكثر مما تصلح له الصالونات الأدبية الفاخرة. فالشعرُ بكتيريا السائل الحيويّ، وهو اضطهادٌ حقيقي لبراغيث النعاس الذي عادة ما يتسللُ للنوم، ويقضي على فرص التمتع بالأحلام.

(*) بعيداً عن أحلام مارينا باسمانوفا المرأة الحسناء التي أصبحت زوجتك.
يمكنك القول إنني وضعتُ حدّاً للطيش في عالمي العاطفي بمجرد التعرف على مارينا. فهي امرأة رطبة وسلسة وتضج بالجماليات التي أنتجت لنا (أندريه) ابننا الوحيد في عام 1968. إلا أن الأمور الغرامية في ما بيننا سرعان ما تدهورت، لننفصل كزوجين، وينتهي الحب في الهاوية.

(*) لينتقل بكَ الحبُ إلى سرير ماريا سوزاني، حيث تزوجت للمرة الثانية.
ذلك ما حصل بالضبط. فقد ارتبطت ثانية من دون التخلي عن التبغ، كمادة مرتبطة بالحب، وبالكتابة، على قدر المساواة.

(*) كأنك لم تعطِ صحتك وزناً بعدم التخلص من التدخين. هل فضلت الانتحار الصامت بتلك الطريقة؟!
لم أكن أفكر بالانتحار المباشر، ولكنني كنت أتعايش معه بهدوء، وذلك للتخلص من حياتي بطريقة أخرى. كنت أنتحرُ في اللاوعي. فبعد إجراء أربع عمليات في القلب، اخترت البقاء مع التدخين، تاركاً قلبي قطعة لحم على المشرحة المستطيلة، فيما كنت أشمُ رائحة الذئاب خلف الباب، وهي تنتظر وجبة الطعام. وهكذا قضي الأمر، وصعدتُ إلى السموات مثل غيمةٍ تبغٍ ثملة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.