}

خالد زيادة: فلسفة المدن الحديثة مبنية على عقلانية نفعية

أشرف الحساني 18 أغسطس 2019
حوارات خالد زيادة: فلسفة المدن الحديثة مبنية على عقلانية نفعية
المؤرخ والأديب والسفير اللبناني السابق الدكتور خالد زيادة
الدكتور خالد زيادة مؤرخ وأديب وسفير لبناني سابق في القاهرة، يعد اليوم أحد أبرز المؤرخين العرب، الذين تبنوا طروحات مدرسة الحوليات التاريخية مع كل من لوسيان فيبر وفرناند بروديل من خلال انفتاحه على وثائق جديدة في التأريخ للدولة العثمانية وحضارتها، محققا بذلك تمايزا معرفيا ومنهجيا عن أقرانه من الباحثين. ولم يتوقف خالد زيادة عند التأريخ للدولة العثمانية فقط، بل ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال محاولاته الرصينة في الكتابة عن العمارة العربية وخصائصها ومميزاتها ومقارنتها بالعمارة الغربية من خلال نماذج معينة، منقبا في مصطلحاتها وتعريفاتها داخل المصادر الوسيطية عند كل من ابن أبي زرع وابن خلدون، ثم عن خصائصها وميزاتها، دون أن ينسى التطرق إلى السياق التاريخي التحديثي، الذي ساهم في بروز هذه المعالم الأثرية والمعمارية، إبان التدخل الأوروبي في السلطنة العثمانية، بدءا مما سمي بعصر التنظيمات، مميزا فيها بين أساليب الحداثة والتحديث داخل العمارة؛ وكل هذا فضلا عن كتابات أخرى، تناولت إشكالية المثقف والفقيه والحداثة والسجلات الشرعية وغيرها من الموضوعات، نذكر منها: "تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا"، "الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقف"، "المسلمون والحداثة الأوروبية"، و"الخسيس والنفيس".
هنا حوار معه:


(*) بداية، ماذا تبقى اليوم في نظرك من العمارة العربية بكل خصائصها الجمالية ومميزاتها الفنية مقارنة مع بعض الدول الأخرى، التي رغم عدم قدمها ما تزال تحافظ على تراثها الفني والمعماري، الذي اتخذت منه قاطرة للنهوض بتنمية بلدانها فنياً؟
بشكل عام، فإننا قلما نعتني بتراثنا المعماري، وذلك يعود إلى أن طفرة الحداثة خلال نصف القرن الماضي كانت تعني التخلي عما هو قديم في العمارة، وأثاث المنزل، والعادات. ثم إن الزيادة السكانية والهجرة إلى المدن جعلتا الأجزاء القديمة أو التراثية من المدينة أحياء تستقبل المهاجرين الأكثر فقراً، بعد أن هجرها سكانها الذين ولدوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم من قبل. يُضاف إلى ذلك أن هناك اتجاهاً لإعلاء شأن التراث المكتوب وإهمال التراث المعماري. ولكن بدون شك هناك تفاوت، ففي بعض المدن وعت الإدارات المحلية أو الحكومية أهمية المدن القديمة ومعالمها كاقتصاد سياحي، إلا أن مفهومنا للسياحة يرتبط بالترفيه وليس بالثقافة.
وحين تشير إلى البلدان الأحدث عهداً، والتي لا تملك تراثاً مغرقاً في القدم، فإن تفكيري يذهب إلى بلدان أوروبا التي لا انقطاع في تاريخها منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا، أي سحابة

سبعة أو ثمانية قرون من التراكم العمراني المتواصل، الذي لم يتعرض لانقطاع على غرار ما حدث في عالمنا العربي، فعصور النهضة التي عرفها العالم العربي الإسلامي مغرقة في القِدم ولم يبقَ من آثارها المعمارية سوى القليل. وربما يتساءل بعض المهتمين: لماذا نجد آثاراً فرعونية ورومانية تعود إلى ما يزيد على ألفي أو ثلاثة آلاف سنة، ولا نجد آثاراً من الحقبتين الأموية والعباسية؟، وأعتقد أن الجواب يأتي حين نقارن مواد البناء، فالمواد الطينية ليست لها صفة الديمومة على غرار المواد الحجرية والصخرية. وهذا موضوع للبحث والنقاش.


فلسفة العمارة الحديثة
(*) حدد لنا الفقهاء إبان العصر الوسيط العديد من شروط البناء في المدينة، هل ما تزال هذه الشروط قائمة اليوم أمام الزحف العمراني الكاسح الذي شهدته بلداننا؟
هناك فارق كبير في مفهوم بناء المدينة وهندستها، بين ما حدده الفقهاء أمثال ابن أبي زرع والماوردي وسواهما، وبين ما تقوم عليه الهندسة الغربية للمدن. فالمفهوم الفقهي تراكمي أي أن البناء السابق يحدد البناء اللاحق، وأن الأساس في حياة المدينة هو دفع الضرر. أما المفهوم الغربي فيقوم على تصور مسبق أساسه الخط المستقيم والمساحات والمبنى المستقل، ولهذا نجد أن المدن الحديثة في كل أنحاء العالم تتشابه، وشنغهاي الصينية بناطحات سحابها الحديثة تشبه شيكاغو الأميركية، لأن كلاً من المدينتين تطبق فلسفة العمارة الحديثة المبنية على الخط المستقيم والهندسة العقلانية النفعية.

(*) لا ننكر الدور الكبير الذي لعبه العرب في التأثير على المعمار الغربي، ويبدأ ذلك وبشكل جلي وواضح في المباني والكنائس التي تعود إلى القرون الوسطى وعصر النهضة. إلى أي حد إذاً يمكن الحديث عن التلاقح والتلاقي بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية؟
حين احترقت كنيسة نوتردام في باريس في شهر نيسان/ أبريل عام 2019، جرى الحديث

عن احتراق أيقونة من أيقونات العمارة الكاثوليكية الغربية، ولكن في هذه المناسبة كتبت دراسات جادة حول الأثر العربي- الإسلامي في بنائها الذي يعود إلى القرن الثاني عشر ميلادي، أي قبل ثمانمائة سنة، أي في فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وصقلية ومصر... إلخ.
وهذا التأثير العربي نجده في إسبانيا، حيث تحتفظ مدن طليطلة وإشبيلية بالشوارع الضيقة والأزقة والمعالم المعمارية العائدة إلى الفترة العربية، كما نجده في بعض المدن الإيطالية أيضاً، وفي معالم بارزة كالكنائس والكاتدرائيات في فرنسا. إلا أن التأثير المعماري العربي - الإسلامي تضاءل حين ربطت أوروبا حداثتها بالتراث اليوناني- الروماني، أما أوروبا الحديثة فإنها ترجع إلى القرن السابع عشر مع تكريس قيم الرأسمالية والفردية والحرية.

(*) شكلت مدينة إستانبول عاصمة الدولة العثمانية مجالاً للعديد من الدراسات التاريخية، والأنثروبولوجية، نظراً للمادة المصدرية (الأرشيف) الكثيفة. ما هي العوامل التي ساهمت في قيام هذه المدينة؟
إستانبول واحدة من المدن التي لعبت الإدارة الحاكمة دوراً أساسياً في تحديد مصيرها، فبعد سقوط القسطنطينية كعاصمة للدولة البيزنطية بأيدي العثمانيين، أراد السلطان محمد الفاتح أن

يجعل منها عاصمة الدولة ومدينة عالمية. وقد أغرى المسيحيين بالبقاء فيها، ونصّب أحد رجال الدين الأرثوذوكس بطريركاً، كما أغرى الأوروبيين بالقدوم إليها ومنحهم تسهيلات تجارية، كذلك فإن خلفاء محمد الثاني (الفاتح) من السلاطين اعتنوا ببناء الصروح المعمارية الكبرى مثل السليمانية والجامع الأزرق، واستمر هذا التقليد حتى القرن التاسع عشر حين ظهرت المنشآت المعمارية التي تقلّد نمط البناء الغربي.
وعلى عكس ما كان يجري في أوروبا من طرد للمسلمين واليهود في زمن محاكم التفتيش في القرن السادس عشر، فإن المدن في المغرب العربي في الدولة العثمانية استقبلت هؤلاء ولعبت الجاليات اليهودية في مدن مثل إستانبول وسالونيك وإزمير أدواراً حرفية وتجارية ملحوظة.
بالإضافة إلى التنوع السكاني الديني والإثني، فإن إستانبول كانت المدينة التي يقصدها الرحالة والفنانون والأدباء الأوروبيون منذ القرن السادس عشر، الأمر الذي أدّى إلى تفاعل كبير مع العلوم الأوروبية واستيراد التقنيات التي بدأت بالظهور في أوروبا كالنظارات وساعات الحائط والأثاث المنزلي واللوحات الزيتية.


المدينة العربيّة
(*) تقول في كتابك "المدينة العربية والحداثة"، استناداً إلى طروحات أندريه ريمون: "ليس مصطلح المدينة العربية بديلاً عن مصطلح المدينة الإسلامية الذي فقد معناه"، كيف تشرح ذلك؟
لقد استخدمت في عنوان كتابي تعبير "المدينة العربية" وذكرت في المتن كيف وأين استُخدم هذا التعبير الاصطلاحي من قبل. وأهمية أندريه ريمون ليس فقط أنه وضع كتاباً بعنوان: "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني"، ولكن في نقده الجذري لمفهوم "المدينة الإسلامية"، الذي قدمه في دراسة له ضمن كتاب "المدينة في العالم الإسلامي"، حيث يرى أن مفهوم "المدينة المسلمة" يعود إلى المدرسة الاستشراقية - الفرنسية في الجزائر ولا سيما إلى رائديها وليام وجورج مارسيه، وتلاهما روجيه لوتورنر، واستكمل ممثلا مدرسة دمشق، وهما

جان سوفاجيه وجاك فولارس، وضع اللمسات الأخيرة على هذا المفهوم. وتقول الفرضية الاستشراقية هذه إن حضارة معولمة مثل الحضارة الإسلامية، يجب أن تكون جميع مظاهرها "مسلمة" على وجه التحديد، والمقارنة بالمدن السابقة للإسلام قادتهم إلى القول إن المدينة المسلمة تتميز بعدم انتظام كل قاعدة عقلانية ورفضها، وبعدم امتلاكها المؤسسات البلدية التي ميزت المدن القديمة.
ومن هنا فإن مصطلح المدينة العربية، ليس مجرد استبدال كلمة "مسلمة" بكلمة "عربية". ولكنه تجاوز لمفهوم المدينة حسب الصيغة الاستشراقية، والتأكيد على أن ما يجعل المدينة العربية ذات خصوصية هو الثقافة واللغة، فقد عربت هذه المدن كل الذين جاؤوا إليها وحكموها، وهذا البعد الثقافي هو ما أهمله الاستشراق، الذي ركز على البعد الديني.

(*) كيف ساهمت سجلات المحاكم الشرعية في إغناء البحث في دراسة المدن خلال الفترة العثمانية؟
إن التنبه إلى أهمية السجلات في مجال دراسة المدينة حديث العهد، بل إن التنبه إلى هذه السجلات لم يأتِ إلا في فترة متأخرة بالنسبة إلى الدراسات التاريخية. ولعل مدرسة "الحوليات" الفرنسية Les Annales هي التي لفتت الانتباه إلى أهمية الوثائق، والمقصود هنا كل أنواع الوثائق من سجلات تجارية وكنسية وقنصلية وغيرها. وبالنسبة إلى السجلات الشرعية فإن عدداً من الباحثين استفادوا منها في دراسة المدن مثل روبير مانتران في دراسته

الضخمة عن مدينة إستانبول، وأندريه ريمون في دراسته عن القاهرة، وكذلك عبد الكريم رافق في دراساته عن المدن السورية.
والمهم هنا أن استخدام الوثائق وخصوصاً سجلات المحاكم الشرعية، فتح مجالات كانت شبه مغلقة متعلقة بالحياة الاقتصادية والتجارية والحرف، وتوزع السكان في الحارات، والعلاقات بين الطوائف والعادات والتقاليد والسلطة المدنية... إلخ.
وبهذه المناسبة لا بد من القول إن استخدام الوثائق ما زال ضعيفاً ومحدوداً، وأظن أن كليات وأقسام التاريخ الجامعية لا بدّ أن تولي اهتماماً أكبر لدراسة الوثائق.


(*) ما هي المصادر الأخرى الأثرية منها والمكتوبة، التي يمكن أن تساعد الباحث في تاريخ المدن؟
المدينة عالم متسع يشمل كل جوانب الحياة في العصور القديمة والحديثة على السواء. وقد ساعدت الاكتشافات الأثرية والنقوش الجدارية على التعرف إلى أمم سابقة عاشت في مدن مزدهرة مثل المدينة الفرعونية أو اليونانية. وليست كتب التاريخ وحدها التي تقودنا إلى تاريخ المدن، فهناك كتب الأدب والشعر، وكلما تقدمنا في الزمن فإن الوثائق المكتوبة تقودنا إلى معرفة أوسع بالمجتمعات المدينية.
لكن الموضوع في الأساس يتعلق بمناهج البحث، فلا بد من تعمق الباحث بالمناهج العلمية والنقدية، وتجاوز المناهج الوصفية، كذلك التخلي عن الأفكار المسبقة التي عادة ما تعود إلى نتائج مقررة سلفاً.

(*) أخيراً، كيف نستطيع أن نميز بين الحداثة والتحديث داخل العمارة العربية المعاصرة؟
إن قراءة تاريخ العمارة منذ بداية القرن التاسع عشر يمكنه أن يقودنا إلى فهم الدوافع التحديثية ومراحلها ومردودها الاجتماعي. وقد قسمت في كتابي مراحل التحديث إلى ثلاث مراحل: الأولى حين اندفع الحكام الإصلاحيون (المحدثون) إلى تبني أنماط العمارة الأوروبية، وذلك في أواسط القرن التاسع عشر في إستانبول والقاهرة، ثم المرحلة الاستعمارية التي نجد معالمها في

أغلب المدن، ثم مرحلة الحكومات الوطنية ما بعد الكولونيالية.
ومن حسن الحظ أن الكثير من المعالم ما زال قائماً وبإمكانه أن يدلنا على الدوافع والأفكار التي حكمت كل مرحلة من المراحل.
ففي المرحلة الأولى كان تفكير الحكام المصلحين أنهم يسيرون في اتجاه الحداثة، وكان الخديوي إسماعيل يريد للقاهرة أن تصبح نسخة عن باريس، وكان يعتقد أن باريس تُختصر بمعالمها العمرانية: القصر والمسرح والفندق والشوارع العريضة والحدائق. وفي المرحلة الثانية أرادت السلطات الاستعمارية أن تُدخل المؤسسات الناظمة كالمدرسة والبلدية والضرائب، أي نقل نموذج المدينة الغربية إلى البلدان المستعمرة، أما في المرحلة الثالثة فكانت هموم الحكومات هو استيعاب الزيادات السكانية وتأمين الحاجات الأساسية - دون أن تفلح في ذلك- وأصبح الامتداد العمراني يتجاوز الخطط المرسومة ويظهر عجزها.
في جميع الأحوال وفي كل المراحل، فإن ما يمكن أن نتحدث عنه هو تحديث أي إجراءات وخطط. أما الحداثة بما هي عملية تاريخية شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر وامتدت حتى مشارف القرن العشرين، فقد غيّرت نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى العالم، وغيّرت المجتمعات وفتحت آفاقاً معرفية غير مسبوقة، وقد أخفقت المجتمعات العربية في تحقيق حداثتها كما تصورها رواد النهضة في القرن التاسع عشر، واليوم فإن المطروح أمامنا هو نقد الآثار السلبية للتحديث وإنتاج فكر يواكب العالم ويتعامل مع كل تعقيدات الحياة المعاصرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.