}

محمد حيّاوي: كلما أوغل الخراب بالعراق اعتمل الخيال فيه

عارف حمزة 17 أغسطس 2019
حوارات محمد حيّاوي: كلما أوغل الخراب بالعراق اعتمل الخيال فيه
محمد حياوي ومجموعة من كتبه (موقع راديو مونت كارلو)
ولد الروائي والقاص العراقي المقيم في هولندا محمد حيّاوي في مدينة الناصرية جنوب العراق في ربيع عام 1965، وتخرج في معهد الإدارة في عام 1984، وعمل في مجال الصحافة الثقافية كمحرر في القسم الثقافي لجريدة الجمهورية، ثم سكرتيراً للتحرير. فازت قِصَّته "الكائن الغريب" بجائزة القِصَّة القصيرة لعام 1982. ونشرت روايته الأولى "ثغور الماء" (1983) دار الشؤون الثقافية ببغداد، ثم فازت روايته "فاطمة الخضراء" كأفضل رواية عراقية في العام 1985، ومُنعت من النشر لإدانتها الحرب. نُشرت مجموعته القصصية الأولى "غرفة مُضاءة لفاطمة" في العام 1986 في دار آفاق عربية ببغداد. وفازت روايته "طواف مُتَّصِل" بجائزة الرواية العراقية، ونشرتها عام 1988 دار الشؤون الثقافية ببغداد. ثمّ صدرت له سلسلة ألف ليلة وليلة للأطفال في العام 1990 عن دار أور للنشر والتوزيع في بغداد.
غادر العراق في العام 1992، وأقام في الأردن (1992- 1995)، وعمل في المجال الصحافي.
تُرجمت مجموعته القصصية "غرفة مُضاءة لفاطمة"a Lightened Room for Fatimah إلى الإنكليزية في العام 1996 ونشرت في إسبانيا.
غادر الأردن إلى هولندا كلاجئ سياسي في العام 1996، ودرس اللغة الهولندية، ثم التصميم الطباعي والغرافيك، ونال الدبلوم العالي والماجستير في البنية المعماريّة للحرف اللاتيني.
صدرت له مجموعته "شكراً يا أيّها الفيل"Dank je wel Olifant للأطفال باللغة الهولندية في العام 2010 عن دار نشر Sillat في أمستردام.
صدرت روايتاه الثالثة "خان الشّابندر" (2015)، والرابعة "بيت السودان" (2017) عن دار الآداب في بيروت.
صدرت مجموعته القصصية "طائر يشبه السّمكة"، وروايته الخامسة "سيرة الفراشة" في العام 2018 عن دار شهريار في البصرة.
عمل مصمماً ومحرراً للسينما في جريدة Noordholland Dagblad الهولندية من العام 2000 حتى 2010. واختير عضواً في لجان التحكيم في مهرجان الفيلم الإيراني في أمستردام، ومهرجان الفيلم العربي في روتردام، كما رأس تحرير مجلة "سينما عالمية" الصادرة باللغتين الهولندية والعربية حتَّى العام 2010. وهو عضو اتحاد الكتّاب الهولنديين، ويعمل أستاذاً لمادّة الغرافيك والصحافة الجديدة في معهد غرافيك ليزيوم أمستردام منذ العام 2010، ومدرّباً للتصميم والصحافة الجديدة "الكروس ميديا" في الأكاديمية الألمانية للتطوير الإعلامي.
هنا حوار معه:


(*) في روايتك الأخيرة "سيرة الفراشة"، غاب العراق، وحضرت سوريّة وتركيّا وهولندا... ما الذي دفعكَ لدخول هذه التجربة التي كتب عنها كتّاب سوريّون، وغير سورييّن، كثر؟
تختلف روايتي الأخيرة "سيرة الفراشة" عن نمط رواياتي الأخرى لجهة موضوعتها البعيدة عن العراق، فقد كتبتها تحت ضغوطات عدّة في الواقع، من تلك الضغوطات حدثان تركا أثراً عميقاً في وجداني؛ الأوّل يتعلق بذكرى بعيدة لصديقة حميمة كانت تصنع الرسوم المتحركة وتسكن مدينة حلب قبل دمارها. والثانية زيارة عمل، أو مغامرة صحافية مع طاقم تلفزيون هولندي مكون من مصور ومهندس صوت ومراسلة، قمنا خلالها بزيارة حلب المدمّرة في العام 2014، حيث أقمنا في شقة مهجورة في حي صلاح الدين، وكان فيها بيانو محطم ومجموعة من اللوحات والتخطيطات الفنية وجدناها تحت الركام في الشقة التي حوصرنا فيها ثلاثة أيام. وكانت الشقق الأخرى حولنا مهجورة بالكامل. وفي الليل، عندما كنتُ أخرج للتدخين في

الشرفة مع سارة ـ المراسلة التلفزيونية ـ كنت ألمح بعض الستائر المهوّمة من النوافذ المحطّمة كما لو كانت أشباحاً تلوح لنا أو تستغيث بنا لننقذها. ولسبب أو لآخر، تخيّلت بأن تلك الشقة هي شقة صديقتي السورية صانعة الرسوم المتحركة التي طالما حدثتني عنها، فتفاعلت المشاهد في مخيلتي وبدأت أدوّن التخطيطات الأوليّة لروايتي الخياليّة، لكن شبه الواقعيّة أيضاً؛ لأنّ شخصيات "ندى" و"نعيمة" و"نارسس" و"سارة" هي شخصيات حقيقية تعرفت إليهن في مراحل مختلفة من حياتي في المنفى.
نعم لقد كتب الكثير من الأصدقاء الروائيين السوريين عن حلب وغيرها من المدن السورية المسبية وأجادوا في ذلك بالتأكيد، لكنّني أحببت ان أسبغ طابعاً سحرياً على المدينة التي لم أرها في عز عنفوانها، بل في غمرة خرابها ووحشتها، وعلى الرغم من ذلك عشقتها، حتّى جررت "ندى" الحلبية منها إلى تركيا واليونان وألمانيا وهولندا، لكن عزّ عليّ في المحصلة تجريد المدينة من ملاكها الوجداني، فأعدتها إلى حلب من جديد على محفّة الحلم، محطّمة تماماً لكن ليست مهزومة، بانتظار الأمل الذي سيهبط من غابات الزيتون بعد ان غادرتها العذارى صعوداً إلى السماء.


عتبات مُمهّدة لإعداد القارئ
(*) في أكثر رواياتك هناك عادة مقدمة، أو مدخل، قبل الدخول في عالم الرواية. لماذا تضع هذه المداخل رغم أن القارئ يستطيع أن يقرأ العمل من دونها؟ ما غايتك من عدم التخلّي عنها؟
تلك المداخل تعني لي الكثير في الواقع، وهي بمثابة خلاصات أو مكثفات لأحداث الرواية التي ستلي، وهي تعمل عندي عمل "كان يا ما كان في قديم الزمان" أو "بلغني أيُها الملك السعيد"، هي مفتتحات أجدها ضروريّة ومكمّلة للعمل وإن بدت منفصلة عنه، فثمة معلومات أو صور أو

وصايا أبثّها فيها على شكل مرتكزات شعريّة، قد تسقط في المباشرة في حال بثثتها في الجسد السردي للرواية. ولحسن الحظ فقد عدّها الكثير من النقاد عتبات ممهدة لإعداد القارئ قبل دخوله عوالم الروايات، ولا أدري فيما إذا كنتُ قد أجدت فيها أم لا. لكنني، من فرط إخلاصي للأدب واحترامي للقارئ، أحرص دائماً على الأفراط في الوصف وتجسيد الصور وتمتين الحوار، حتى لو استخدمت اللغة الشعريّة، التي يعيبها البعض على الرواية، كي أجعل من حكاياتي ما يمكن أن نسميه واقعية خياليّة، وسواء كانت مجدية أم لا، فإن تلك العتبات أصبحت سمة خاصة لرواياتي التي أسعى لأن تكون مختلفة كليّاً، سواء بشكلها وقالبها السردي أو بمضامينها وشخصياتها أو لغتها.


المرأة محور عملي كلّه
(*) المرأة أو النساء دائما الشخصية الأساسية في رواياتك، وتقريبا في جميع قصصك القصيرة. هناك رجال بالطبع ولكنهم يعيشون خلال أو في سيرة تلك النسوة. كيف تشرح لنا ذلك؟
عالمي الروائي كلّه يتمحور حول المرأة، لأنّها كائن أكثر إنسانية من الرجل وأكثر قوة منه على الرغم من هشاشتها الخارجية. لقد نشأتُ في عالم تملؤه النساء، أكثر من سبع خالات وسبع عمّات، وكل واحدة منهن هي عالم قائم بذاته أغرق مخيّلتي الطفلة بآلاف الصور والحكايا التي ما زلت أنهل منها كلما تصحّرت مخيلتي في المنفى. أذكر أنني قلت في روايتي

"بيت السودان" عبارة "طالما شكلتني النساء" وكنت صادقاً فيها؛ إذ لعبت النساء دوراً عميقاً في حياتي، بدءاً من فاطمة الطفولة والسطوح مروراً بأمّي وخالاتي وعمّاتي وأستاذاتي وانتهاءً بناشراتي وهن لحسن الحظ كلّهنّ من النساء اللاتي أجلّهنّ وأثق بذائقتهنّ وقدراتهنّ. وفي المحصلة تبقى النساء المحرك الحقيقي للحياة وتفاعلاتها وتناقضاتها، وما نحن، معشر الرجال، سوى أجرام صغيرة ندور في أفلاكهنّ، ننجذب إليهن أحياناً فنخرج من مداراتنا ونسقط في لجّتهن ونحترق، أو نتشتت عنهن فنخرج عن مداراتنا هائمين في الفراغ، وفي الحالتين لا نسبّب لهنّ سوى أذى التحطم أو لوعة الفراق، لكنّهن يبقين مخلصات لوظيفتهن الأسطوريّة، وهي إسناد الكون والحيلولة دون انهياره.

(*) في الوقت الذي تبدو تلك النسوة قويات وصاحبات سلطة، فإنهن من جهة أخرى سجينات سلطة ذكوريّة مختلفة، ويواجهن مصائر قاسية. ويصبحن، من خلال سردك وأسلوبك، قريبات من الواقع المعاش، وكأنّها قصص حقيقيّة، أو مجلوبة من السيرة الشخصيّة لك.
كما قلت في جوابي السابق، طالما ألهمتني النساء وتأثرت بعوالمهنّ الغامضة والآسرة في الحقيقة، فالمرأة من وجهة نظري الكائن الأكثر رقّة وهشاشة في هذا العالم، وهي في الوقت نفسه عالم من الأسرار والعواطف والكنوز المخبوءة التي لا تكشف عن نفسها إلّا في حالات نادرة جدّاً، والمرأة المستلبة أو المقهورة أو المقموعة لا تفقد إنسانيتها بسهولة على العكس من الرجل، وهي على الرغم من رقّتها وهشاشتها، تمتلك قوّة غامضة أكثر من الرجل بكثير. حتّى تلك التي تنحرف، بطريقة أو بأخرى، أو يجبرها المجتمع على ممارسة الرذيلة، نجدها تنزع لإنسانيتها بطريقة فطريّة، وتغدق عواطفها حتّى على الحجر، إن لم تجد من تغدقها عليه. وطالما ارتبطت الانوثة بالأمومة وبالتالي بالرحمة. فالمرأة محور عملي كله، بها أبتدئ وإليها أنتهي وبواسطة غموضها العصي على الفهم أبني عوالمي. نعم بطلاتي في الروايات كائنات خيالية، لكن نتيجة لرسوخهنّ في مخيلتي خرجن كما لو كنّ حقيقيات من الواقع، ولا بدّ من وجود شظية أو لمحة واقعية في جوهر تلك الشخصيات كي نبني عليه الهيكل الخيالي كله. من وجهة نظري الأمر يشبه إلى حد ما خلق اللؤلؤة، حين تدخل الهلام حبّة رمل متناهية في الصغر، فتبدأ المادّة الثمينة بتغليفها تدريجياً حتّى تصبح لؤلؤة آسرة.


الفقراء اخترعوا
"ألف ليلة وليلة"
(*) تُقدّم العراق كبلد ما زال يعيش تلك "الواقعيّة السحريّة"، والقصص التي تتوالد لكي تُذكّر بأن المكان ما زال مكان "ألف ليلة وليلة"، رغم كل الخراب الذي يتواصل فيه.
العراق كيان غامض يقوم على بحر من النفط والتاريخ والطغيان والحكايا، وعلى مرّ العصور كان محور الخيال والأحلام والنبوءات والأنبياء. احفرْ في أيّ شبر منه ستجد رفات نبي أو ولي أو مجنون بالحب أو مسكون بالرؤى أو طاغية. اتبع أيّة امرأة عائدة من السوق وستقودك إلى بيت الصبايا، حيث يقيم حمّال بغداد غوايته. افتح أية نافذة خشبية في الشناشيل وسترى

العفاريت الطيّبة تتخاطف في سماء المدينة حاملة "الحسن البصري" إلى معشوقته في الشام. جالس أيّ مجنون وسيرشدك لأبواب سرية تفضي بك لفراديس ليليّة تنثر فيها النساء عطورهنّ وشعورهن ويجلد فيها العشاق رباباتهم النائحة. وكلما أوغل الخراب في العراق كلما اعتمل الخيال فيه. ووفق معادلة بسيطة، فما لم تستطع نيله في الواقع نله في الخيال، وإذا كانت ثمة امرأة تقض مضجعك، أغمض عينيك واستحضرها كي تشبعها حبّاً. هذه هي فلسفة الوسيط الحكائي في "ألف ليلة وليلة" التي اخترعها القفراء ليقتصّوا بواسطتها من الأغنياء والسلاطين، وما زالت العجلة تدور دورتها مهما طال الزمان، سوى أن الحرب جعلت من الناس هناك موتى أحياء، لا توجعهم القنابل ولا يعني لهم المجد أو التاريخ شيئاً.

(*) تزور العراق مرات كثيرة، ولكن يبقى الزمن السابق هو فضاء الكتابة، الزمن الذي لم تكن أنت متواجداً فيه بشكل فيزيائي، مثل وقت الاحتلال الأميركي وضرب العراق.  هل تذهب لتسمع قصص الناس عن ذلك الزمن الذي غبت فيه؟
أعتقد تماماً بأنّ الأحداث العظيمة التي تزلزل المجتمعات وارتداداتها المتتالية بحاجة إلى وقت لتختمر في الوجدان، قبل أن تتمظهر في الأدب، واستناداً إلى هذه النظرية، إن صحّت، فإن

الحدث الساخن لا يمكن أن ترى تفصيلاته كاملة طالما أنت في لجّته. الأمر يشبه تأمّل لوحة كبيرة من مسافة قريبة جداً. لقد عشت أحداثاً عاصفة في تسعينيات القرن الماضي، مثل احتلال الكويت وهزيمة صدام حسين، وتحطّم عُرى وأواصر المجتمع العراقي وانهيار بنيته الأخلاقية؛ نتيجة للحصار الظالم ودفن الأبرياء وهم أحياء وأحداث الانتفاضة الشعبية ثم سرقتها وتبديدها على يد الإسلام السياسي وغيرها الكثير، لكن أغلب تلك التفصيلات لم تتسرب إلى رواياتي إلا بعد عشرين سنة عندما كتبت "خان الشّابندر" و"بيت السودان". في الواقع المخيّلة تعمل بطرق غامضة لا يمكن التكهّن بها أو تحليلها، وكنهها لا يدرك، ولا أحد يعرف لِم تتسرب تلك الأحداث والصور وتمتزج بطريقة محسوبة وفي أوقات معينة.
لقد غبت عن العراق أكثر من عشرين سنة بسبب الهروب الكبير، وحين غادرته مطلع التسعينيات، كان الناس قد أوشكوا على التحوّل إلى نمور جائعة بسبب الحصار، وكانت جرائم السرقة تتلخص في قتل عائلة كاملة من أجل عشرة دنانير وحسب، لكن عندما عدت في العام 2012 وجدت عملية التحوّل تلك قد أنجزت بالكامل، أقصد تحول الناس إلى نمور جائعة، لكنها تشبه نمور زكريا تامر في يومها العاشر؛ أي مدجّنة ومستلبة الإرادة ومخدرة بالطقوس، ومع ذلك جائعة وكرامتها ممتهنة ومستقبلها مدلهم. مخدرة لدرجة أن القنابل والانفجارات والشظايا لا تؤذيها ولا تشعر بها، على الرغم من أن رائحة الدم تملأ الشوارع حتى بعد غسلها بالماء وجمع أشلاء الضحايا، ليفترش الباعة الأرصفة من جديد ويعلنوا عن بضاعتهم من الدببة الحمر رمز الحب.
لقد زرت العراق بعد الاحتلال الأميركي وانهيار الدولة العراقية أكثر من مرّة، وأغلبها كان بدعوات رسمية، لكنّني مع ذلك كنت أحرص على التجوال في المناطق الشعبية القديمة والتقاط الصور الغامضة وتخزينها في مخيلتي بشكل عفوي، إذ أنّني لا أؤمن بالتدوين أو الصور الفوتوغرافية لأنّها تنتهك عذرية تلك الالتقاطات، وأترك الأمر دائماً للمخيّلة وحسب لأنّني أثق بها.


لم يعد ثمة متّسع
للروايات الطويلة
(*) تكتب روايات قصيرة. وربما بسبب التكثيف تصبح على هذا النحو. ولكن الرواية نفسها فيها قصص كثيرة تحتمل زيادة سماكتها. لماذا تفضّلها هكذا؟
ما زلت أعتقد أن عصرنا الحالي هو عصر سريع الإيقاع ومتغير باستمرار، ولم يعد ثمة متّسع للروايات الطويلة كما كان الأمر في الماضي، كما أن التحديات أمام الرواية تعقّدت كثيراً وأصبح القارئ المعاصر بحاجة إلى جرعة خيالية سريعة وصادمة ومؤذية، إن لزم الأمر، لتنتزعه من العالم الإفتراضي الذي أغرقته فيه التقنيات الجديدة. الروايات الطويلة قد تتسبب بملله وبالتالي قد يضطر لتركها. هو بحاجة لرواية تمسك بتلابيبه ولا تدع له مجالاً للهروب أو التقاط الأنفاس، ومثل هذه الرواية يجب أن تكون قصيرة من وجهة نظري كي يقرأها في جلسة واحدة أو اثنتين على أكثر تقدير. ربما يختلف معي البعض في وجهة النظر هذه، لكنني مؤمن تماماً بأنّ الرواية الجيّدة يجب أن تتوفر على مثل تلك الشروط، كما أن الحكايا أو القصص المبثوثة داخل جسد السرد هي بمثابة أبواب جانبية لإثارة فضول القارئ وتحفيز مخيّلته للمضي قدماً في عملية التخيّل والمشاركة الفاعلة في إدامة سحر الحكي. نعم لقد عدّ أحد النقاد روايتي

"خان الشّابندر" فرشة روايات في رواية واحدة، وتمنى عليّ تفصيلها مستقبلاً في روايات مستقلة، مثل حكاية هند وحكاية مجر وحكاية ضويِّة وحكاية دكتور صلاح في بيت السودان وغيرها، لكنني مؤمن بأن عالمي الروائي واحد، وفضاءاته مفتوحة على بعضها، ولا أستبعد أن تظهر تلك الشخصيات ثانية في روايات جديدة، بتفصيلات أكثر وأدقّ وأعمق ربما، لكن تقديمها بتلك الطريقة التي ظهرت بها مكثفة ومضغوطة في الروايات التي كتبتها كانت من متطلبات السرد، فأنا أكتب بشكل عفوي من دون تخطيط مسبق أو إعداد روتيني؛ لأن العمل الروائي عندي هو عمل مرتبط بالعفوية وطغيان اللحظة الراهنة، لحظة الكتابة أقصد، وأي تخطيط مسبق أو قصديّة قد يجهض هذه العفوية ويبددها.


(*) من هم كتابك المفضلون؟ وما هي رواياتك المفضلة التي تعود لقراءتها؟
ثمة كتّاب تأثرت بهم في مطلع حياتي الأدبية وثمة كتب غيّرت مجرى حياتي ووعيي وما زالت تفعل ذلك في الحقيقة، من هؤلاء الكتّاب ماركيز وجون شتاينبك وميلان كونديرا وسكوت فيتزجرالد ومكسيم غوركي ونيكوس كازانتزاكي، الذين قرأتهم في مرحلة مبكرة جداً وما زال أبطالهم يعرشون في مخيّلتي. أما بالنسبة للكتب العظيمة التي غيّرت مجرى وعيي وسربلته بالصور المدهشة، كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي أحتفظ بعدة طبعات منه وأعود له بين الحين والآخر؛ لأنّه خلاصة الخيال الجمعي الشرقي ومعصرة سحره وإدهاشه، لكن أيضاً ثمة "الساعة الخامسة والعشرون" و"صورة دوريان جراي" و"زوربا" اليوناني.


الفيزياء وتدريب العين
(*) أنت تعمل كمصمم غرافيكي في هولندا. ما هي الخبرات الذي قدمها لك هذا العمل في الكتابة؟
الفن الغرافيكي فن جديد تقريباً، خصوصاً في عالمنا العربي، وهو يعتمد بالدرجة الأساس على تطويع الفنون البصرية لحاجات الناس اليوميَّة، وهو منتشر من حولنا أكثر من أي فن آخر،

ونستطيع أن نجده في الشوارع متمثلاً في الإرشادات المرورية وشعارات المطاعم وتخطيطات الطرق والأرصفة والمحطات وغيرها، ناهيك عن استخدامه كأداة تعبيرية مباشرة على الجدران في أغلب مدن العالم، ونتيجة لتعمقي في دراسة هذا الفن فقد تغيرت ذائقتي الجمالية وإحساسي بالكتل والأمكنة والألوان، كما أدركت هيمنة الفيزياء الطبيعية كمعلم فذّ على صعيد تدريب العين لاستنباط المقترحات اللونية، فعلى سبيل المثال ثمَّة اللون الأبيض الذي من دونه لا قيمة لجميع الألوان الأخرى، وهناك الأخضر الذي يوجد في الطبيعة من حولنا بملايين التدرجات، وهناك التوازن الهش، لكن الضروري، بين كتل الأشجار والمباني وتناسبها مع الحجم الطبيعي لكتل البشر. لقد استفدت فائدة قصوى من دراستي للغرافيك في فهم أثر الزمن على الجدران مثلاً أو تقوّض فضاءات الحوش البغدادي القديم وانفتاحها على السماء.
إن إطلالة نخلة ما من البيت المجاور على الباحة وسقوط ظلها المهادن على حجر الأرضية، أو العلامات القديمة التي يتركها المسّاحون على الجدران بطرق عشوائية، وتقشّر الغلاف الجصّي عن الآجر في مساحات معينة، بفعل الرطوبة، جميعها مفردات جمالية وفلسفية عميقة بالنسبة لي لفهم المكان وطغيانه في العمل الأدبي.


(*) متى غادرت العراق ولماذا وكيف؟
غادرت العراق في العام 1992 نتيجة لموقف تعرّضت له عندما كنت أعمل محرراً في جريدة الجمهورية، حين أصرّ رئيس التحرير على تكليفي الإشراف على كتاب مزعوم اسمه "موجز التاريخ الإنساني لصدام حسين" وبالرغم من عدم قناعتي بفكرة الكتاب، إلّا إنني اضطررت لتحريره وإعادة صياغة ما كتبه المحررون، لكنّه أصر في النهاية على ضرورة

وضع اسمي على الكتاب، الأمر الذي رفضته بشدة، فقرّروا إحالتي إلى التحقيق، ونظراً لأننا في العراق كنّا نعرف بأن التحقيق يعني الموت، لذا قرّرت إتلاف محتوى الكتاب والهروب ليلاً إلى الأردن، التي بقيت فيها ثلاث سنوات، عملت خلالها في الصحافة، قبل أن يتم اعتقالي بدعوى عدم تعاوني مع المعارضة العراقية التي كانت مقيمة في الأردن ومدعومة منه، فاضطر مكتب الأمم المتحدة في عمّان للتدخل وإطلاق سراحي وترحيلي كلاجئ سياسي إلى هولندا في العام 1995.

(*) هل ما زلت تلتقي أصدقاء الطفولة والصبا؟ هل عندهم موهبة الكتابة؟
نعم. عندما أزور العراق، ومدينة طفولتي وصباي الناصرية، ألتقي ببعض من بقي على قيد الحياة منهم، فأغلبهم إما هرب للخارج واستقر في المنافي، أو قتل في الانتفاضة، إضافة لأساتذتي الذين درّسوني في مراحل مختلفة، كالروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي، والفنان حسين نعمة، وغيرهما، أما من أصدقاء الطفولة والصبا الذين ابتلوا بهمّ الكتابة، فمنهم الشاعر منذر عبد الحرّ، والقاص والباحث عباس داخل حسن، والشاعر والمؤرشف حسن عبد

الغني. لكن صديق الطفولة الأوحد الذي كنت أقتحم البساتين معه في الظهيرات بحثّا عن التوت والرطب والبلابل، وجمع قطرات العرق من القناني الفارغة المرميّة خلف نادي الموظفين ومقايضتها ببعض الصور الخلاعية مع "كوزان" مُشغّل سينما البطحاء، والتسلل خلسة لمشاهدة أفلام صوفيا لورين المثيرة من دون أن نبتاع تذاكر، وإغواء الصبايا القرويّات من بائعات اللبن الخاثر على أرصفة المدينة، وتعليق لافتات الحزب الشيوعي أمام مبنى الأمن العام مقابل خمس درجات إضافيّة من معلم الحساب، صديق الطفولة الذي شاركني هذا السحر كلّه كان رياض مهلهل، وهو شخصية أسطورية تجمع ما بين البوهيميّة والتمرّد والشجاعة واللامبالاة والمغامرة والسخرية من الواقع المرير، ولا أدري لِم لم يظهر في رواياتي حتى الآن، على الرغم من أنّه صار كهلاً كئيباً يهدّه التذكّر وتطحن صدره اللوعة لأيّام الصبا والتمرّد تلك.

(*) كيف تقضي نهارك في هولندا؟ وكيف تقضيه خلال زيارتك للعراق؟
في هولندا الحياة مستقرة وآمنة حدّ اللعنة في الحقيقة، وكل شيء في متناول اليد، لذلك أفتقد الشعور باللوعة نوعاً ما. عندما كنت أعمل في جريدة التلغراف كان العمل يستغرق يومي كلّه فأعود منهكاً بالكاد أشاهد فيلماً وأنام استعداداً لليوم التالي، قبل أن أتمرّد على عيشة الاستقرار تلك وأستقيل. عملي في معهد الغرافيك مرن إلى حد ما، كما أنني أنجز أغلبه من البيت، الأمر الذي يوفّر لي فسحة مناسبة للقراءة والكتابة. أذهب إلى السينما دورياً، بواقع مرة أو مرتين في الشهر، مع زوجتي في الغالب، أو مع أصدقاء آخرين، إضافة لاحتفاظي بمكتبة فيلمية كبيرة في منزلي، فأنا محب للسينما وأكتب السيناريو أيضاً. عدا ذلك ألتقي من حين لآخر بمجموعة من الأصدقاء المثقفين من الإيرانيين، مخرجي سينما وممثلات وعازفين ورسامين، لحضور عروضهم، أو إقامة ندوات أدبيّة، أو معارض تشكيلية، لا سيّما بعد صدور الطبعة الفارسية من روايتي "خان الشّابندر". أما في العراق، فالأيّام والليالي غالباً ما تكون صاخبة هناك؛ إذ يمتلئ وقتي بالندوات واللقاءات الأدبية وحفلات التوقيع والدعوات الخاصة، التي لا تنتهي، من الأصدقاء والقرّاء، وغالباً ما أتملّص خلسة كي أمارس هواية التجوال في أزقّة وحواري بغداد القديمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.