}

بنسالم حميش: الروائي المُجرّب يشتغل بما استطاع اكتسابه

أشرف الحساني 9 يوليه 2019
بنسالم حميش مفكر مغربي ووزير ثقافة سابق، يُعدّ اليوم في طليعة الأسماء الفكرية المغربية، التي ذاع صيتها مشرقا ومغربا، بأسلوبه الأركيولوجي الذي يقوم على تفكيك النصوص التراثية وإعادة بنائها بطريقة معاصرة كما هو الشأن مع سيرة ابن خلدون، التي أعاد صياغتها بطريقة جد ذكية في روايته "العلامة" وحصل من خلالها على جائزة الأطلس الكبير سنة 2000، ثم روايته "مجنون الحكم" التي حصلت هي الأخرى على جائزة الناقد سنة 1990.
إن الملفت للمسار الفكري والإبداعي لدى حميش هو قدرته العجيبة على عدم الفصل في كتاباته بين الفلسفة والتاريخ والأدب، إذ يصبح الخطاب مركبا ومستعصيا على أي تصنيف إبستمولوجي، وهو خطاب مراوغ تصب فيه جميع الأنهار المعرفية، لذلك فهو من الأسماء القليلة جدا التي عملت على تجديد الكتابة الفكرية وتحريرها من سلطة التجريد وجعلها كتابة قابلة للاستقطاب والانتشار لدى شريحة أكبر من القراء، كما هو الشأن في كتابه الأخير "الذات بين الوجود والإيجاد" الذي نرى فيه هذا التشابك المعرفي المتعدد المنطلقات والروافد الفكرية، التي ينهل منها حميش أفكاره وتصوراته.
صدر له العديد من المؤلفات الإبداعية والدراسات الفكرية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: "ثورة الشتاء والصيف" (1986)، "محن الفتى زين شامة" (1993)، "سماسرة السراب" (1995)، "في نقد الحاجة إلى ماركس" (1983)، "التشكيلات الإيديولوجية في الإسلام" (1990)، "الاستشراق في أفق انسداده" (1992)، "الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ" (1998)، "الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي" (2001).
هنا حوار معه:

 

(*) بداية وصل كتابك الصادر هذه الأيام عن المركز الثقافي للكتاب "الذات بين الوجود والإيجاد" ضمن 13 عملا أدبيا إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد. ماذا يمكن أن تقول للقارئ العربي عن هذا الأمر؟
لقد تشرفت بجائزة الشيخ زايد العالمية في الآداب للدورة 13 على كتابي "الذات بين الوجود والإيجاد". وهو سيرة ذاتية فكرية، أي أن كتابتي حولها تتضمن فصلا قصيرا هو عبارة عن قطع حياتية، أسترجع فيها فترات من طفولتي ومراهقتي متوخيا الإيجاد والاقتضاب. أما باقي الفصول فقد قصرتها على ما عشته واكتسبته من خلال فضاءات في مجالات الثقافة والفلسفة والآداب والسياسة. يلزمني القول إن هذا التشريف الكبير أيضاً هو عبارة عن تكليف من حيث أني سأعمل جاهدا على مضاعفة اهتمامي بتلك المرافق كي أعمق تجربتي وأخطو بها من الحسن إلى الأحسن.

 

الفلسفة والأدب
(*) ما هي أهم المحطات الفكرية التي ساهمت في تكوينك الأدبي والمعرفي، وأنت ما تزال يافعا تدرس الفلسفة بفرنسا؟
منذ فترة شبابي اهتممت اهتماما كبيرا ببعض التيارات الفلسفية الماركسية والوجودية، وقرأت لكل الكتاب الذين يمزجون بين الفلسفة والأدب، وعلى رأسهم سارتر وكامي وإيكو ونيتشه وإلى حد ما سيمون دي بوفوار، كما أني لم أكتف بقراءة أعمال ماركس ولينين، بل التزمت سياسيا وذلك كماركسي، ثم انتميت إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وإلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حيث كلفت بإدارة مجلة الطالب التي أضفت إليها البعد الثقافي والفكري إلى الجانب السياسي.

(*) من يطالع كتبك يكتشف التعدد المعرفي الذي يطبعها ويجعل منها دوما أعمالا متميزة، إذ أنك تكتب في الفكر ثم في مجال الأدب. إلى أي حد يمكن اعتبار كتاباتك الشعرية والروائية امتداداً عميقاً لمشروعك الذي جئت به في حقل الكتابات المجردة، وأعني الفكر؟
منذ بداية مشواري اكتشفت أني أميل من حيث الاكتشاف المعرفي إلى مرافق شتى ثم عملت

جادا على اكتساب المعرفة في مجال الفكر وفي مجال الأدب. لكن هذا التعدد الذي تحدث عنه النقاد لا يعني أبدا عندي التقدد، بل كنت أحرص على أن أتعامل معه كأوعية يفضي بعضها إلى بعض وبالتالي من وجهة نظري بالطبع أن الأمر لا يتعلق مطلقا بتنوع خراق بل بتنوع خلاق.

(*) روايتك التي صدرت منذ سنوات "مجنون الحكم" تمتح عوالمها المتخيلة من التاريخ، فهي تحكي سيرة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، ونالت هذه الرواية استحسانا نقديا داخل الساحة النقدية العربية. كيف إذاً يستطيع المفكر الذي تعوّد في كتاباته على اللغة التي تجنح إلى التفلسف وصناعة الفكرة قبل تخييلها أن ينتهي به الأمر إلى كتابة رواية، وما يفرضه هذا الجنس الأدبي من معجم أدبي مختلف عن الحقل الفكري؟
أي روائي مجرب ومتمكن لا يضع برنامجا في مجال الإبداع والكتابة بل إنه يشتغل بما استطاع اكتسابه، ويكون هذا الاكتساب العدة التي قد تنعكس على خصومه إما إيجابا أو سلبا، لكن فيما يخصني وبشهادة نقاد كثر، عندما خضت مجال الرواية لم أضع معرفتي الفلسفية والتاريخية في مخدع بل رأيتني أشغل كل المناهل والروافد من أي صنف أتت مع العلم أن العدة تبقى في تحقيق الجودة وتوفير شروط المتعة الذاتية وإمتاع الآخرين.

(*) ما مدى حدود التقاطع والتلاقي في رواية "مجنون الحكم" بين التاريخ كعلم والأدب؟ وهل يستطيع الأديب في نظرك أن يعيد شخصيات التاريخ التي ظلت منبوذة في الهامش لتحتل نصيبا ما من المركز وأن يبعث فيها روحا جديدة داخل متنه الروائي؟
الرواية عندي أستحسن أن لا تكون تاريخا للأقوياء والمتمكنين من السلطة فقط، بل أهدف أن أضع كذلك في نسيجها تاريخا للمغلوبين والمهمشين الذين قليلا ما يتحدث عنهم مؤرخ البلاط والتاريخ الرسمي، ولهذا هنالك فصل في "مجنون الحكم" خصصته لأكبر ثائر على أبي منصور علي الملقب بالحاكم بأمر الله وهو أبو ركوة الذي ثار عليه في برقة ثم ثار بشيخه إلى قاهرة المعز، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يقضي على الخلافة الفاطمية لو لم تحدث في

صفوفه خيانات جعلت جيش الحاكم يتغلب عليه. لذلك نرى أن هنالك تاريخ الغالبين وتاريخ المغلوبين والروائي الحق لا يمكنه إلا أن يعمل وينضوي في الصنف الثاني، وقد برهن على ذلك كل كبار الأدب العربي منهم نجيب محفوظ مثلا في ثلاثيته الشهيرة التي لا يمكن لأي باحث أن يستغني عنها إذا أراد معرفة المجتمع المصري في القرنين 19 و20 وكل رواياته بعد القاهرة الجديدة هي تاريخ حياة الناس اليومية في مصر وبالتماهي في بلدان عربية أخرى.

 

أنا لغتي
(*) اعتبرت في كتابك "الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي" أن الفرنكفونية هي سياسة أكثر مما هي لغة وثقافة داخل الأوساط الثقافية. ما هي تجليات هذا الطرح داخل الثقافة العربية اليوم؟
في ما يخص الفرنكفونية، هل هنالك أنغلوفونية؟ الجواب لا. وهل هنالك عربفونية؟ الجواب كذلك لا. هذا يعني أن في فرنسا هنالك طبقات ولوبيات مهووسة بنشر اللغة الفرنسية في كل أقطار المعمورة، وأنشأت ما يسمى "المنظمة العالمية للفرنكفونية" وهذه المنظمة تعمل فرنسا في تسييسها وتحويلها إلى منظمة مهمتها نشر اللغة الفرنسية وجعل هذه اللغة في موقف المنافسة للغة الأنغلوأميركية وهي طبعا حسب كل الدارسين لن تتوفق في ذلك أبدا، لأن اللغة الإنكليزية ليست في حاجة إلى منظمة كتلك لأنها لغة العصر والجميع متفق على أنها لغة المال والأعمال ومجمل الاختراعات والأبحاث العلمية وبالتالي هي تنتشر ولا تتوقف. ومن حيث تجربتي ولأني عربي اللسان والثقافة أعارضها وأظهر أعطابها ومطباتها، هذا مع العلم أنني فرانكوغراف، بمعنى أنني أكتب بالفرنسية ولي كتب بهذه اللغة بحثا وإبداعا، وأنا كذلك

فرانكوفيلي، أي محب للثقافة الفرنسية في مجال الآداب والفلسفة. ولكنني أعارض بكل ما لدي من قوة الفرنكوفاجيا، أي سياسة السعي وافتراس اللغات الأخرى والهيمنة عليها، وأنا أقول وسأظل أقول مدى الحياة بأني أنا لغتي، كما قال الراحل محمود درويش. وهذا الحق الذي لي يمارسه المثقفون الفرنسيون كما يمارسه مثقفو الإنكليز والإسبان.

 

"صفقة القرن" أكذوبة وفخّ!
(*) هل تتفق معي على أنه مع ولاية دونالد ترامب وتمادي إسرائيل في قتل الفلسطينيين نرى أن قضيتهم تزداد مأساوية أكثر من قبل؟
كان مؤسس إسرائيل بن غوريون يوصي اليهود بضم الأراضي وهم مبتسمون. وها هو نتنياهو يفعل ذلك، مضيفا أعلى الدرجات في استرخاص أرواح فلسطين في مسيرات العودة والاستهتار بكل القوانين الدولية والقيم الإنسانية. السياسة الأميركية حيال القضية الفلسطينية تأدت بالجمهوريين والديمقراطيين مع بعض الفارق في خدمة إسرائيل منذ نشأتها في عام 1948 وذلك بشتى أنواع الدعم منها استعمال الفيتو الأميركي أكثر من 30 مرة في مجلس الأمن حتى باتت إسرائيل وكأنها عضو سري ضمن أعضاء هذا المجلس الدائمين، بل الولاية الأميركية الواحدة والخمسين، ومنها قرار ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل الأبدية حسب تعبير الصهاينة بكل أطيافهم. والواقع أن هذه العلاقة العضوية بين الدولتين هي التي تسود صورة القوى العظمى في العالم العربي والإسلامي الحر مع أن لهذه الأخيرة القدرة على التحكم في ربيبتها وترشيدها.

(*) سياسيا، كيف تشخص المشهد الفلسطيني اليوم؟
إن الغالب على المشهد اليوم أكثر من ذي قبل هو التعطيل المستمر لحل الدولتين وذلك بسبب سياسة الحرب المستدامة المتبعة من طرف الدولة العبرية ضد الشعب الفلسطيني وقياداته، وهذه السياسة تغذي توجه كل من يرى فلسطينيا وعربيا أن الصراع ضد إسرائيل وحاميتها أميركا صراع تاريخي مصيري وأنه الوجه الآخر لصراع العرب ضد تأخرهم التاريخي وتمزقهم، وبالرغم من مرور سبعة عقود على القضية الفلسطينية، فإن الأمل معقود على جيل المقاومين الجدد وقدرة العالم العربي والإسلامي على اكتساب أسباب القوة والمناعة الذاتية وتغيير ميزان

القوى لصالحه مما يستلزمهم بالضرورة رص الصف الفلسطيني وتوحيده وتزويده بالسلاحين المادي والروحي، فإسرائيل كما نعلم تتوفر وحدها في منطقة الشرق الأوسط على القنبلة النووية، كما أنها أعلنت الديانة اليهودية ركنا ركينا في بنية دولتها وعليه إذا لم يتحقق هذا الشرط الوجودي ذو البعدين العسكري والمعنوي فإن ما يسمى "صفقة القرن" بل صفقة الخزي التي تروج لها إدارة ترامب ما هي إلا أكذوبة وفخ للإيقاع بالقضية الفلسطينية واغتيال حقوق الفلسطينيين في العودة وإقامة دولتهم على أرضهم قبل حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا ما تعكسه باستماتة وشراسة سياسة إدارة ترامب التي تشجع على توسيع مستعمراتها وحتى على أن تكون لها مطامع ترابية في الضفة الغربية. وبالإشارة إلى ترامب هذا الوحش الضاري، فقد قالت عنه مؤخرا نانسي بيلوشي الديمقراطية رئيسة الكونغرس أنه خليق بأن يزج به في السجن ولعمري أن هذا الرجاء هو لغالبية سكان المعمورة الحرة عدا قاعدة ترامب المكونة من الفلاحين ورعاة البقر الجهلة وأشتات من الطبقات الوسطى. وفي خضم هذا الوضع المأساوي يعاني الفلسطينيون من عذاب مهين تؤجج نيرانه قوة أميركا العظمى وحتى نيران بعض الدول الشقيقة في ورشة المنامة المذلة والمستهترة والتي عناها الراحل محمود درويش حين كتب: لا... لا أحد/ سقط القناع/ عرب أطاعوا رومهم/ عرب وباعوا روحهم/ عرب... وضاعوا./ سقط القناع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.