}

محمد فراد: نعيش فصلاً جديداً من خيانة بعض المثقفين

بوعلام رمضاني 19 يونيو 2019
حوارات محمد فراد: نعيش فصلاً جديداً من خيانة بعض المثقفين
الدكتور محمد أرزقي فراد (الجزائر اليوم)
المؤرخ الدكتور محمد أرزقي فراد مثقف يحتل مكانة خاصة في المشهد العام الجزائري الذي يبدو أنه يشدّ ويرعب معظم قادة العالم العربي رغم أنفهم ولامبالاتهم الشكلية. وهو مثير للإعجاب والتقدير، وللريبة والتنفير، لأن اسمه أمازيغي وقلمه عربي وقلبه جزائري وتوجهه كوكتيل حضاري وثقافي يحيّر أصحاب التوجهات المتطرفة لغة وفكرا. هذا الاسم الذي برز خلال الأعوام الأخيرة قبل وبعد ثورة الجزائر الثانية، عمق زخم ووهج حضوره بكتب ّهامة دفاعاً عن الثقافة الأمازيغية باللغة العربية التي يكفر بها بعض المنتسبين إليها والذين ينشطون هذه الأيام مدعومين من باريس وتل أبيب تحت راية فرحات مهني، زعيم الحركة الانفصالية التي يحاربها الدكتور فراد الأمازيغي مثله.
في هذا الحوار يتحدث الدكتور فراد عن مكانته كمثقف عضوي يكتب ويبدع ويناضل سياسيا بالقلم وبالهتافات وسط جماهير الثورة التي تجاوزت مفهوم الحراك في تقديرنا وقضت على مفهوم الثورة التقليدي، ويحضر اجتماعات المعارضة جنباً إلى جنب مع معارضين في لحظة تحول هي في حاجة إلى كل أبناء الجزائر لبناء وطن يسعهم جميعا شرط نبذ العنف باسم الدين واللغة والأيديولوجيا الإقصائية بكافة أطيافها:

قوى التغيير
والنظام الاستبدادي
(*) أنت أحد الكتاب المهمين الذين يتميزون بحضور لافت كمعارض قديم وناشط سياسي يظهر بقوة هذه الأيام في عز الثورة التي توصف بالحراك الشعبي. كيف أثّر حضورك المتميز كمثقف؟
في الحقيقة اجتماعاتنا أوسع من المعارضة السياسية، فهي تضم فعاليات عديدة أعني بها الأحزاب والنقابات والجمعيات والشخصيات الوطنية والأكاديمية وأطلقنا على أنفسنا اسم "فعاليات قوى التغيير من أجل نصرة خيار الشعب". لا أعتقد أنني أشكل نوعاً من الاستثناء في المجموعة، لكن طروحاتنا تختلف حسب طبيعة كل فئة من هذه الفئات، وعليه فمن الطبيعي أن أميل بمقارباتي إلى النقاش الفكري العميق، وفي هذا السياق طرحت فكرة المجلس التأسيسي كأرضية للجمهورية الجديدة، في حين أن بعض الإخوة الممارسين للسياسة يجدون صعوبة في استيعاب هذا الاقتراح، لأسباب براغماتية تجعلهم ربما أقرب مني إلى الواقع السياسيّ الذي لا يحتمل - في رأيهم- تغييراً جذرياً.

(*) إذا كنت لا تعتبر نفسك حالة خاصة مقارنة بمعارضين سياسيين بحكم افتقادهم لبعد شخصيتك الفكرية، هل تؤكد أن الحراك الشعبي قد تجاوزك كمثقف، علماً أن هذا الأمر لم يعد يقتصر على الجزائر والبلدان العربية كما عرفنا مع الربيع العربي، والعالم كله اليوم يعاني من تراجع دور المثقف لأسباب عديدة، ويحدث أن يعادي الكثير من المثقفين نوع الحراك بسبب مواقف أيديولوجية هي اليوم في صلب الخلاف القائم بين أكثر من جهة في الجزائر؟
إن ما وقع في جمعة 22 فيفري بالمدن الجزائرية هو زلزال سياسيّ فاجأ الجميع حكاما

ومحكومين، وفاجأ أيضا النخبة المثقفة. قد نفسر ذلك في كون الحدث نتاج تواصل الشباب في الفضاء الأزرق تواصلا أفقيا، أي بدون "قيادة"، والتي تميّز عادة التواصل العمودي المتعارف عليه والذي نشأ عليه جيلي. ولعل ما يؤكد ذهول المثقفين أنهم سايروا مصطلح "الحراك" الذي أطلقته وسائل الإعلام على هذا الحدث، دون فتح نقاش حول التسمية، فهل ما حدث هو مجرد حراك أم هبّة، أم ثورة سلمية؟. ومن مؤشرات هزيمة المثقفين أيضاً أنهم اكتفوا بالاصطفاف وراء المسيرات ينتظرون كغيرهم من العوام التعليمات من الشباب المؤطرين لها، ولم يجرؤ الكثير من المثقفين على تقديم أي حلّ خوفاً من اتهامهم بمحاولة ركوب الموجة. وفي الحقيقة فإن الجماهير قد طرحت انشغال التغيير، وكان من المفروض أن يجتهد المثقفون لترجمة هذا الانشغال إلى أفكار سياسية منتجة لآليات التحوّل نحو العهد الجديد، قد تتبناها الأحزاب والمؤطرون للمسيرات، لأن إنتاج الأفكار من مهام المثقف.

(*) الدكتور ناصر جابي الذي حاورته "ضفة ثالثة" قبل انفجار الحراك الشعبي الجزائري، أكد أن الرئيس السابق المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة تمكن بشكل غير مسبوق من تدجين مثقفين وفنانين كثر من كافة التوجهات المتضاربة فكرا ولغة بمن فيهم أولئك الذين يدعون تجسيد اليسار الثوري والوطنية والعروبة، ومن بينهم من لم نسمع لهم صوتا اليوم وبعضهم غير واضحين في مواقفهم المحتشمة، وجابي قال إنهم أكلوا من مائدة وزيرة الثقافة السابقة في مجال النشر وفي مجالات أخرى وهم اليوم من ركاب موجة الحراك الشعبي. ما تعليقك؟
أعتقد أنه ليس من الإنصاف تحميل رمز واحد من رموز السلطة مسؤولية تدجين المثقفين، لأن النظام الاستبدادي الذي فُرض على الجزائريين غداة استرجاع الاستقلال هو المسؤول الأول بصفة عامة عن ترويض المثقفين من خلال سياسة الترهيب والترغيب وتسفيه دور المثقف والمتعلم بصفة عامة، وهذا الاستبداد هو الذي أنجب الرداءة التي تقود البلد مند عقود طويلة.
ولا شك في الوقت ذاته أن المثقفين الذين قبلوا بمناصب في ظل الرداءة السياسية هم مجرد موظفين يسايرون الوضع حفاظاً على مسارهم الوظيفي، ويخضعون للتعليمات الفوقية وليست لهم خارطة طريق ما دامت الحقائب السياسية توزع بالكوتا بين أحزاب الموالاة لا بالإرادة الشعبية، ويختفون وراء عباءة "برنامج الرئيس" الذي لا يوجد أصلاً.

(*) ألا تعتقد أن ما اصطلح على تسميته إعلامياً بالحراك الشعبي أو الهبة هو ثورة ثقافية من منظور القيم التي عُبّر عنها على أكثر من صعيد سوسيولوجي وسيكولوجي وتاريخي وأنثربولوجي وسياسي الأمر الذي أحدث قطيعة مع الماضي حتى وإن كانت نتائج هذه الثورة لن تؤثر في التغيير السياسي بمفهوم الثورة التقليدي؟
إن ما حدث هو ثورة سياسية/ ثقافية بامتياز، وبصفتي مؤرخا أعتبرها بمثابة "مفصل" للتأريخ، فهناك ما قبل 22 فيفري وهناك ما بعد هذا التاريخ. فهي تحمل هدفا نبيلا يتمثل في السعي للتحوّل نحو عهد جديد ميزته الكرامة والحريات وسيادة الشعب والعدل، وقد استطاعت

هذه الثورة أن تلقح المجتمع بثقافة جديدة، تتجلى في النضال السلمي عبر مسيرات مليونية متميّزة بدقة في التنظيم دون تدخل أحزاب أو جمعيات أو نقابات. باختصار كرست هذه الثورة ثقافة سلم ميزتها التمدن والتحضر، بعد أن ابتلي المجتمع بظاهرة عنف أهلكت البلاد والعباد. وفي الوقت الذي نجح فيه الشباب في إحداث نقلة نوعية ثقافية بتفجير ثورة 22 فيفري السلمية، نجد أن بعض المثقفين لم يتحرّروا من صدمة ظاهرة العنف الماضية، الأمر الذي جعلهم يرفضون كل مبادرة للتغيير بحجة أنها ستعيدنا إلى سنوات الجمر! فهل نحن مقبلون على عهد جديد يشهد ميلاد نخبة جديدة على ركام النخبة الحالية؟ السؤال يؤكد صحة طرحكم في تقديري لأن لا عهد جديد دون نخبة جديدة والقصد دون بداية تأسيس لقطيعة ثورية تمد مفاهيم الثقافة والسياسة والسلوك الاجتماعي بدم جديد صحي يقذف بالدم الفاسد خارج الجسد المريض.

عبقرية الشعب
(*) ما الذي لفت انتباهك في احتجاج الجماهير على صعيد الصيغ المكتوبة والشعارات المرفوعة والهتافات التي كانت تتجدد من جمعة لأخرى تماشيا مع تطور مستجدات الوضع السياسي والأحداث الطارئة المتعلقة بوفاة رموز سياسية ومتظاهرين كما حدث مع ابن المناضل الكبير الراحل بن خدة والسادة أسفران وعباسي مدني وكمال الدين فخار؟
بالنسبة للشعارات المرفوعة في المسيرات، فقد أبانت عن عبقرية الشعب في التعامل مع القضية السياسية بأساليب سميولوجية ومسرحية ذكية، ذات مسحة هزلية أحيانا، وبدلالات عميقة. وهذه نماذج منها:

- "بلادنا حبينا نبنوك، ماحملوهاش اللي خطفوك"

- "لا نريد محاربة الفساد للتمييع، قبل دستور يضمن الحق للجميع"

- "من الخطأ أن نسيّر بلدا، على شاكلة تسيير ثكنة عسكرية"

- "الشعب الجزائري يستحق جائزة نوبل للسلام"

- "مصطفى بن بولعيد باع الكيران (الحافلات) من أجل الوطن، أحمد أويحي باع الوطن من أجل الكيران"

- "احبلي يا جزائر، لعل نوفمبر جديدا سيولد".

الشعب بقي يبدع من جمعة لأخرى، وكما قلت فقد واكب التطورات والأحداث السياسية معبرا عن وعي سياسي مدهش وعن آراء مختلفة ومتباينة بشكل يجسد حرية غير مسبوقة، وهي الآراء التي تعكس تنوع المجتمع الجزائري الذي يجب أن يبني على أساسه مستقبله الصعب لكن المفتوح على آمال لا تعيدنا حتماً إلى ماضي الدم والدموع والدمار في حال التزام الجميع

بقواعد الديمقراطية غير المزدوجة المعايير. وإن وفاة بعض المتظاهرين والمعارضين التاريخيين الذين ذكرتهم عمقت المشاركة الشعبية غير المسبوقة من خلال الحراك التاريخي المستمر بسلمية حتى هذه الساعة رغم كل محاولات الاختراق والتشويه والتشتيت. وخروج أبناء المرحوم أسفران للتظاهر بعد وفاة والدهم هو أكبر مشهد يمكن أن تحلم به ثورة ما في العالم. رحم الله الجميع وعاشت ثورة الجزائر الثانية.

خيانة بعض المثقفين
(*) بعض المثقفين والأدباء الذين عرفوا بمواقف حيال الإسلاميين من الفرنكفونيين والمعربين والخليط بينهم لم نرهم ينشطون بقوة في ميدان التظاهر وحتى بالكتابة المباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلك ومثل كتاب وجامعيين وأساتذة وإعلاميين اتخذوا من فيسبوك منبرا لا حدود له للتعبير في ظل وضوح الموقف وبعيدا عن أي نوع من الضبابية والتردد، وهم بذلك يذكروننا بالساكتين والغائبين اليوم مقارنة بالدور الذي قاموا به قبل وبعد توقيف المسار الديمقراطي. ما تعليقك؟
إن ما يلاحظه المتتبع لمسار المثقفين الجزائريين منذ الحرب الأهلية في التسعينيات إلى يومنا هذا، هو تشظّي مواقفهم كلٌّ حسب أيديولوجيته، على حساب قيم حقوق الإنسان وعلى حساب النزاهة العلمية أحياناً. فهناك من شجّع بالأمس تجريد مناضلي حزب الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) من فوزهم الشرعي في الانتخابات التشريعية المعلن في الجريدة الرسمية، بل وأكثر من ذلك صفّقوا للزج بهم في محتشدات خارج القانون، الأمر الذي ذكرنا بمحتشدات النازية في الحرب العالمية الثانية. وها نحن نرى فصلا جديدا من خيانة بعض المثقفين لمطالب الشعب، عن طريق الاصطفاف وراء موقف الجيش الرافض لمطالب الثورة السلمية المتمثلة في إحداث تغيير جذري في الساحة السياسية. ومن دواعي الألم أن نرى بعض المثقفين الأوفياء، كالدكتور ناصر جابي، والأستاذ مصطفى بوشاشي، يمنعون من منابر الجامعة، ويقمعون في إطار حملة التضييق على الخطاب التنويري، دون أن يتلقوا مساندة من طرف زملائهم. والأدهى من ذلك أن بعض المثقفين يسيرون في اتجاه تشتيت قوى الشعب الملتفة حول مطلب التغيير الجذريّ، باتباع منطق المغالطة المؤسس على تجاوز الصراع الحقيقي بين الاستبداد وبين الديمقراطية، إلى إيهام الرأي العام بصراع مفتعل بين قائد الأركان وبين فرنسا، وكل من ينتقد شطحاته السياسية يتهم بالعمالة لفرنسا. لا شك في أن هذا التواطؤ يعدّ تفعيلاً للشعبوية التي سقط في حبالها الكثير من العوام، والمؤسف أن يلقى هؤلاء المثقفون الذين تنازلوا عن عقولهم، الدعم من القنوات المرئية وشبكات التواصل الاجتماعي، علما أن الدور الحقيقي للمثقف يتمثل في تنوير عقول العوام والأخذ بأيديهم للإلمام بحقيقة الصراع المتمثل بين من يدافعون عن استمرار النظام السياسي الحالي، ومن يسعون إلى التحول نحو منظومة سياسية أفضل تتخذ من سيادة الشعب مرجعية لها.

أفضل مفهوم المواطنة
(*) كتبت أخيراً في صفحتك الفيسبوكية مقالاً هاماً يصب في صلب تطورات الحراك الجزائري ترفض فيه مفهوم الأقلية. هل من توضيح أكثر بهذا الصدد؟
ـ كتبت هذا المقال على خلفية رفضي توقيع بيان يسير في اتجاه معاكس لمفهوم المواطنة

والثقافة الديمقراطية، وهو بذرة مستوردة لا يجب استنباتها في أرضنا المعطاء. وهذا الاتجاه هو في صلب الدراسات الأنثروبولوجية الاستعمارية التي أشاعت أن الجزائريين ليسوا أمة بل هم مجموعة من القبائل والأعراش والقرى المتناحرة، وعليه ليس من الغريب إذا أقبل ممثلوه على توظيفه سياسيا في حلة حصان طروادة لإحداث صدع في الجدار الوطني المرصوص بحجة حماية الأقليات. لقد نشأتُ في محيط أمازيغي يجمع بين الأمازيغية كلغة أمومة وبين العربية كلغة تعليم ودراسة في الكتاب والمعمرة، وهذه الحالة ليست حكراً على محيطي الضيق فحسب بل هي موجودة في طول البلاد وعرضها. ولقد انتشر أهل منطقتي في كل ربوع الجزائر للرزق واستقبلوا بالأحضان أينما حلوا وتساكنوا وتصاهروا مع ساكنة المناطق التي حلوا بها فهل بعد الانصهار يمكن استنبات مفهوم الأقلية في جزائر الشهداء ونحن في خضم التحول نحو جمهورية جديدة ديمقراطية ومتسامحة؟ أنا أفضل مفهوم المواطنة، وهو من الآليات الديمقراطية الجامعة والذي يتجاوز حواجز العرق والدين والقبيلة والجهوية، ويحترم كافة المواطنين الذين توحدهم الحقوق والواجبات إزاء الدولة التي يتفانون في خدمتها. وكل المواطنين في ظله سواسية كأسنان المشط وشركاء في المغنم والمغرم، كما أن مفهوم المواطنة ينسجم مع قاعدة "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" التي أوصانا بها الإسلام. وقارئ كتبي يعرف أنني كنت وسأبقى حارس الوحدة الوطنية بكل أبعادها ومرتكزاتها التاريخية والثقافية والحضارية المتنوعة.

(*) أخيراً، كيف ترى مستقبل الجزائر؟
أذكّر هنا بمقولة الأديب السوري محمد الماغوط "الطغاة المستبدون كالأرقام القياسية، لا بد أن تتحطم في يوم ما". فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. وأكاد أجزم أننا أمام جيل جديد آل على نفسه أن يواصل النضال السلمي، إلى أن يتحقق نصر التحول نحو نظام ديمقراطي، الذي يحرّر الطاقات الكثيرة التي كبلها الاستبداد والفساد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.