}

عمر أزراج: مشكلة الكثير من المثقفين الجزائريين فقدان الضمير(2)

بوعلام رمضاني 4 مايو 2019
يحلل المبدع الجزائري عمر أزراج في حديثه إلى "ضفة ثالثة" انتفاضة الشعب الجزائري، ويتحدث بجرأة وتبصّر بطريقة قد تغضب أكثر من مثقف عرفه عن قرب بحكم معرفته العميقة لماضي عدد كبير من الكتاب اليساريين مثله، والذين قال إن الكثير منهم لم يكونوا ضد النظام الجزائري الفاسد. وأزراج الذي تحدّث بروح تحمله مسؤولية أدبية وأخلاقية كبيرة في سياق تاريخي جزائري غير مسبوق بعد تاريخ ثورة تحرره الأولى، أنهى حديثه بإهدائنا قصيدته "العودة إلى ثيزي راشد" التي قال إنها كانت عنوان مرحلة مطاردته أمنيا واضطراره إلى الهروب في ظروف كافكاوية.
هنا الجزء الثاني والأخير من الحوار:

(*) هاجرتم شيوعياً فكرياً، وخلال إقامتكم في المهجر اللندني عرفت الشيوعية تراجعا نظريا وعمليا في الواقعين الفكري والسياسي. هل ما زالت شيوعيتكم مبدئية كما كانت عند الراحل الطاهر وطار، وكما لا تزال عند رشيد بوجدرة، أم أنكم بادرتم إلى نقد ذاتي لمسيرتكم الأيديولوجية. إذا كان نعم كيف، وإذا لا كيف؟
لم أكن شيوعيا منظما في تنظيم أو جمعية أو حزب منذ وجودي في رحم أمي لغاية خروجي إلى المهد وحتى هذه اللحظات. لا أخفي أبدا أنني أتعاطف وأرتبط مع كل تقدم لا يفسد الإنسان بما في ذلك الحلم الشيوعي في إقامة العدل في العالم وأساند كل ما يمكن أن ينجز هذا الحلم الجميل حقا، وأستطيع القول بأنني قارئ مولع ونشيط للفكر الديالكتيكي وللجدلية التاريخية الماركسية، وأوظف في مشاريعي النقدية المكاسب النظرية للماركسية وخاصة الماركسية المتطورة التي تبتعد عن الحتمية الأرثوذكسية والتفسيرات الاقتصادوية ذات البعد الواحد المتزمت لحركة التاريخ والمجتمعات. وماركس نفسه في كتاباته عن الهند لم يطلب منا أن نكون شيوعيين أو رأسماليين وتحدث عن الطريق الثالث الذي يموقع فيه الجزائر وهو أسلوب الإنتاج الأفريقي الأسيوي المتميز، وفي هذه الكتابات قدم نقدا للاحتلال الفرنسي ولسياساته المخربة للإسلام وللتكوينات الثقافية الخاصة بالمجتمع الجزائري. إضافة إلى ما تقدم فأنا لا أملك مسيرة أيديولوجية وإنما أملك مسيرة وطنية وإنسانية وشعري يكشف عن هذا تماما. لا أخفي عليك أيضا أن تأويل التاريخ طبقيا ووفقا للماركسية "العجوز" لا ينبغي أن يفرض دائما

مثل سرير بروكوست على كل المجتمعات، كما أن القول الماركسي بأن الاقتصاد أو الواقع المادي هو الذي يشكل الوعي فيه كثير من المغالطات. وفي التحليل الأخير فالماركسية التقليدية لم تشتغل على اللاوعي الثقافي بجدية ما عدا عدد قليل من المفكرين والنقاد المعاصرين منهم أقطاب مدرسة فرنكفورت. وبالتأكيد فإنني أراجع مساراتي نقديا بشكل مستمر.

(*) وماذا عن شيوعية الروائيين الراحل الطاهر وطار، ورشيد بوجدرة، في علاقتها النظرية والعملية بما جاء على لسانكم؟
الروائيان الطاهر وطار، ورشيد بوجدرة، ليسا بشيوعيين معتقداً وموقفاً فكرياً وأدبياً. فالطاهر وطار في تقديري هو مثل الفجل، الأحمر من الخارج والأبيض من الداخل، أما رشيد بوجدرة فهو لا يتمتع بالثقافة الماركسية والشيوعية بصورة واضحة ومؤسسة فلسفياً. وفي هذا الصدد أذكر ذلك النقاش الذي جرى أمامي في ثمانينيات القرن العشرين بين الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي دعوته شخصيا إلى الجزائر وبين بوجدرة حيث اتهم الأخير ما سماه بالبرجوازية الفلسطينية بكذا وكذا فأجابه درويش بقوله إن هذه البرجوازية الفلسطينية لا وجود لها إطلاقا لأن إسرائيل تحتل كل شيء، ولأن وجود البرجوازية حسب النظرية الماركسية أو النظرية الرأسمالية مشروط حتميا بوجود إنتاج ووسائل إنتاج وعلاقات إنتاج، وهذه الأمور هي بين أيدي إسرائيل ومنعدمة في المجتمع الفلسطيني المحتل كليا. وأضاف درويش قائلا إن بوجدرة لا يميز بين الأثرياء وبين الطبقة البرجوازية، ومن ثم ابتسم وأشار إلى أن نغادر المكان ونتوجه إلى مستقره بفندق الأوراسي ففعلنا.

في بريطانيا اكتشفت أميتي الفكرية
(*) كيف انعكس عيشكم في بلد متقدم وخاص جدا كبريطانيا تحديداً عليكم أدبيا وفكريا وسيكولوجيا ومهنيا علما أنني أتصور أنه غيّر وجودكم الإبداعي العام والخاص الشخصي جذرياً؟
أوافقك تماماً بأن المهجر البريطاني غيرني جذريا وجعلني أدرك جزائريتي أفضل. في هذا البلد الشبه قطبي الشمالي اكتشفت أميتي الفكرية وبقايا البداوة في التشكيل الداخلي لعواطفي، وهكذا عملت سنينا طويلا لكي أخرج من هذه المنطقة الرمادية. قمت بتثقيف حواسي، وطريقة قراءتي للأشياء، وعلاقتي بالناس وبالعالم، حيث أصبحت أهتم كثيرا وبإمعان بالعلاقات بين الأشياء بدلا من صب اهتمامي على الأشياء ذاتها، ولقد ساعدتني دراستي الأكاديمية للتحليل النفسي ومزاولتي له إكلينكيا على التعرف على الأزمات التي رافقت تكويني النفسي وشكلت وعيي ولا وعيي معا، وقادني هذا إلى تحسس مكانة ذاتي ضمن الطبيعة والثقافة. كل هذه التغيرات صارت لي سمادا استمد منه خصوبة أسلوبي في رؤيتي للعالم وللكتابة الشعرية والفكرية.

(*) لتكريم وطن شكسبير، أعظم وأشهر مسرحي عرفه العالم، أسألكم ما الذي تعلمتموه

أولا وأخيرا من الشعب البريطاني، ومن هي الأسماء الإبداعية التي أثرت فيكم في مختلف المجالات، وخاصة تلك القريبة إلى تخصصكم وإلى اهتماماتكم؟
أهم شيء تعلمته في بريطانيا هو التواضع، والاستماع إلى الآخرين أكثر من الكلام. تعلمت من شعراء إنكلترا أن الشعر الحقيقي ينعدم من دون السند الفلسفي العميق والأسئلة التي تطرحها التجربة الشخصية على تحولات الإنسان والتاريخ. قرأت أعمال هيوم، وباركلي، وشكسيبر، وإليوت، وإزرا باوند، وشيلي، وبيرون، وكيتس، ووليم بليك، وغيرهم كثر.

اختلاط الحابل بالنابل
(*) لم يسركم مقالي "ثورة سلمية من دون مثقفين ودماء" الذي نشرته في موقع "ضفة ثالثة"، وعلقتم عليه مبدين تأسفكم على إهمالي دور بعض المثقفين في استباق ثورات الشعوب في الوقت الذي قصدت فيه مثقفين جزائريين وغير جزائريين حملوا شعارات ثورية تقليدية لم يرفعها شباب الحراك الجزائري كما أطلق عليه. هل يمكن شرح موقفكم أكثر بهذا الشأن تحديدا؟
أولاً أعتز بموقفكم من الحراك الشعبي الذي ندعمه ونسانده ونعتبره حركة نحو التقدم، أما خلافي معكم فهو خلاف ودي. أختلف معكم لأنكم اعتبرتم عددا من الكتاب حلفاء للحراك الشعبي أو مقاومين للنظام الحاكم الذي نعمل منذ أكثر من أربعين سنة على إسقاطه. فأحلام مستغانمي مثلا لا ينبغي اعتبارها جزءاً من الحراك الشعبي إلا بالريموت كونترول والكلام المعسول وهي ليست عنصراً مكملاً له. هذه الكاتبة لم تعارض النظام الجزائري الذي انتفعت منه ماديا وأدبيا في الوقت الذي تم فيه تهميش المجاهدين والمجاهدات وأبنائهم وإلغاء مثقفين نذكر منهم على سبيل المثال فقط محمد أركون ومحمد حربي وأبناء فرانز فانون وجميلة بوحيرد، فضلا عن طمس وتفقير أدباء جزائريين كثيرين صمدوا ضد هذا النظام الغاشم وهلمجرا. في ظل غياب كتابة تاريخ مواقف ونضال المثقفين الجزائريين من أجل الحريات والديمقراطية فقد اختلط الحابل بالنابل وهذا مؤسف حقا.

(*) أنا لم أذكر اسم مستغانمي في مقالي وليست لي علاقة شخصية منفعية معها حتى أدافع عنها، وأختلف معكم بتأكيدي أن بعض المثقفين أو الكتاب قاوموا النظام الجزائري وهم في صلب وعمق الحراك الجزائري اليوم. مع ذلك دعنا نستمر في الحديث عن الحراك وأسألك هل كنتم تتصورون قيام هذا الحراك كمثقف وكاتب صحافي تخصص في الشأن الجزائري في صحيفة "العرب"؟
أكتب بانتظام في هذه الصحيفة منذ عام 1990 ومعظم تحليلاتي مكرسة للشأن الجزائري. وقبل قيام الحراك الشعبي كتبت مرارا قائلا بأن بوتفليقة خذل تاريخ حركة التحرر الوطني وها هو يشجع الفساد ويدمر أمل بناء التعددية السياسية جراء توظيفه لحكم الرجل الواحد الذي هو

بالذات، فضلا عن تكريسه للعصبية السياسية الرجعية المتمثلة في عائلته وجماعة تلمسان التي عين منها 13 وزيرا. وركزت أيضا على خرقه للقوانين وللدستور. من عام 2007 إلى عام 2019 عشت في الغالب في الجزائر وكنت أحس أن شيئا ما سينفجر، ولقد ذكرت هذا في مقالاتي. أما تحرك المواطنين والمواطنات فلم أكن أتصور أن يخلو من العنف المادي، وتميزه بالسلمية يُعدّ في تقديري معلما ثقافيا جميلا وجمالية سياسية.

(*) خرج الكثير من المثقفين اليساريين من جحورهم كما كتبت، أو الكتاب كما تفضل أن تطلق عليهم كما أعتقد، وركبوا موجة الحراك، وبعضهم لم يندد بالفساد البوتفليقي جهرا وكانوا يشاركون في صالون الكتاب بأريحية. وذكر عارفون أن بعضهم أكل من صحن وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي ويقال إن بعضهم تطلع إلى الظفر بمنصبها. وهؤلاء هم مثل المثقفين العرب الذين سكتوا ويسكتون على بطش الأسد والسيسي وأمثالهما وتفرغوا لمهاجمة الإسلاميين فقط خوفا من وصولهم إلى السلطة. ألا ترون أن معاداة الإسلاميين باسم الدفاع عن الحرية والديمقراطية من منظور هذا النوع من المثقفين غير منسجم مع المفهوم الحقيقي للمثقف المتفهم لصيرورة التغير الاجتماعي الجدلي علما بأنك تتقاسم مع هؤلاء اليسارية بشكل أو بآخر؟
تحليلكم دقيق وأشارككم في كثير من التحليلات والنتائج، وأريد ان أضيف فقط بأنني أعتقد أن مشكلة جزء كبير من الجزائريين والجزائريات المحشورين في خانة "المثقفين" حشرا هي مشكلة فقدان الضمير والصدق والأمانة.

(*) المثقفون الذين أدينهم اليوم هم الذين وقفوا مع العسكر في التسعينيات قبل اندلاع حرب الإخوة الأعداء التي أشعلت العشرية السوداء الإرهابية، وبعضهم متوجس ومتردد اليوم حيال الدور الذي يلعبه العسكر تحت مسميات جديدة بعد تغير أسماء قادة أركان الجيش. ما تعليقكم سيما وأن موقف حزب الثقافة والديمقراطية الذي يرفض أي نوع من المرافقة العسكرية بعد أن أيد الانقلاب العسكري عقب انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ مخالف للراحل حسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية؟
مرة أخرى أتفق معكم في هذا التشخيص لأمراض المثقفين الانتهازيين ولتذبذب عدد كبير منهم، وأدينهم أيضا كما قلت لكم سابقا. أكرر بأن غياب كتابة تاريخ المثقفين الجزائريين في الماضي والحاضر، فضلا عن انعدام تقاليد المجتمع المدني المستقل، وغياب فصل الجهاز العسكري عن السياسة وتسيير الشأن العام، هي من بين الأسباب التي لم تؤد إلى غربلة وفرز شريحة المثقفين من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأطماع في المناصب والامتيازات وحب الظهور والهيمنة هي التي تدفع بهؤلاء إلى الركوع للسلطة وخاصة سلطة الجيش والمخابرات. كما تعرفون، فإن جميع المناصب الحساسة والوظائف السامية في الدولة على المستوى المركزي أو على مستوى الولايات والدوائر والبلديات الكبرى لا تُسند إلى أي كان إلا بتقرير من الشرطة والمخابرات ووكلاء الجمهورية الذين يمثلون السلطة التنفيذية التي تخضع بدورها للمخابرات والعسكر. في هذا المناخ لا يصمد أمام إغراءات المناصب والامتيازات إلا من حفظ ربك.

دور المثقف الوطني النقدي
(*) أخيراً كيف ترون دور المثقف في جزائر يسيطر فيها الشارع ويحدد فيها مسار المستقبل من دون قيادات سياسية وفكرية تقليدية، وهل يغلب عليكم التفاؤل حيال لاحق الأيام أم أن التشاؤم هو الذي يطبع نفسيتكم أم أنكم من المتشائلين. لماذا في كل الحالات؟
دور المثقف الوطني النقدي في تقديري هو فهم مجتمعه أولاً وإقامة علاقة التعليم والتعلم مع

الشعب والبحث عن المنهج الذي بمقتضاه يتأسس مشروع بناء الإنسان الديمقراطي والحديث، وثانياً أن ينتج ويمارس الثقافة المتقدمة والمتحضرة، وأن يجرب ممارسة فعل الديمقراطية وقيم العدالة والحرية على نفسه أولا ومن ثم يدافع عنها. ما يجعلني متشائما هو أن ثقافة مشروع الدولة الحديثة بكل مقوماتها لم تتضح لدى معظم المثقفين الجزائريين، وفي هذا الصدد يعجبني قول سارتر بأن وظيفة المثقف هي أن يتجاوز تخوم مهنته وتخصصه، ويعني هذا أن يعمل المثقفون على غرس وتجسيد جماليات القيادة الحضارية في المجتمع بدلا من مهادنة وسائل وخطابات الحكم التسلطي أو التماهي معها وإعادة إنتاجها.

(*) هل تتفضلون بإهداء قصيدتكم الشهيرة "عودة إلى ثيزي راشد" إلى كل أعداء الأحزاب المتحجرة الفاسدة مثل حزب جبهة التحرير الوطني الذي تاجر بالشهداء الذين يعودون اليوم من خلال انتفاضة أبناء وأحفاد ثورتهم؟
بمناسبة هبّة الشعب الجزائري ليدافع عن الحرية يسرني أن أنشر مجددا النصَ الكامل لقصيدتي التي ألقيت بعض مقاطعها في عام 1983م في مهرجان الشعر "محمد العيد آل خليفة" بمدينة بسكرة وقدمت فيها نقدا لحزب جبهة التحرير الوطني المكرس للأحادية المتناقضة مع أبجديات الدولة الحديثة، ومع الأسف فإن هذا الحزب لا يزال يعيد إنتاج نفس الذهنية حتى يومنا هذا. في ذلك الوقت تعرضت بسبب هذه القصيدة للملاحقات الأمنية، وللترهيب النفسي، ولمحاولات التصفية، الأمر الذي أدى بي إلى مغادرة الجزائر إلى بريطانيا لأواصل هناك مواجهتي لهذا الحزب ولأجهزة الدولة القمعية. لقد كلفني موقفي 22 سنة من الغربة والعزلة، ولا أزال أدفع الثمن إلى يومنا هذا، حيث يسلط ضدي الآن الطمس والتهميش وشراسة المنفى داخل الوطن. 

أيها الحزب الذي حوّل الأرض دموعا

فلماذا "افترقنا دهرا ولما التقينا كان لقيانا وداعا؟"(1)

ولماذا ذهب الوقت إلى النسيان(2)؟ ماذا ينفع الإنسان إذا ضيَع أقفال البراءه؟

ولماذا ينحني ظل الحياة حين نعلو ونشيخ في الجبال وبقرب البحر

تؤوينا الطفوله؟(3)

كيف لي أن أغلق الليل سريعا كي ترون الدرب يجتاز السلاسل 

والعصافير سواقي للأغاني وينابيع القرى تسري قوافل؟      

يا بلادي لست أرضا وكفى، أنت ندى في حجر، حين يهب الخوف تنهال على قلبي شظايا الشيب فجأة،

تترك الشمس يديها والطيور ترتدي منفى الرماد

يسقط الظل على صوت الشجر  

والهواء يطفو سخاما وتغزو نعاسي الإبر

كم تغيّرنا إلهي كم تغيّرنا وأضحى العشب مخلب

أيها الطفل المجربْ

أيها الطفل الذي قمَطته ريح العقارب

أيها الطفل الذي يلبس في الظلمة قفطان الكواكب    

لم تسعك الطرقات

والعمارات وأكياس اللغات

أنت أوقفت السحابات على زندك، أجلست الهواء

ثم غنَيت له حتَى ارتدى سفر البكاء

أنت أسكنت النساء

في خرير الكلمات

أيها الطفل الذي شردته لسعة الشك

لم تسعك الطرقات

والقطارات وأمواج الإذاعات

ولبلاب الشفاه المائله

لم تسعك نقطة أو فاصله

فلمن تحكي إذن دهشتك القصوى؟

لماذا تنسج الروح دخانا؟

ولماذا غادروا الحلم وقرط العاشقه؟

ولماذا استسلموا أو صعدوا خيط الوظيفه؟

فلمن تحكي إذن قصة أشجان الطفوله؟

إنني أسأل أسراب الحمام:

فلماذا لم يعد سحر الكلامْ

خبزة أو مزرعه؟

ولماذا مزَقوا، ليلا، مناديل اليمامْ

ثم ذروها بين كفَي غابة محترقه؟

ولماذا غلَقوا عشبة الروح في كهف الظلام؟

 ***

في الجهات الستَ أعوي: لماذا لم يخيطوا للنساء                                                       
جبَة الماء وزهر الضوء في ليل المصير؟                                                                           
العصافير سماوات وتفَاح القرى يسرق في الفجر وسحر نبيذ العمر يسقى للنسوة في السوق

وفي الحقل الذي مدّ إلى الفلك الشراع.

حان لي يا أهل " ثيزي راشد" الأفيون والحمَى وأغصان الشَعاع

أن أخرج الكهف منا، حان أن أهجر أسوار الرموز

حان أن أسحب التاريخ من يأسه، حان لي أن أخلع خوفي من الوحش وقطّاع الطرق

حان أن أهجر أقفاص الخيام

للرياح قلت: لفيني بقطن ساعديك كي أنام

بين موتانا وبرد الظلام

حان لي أن أختفي داخل نفسي ضد يأسي

ثم أمشي نحو "سعديَة" الحلم في الفجر

وبذكر الحب تزداد الخطى عشقا وزهوا

وحوالي الدار درت وسألت النار والجار، وظل الطير والثوب القديم

ثم لملمت حواسي، فتحت الباب، في السقف أطلت قربة عطشى وأكوام الهشيم

أيها الحب القديم

لم يعد سحر الكلامْ

يرجع الموتى إلينا بعدما صاروا حطامْ

 ***

سأغادر الآن لغة الهمهمه

أكسر طبل الرمز وعكاز الأغاني

أفقس سجادة التجريد

وداعا لكل امرأة غامضه

وداعا لكل دالية لا تُثمر إلاّ في الوهم

 وداعا لمحترفي وأد الحلم

وداعا للاستمناء

عاصمتي قلوب الناس، لغتي تفاصيل

علاقتهم بالكون وخصور حبيباتهم

وداعا لكم أيها النقاد

يا من سيحتفلون بموت العشب في قارّتي

وهجرة الروح بعيدا عن حقول القصيدة

وداعا يا من سيختلفون في تحديد مساحة قبري

وداعا لكم أيها النقاد

وداعا يا قرائي القدامى

وداعا يا غزالات السراب

وداعا أيها الحكام

الجالسين على الأرائك

والباحثين عن الحب خارج الأرض

وداعا فلا شيء أجمل من هذا الرحيل

ولا شيء أقدس من هذا الغناء:

[عندما يضحي الكلام

كذبا يحرسه سجن الظلام

نفقد الأرض وأبراج الحمام]

 ***

في طريقي نحو ثيزي راشد الزهو

وأجراس الكرز

أوقفتني نسوة القرية قرب النبع. كان الفجر عنقود عسلْ

ويمامات قبلْ

بغتة غنين لي: فلتقترب يا أيها المدمن بستان الجفون وصفصاف الجسد

وصدى الخلخال يرعى نساء الزبد

وكواليس قصور الحكم في الحزب والدولة، عد نحو البلد

والمدى الممتد نايا في شرايين الأبدّ

قل وداعا، إن غرناطة روحي في ملفات المقاول

قل وداعا، إن غرناطة في مبنى الدرك

هكذا ضاعت بلادي

أيها الحزب الوحيد

***

أيها الحزب الوحيد

أدرك الشيب الصغار

أيها الحزب الوحيد

غزت النار الديار

أيها الجالس كالفقر علينا

أيها الواحد كالقفر فإنّا

نرفض النزهة في السجن والإنجاب في المنفى المشجرْ

أيها الحزب المحجرْ

أيها الحزب الذي فرَخ قطعان الطحالب

أيها الحزب الذي حوّل أجراس الينابيع مخالب

إننا نطلب شيئًا واحدا منك/ تجدّدْ، أو تعدّدْ،

أو تبدّدْ

فأنا القائل لا واحد إلا الشعب والباقي زبدْ

آه أطفال البلدْ

البسوا أحلامنا الحافيه

ثم صيحوا في البراري:

يسقط القيد وظل الطاغيه

***

وكأني أبصر الدنيا بساتين وأحلام الندى تسعى مروجا

ونواقيس صلاة الروح للوجه الذي نهوى. لماذا كنت أعلى

عندما كنت صديقا لهديل ركبتيها؟

ولماذا صار أنفي قابلا للمحو في جوف المدينه؟

ولماذا هرب الزيتون من كفّي،

ونبع السحر من حرفي

لماذا يصبح الكاتب ظلا؟

لست أرثي أحدا، لكنني أشكو الجفاف

لست أرثي أحدا، هذا جسدي وقت ووقتي ضفاف

أصدقائي لم أجد في شعركم نبض الزراعه

لم أجد إلاَ خرافات الحكومه

أصدقائي لم تعد تنبت أشعاركم حقل الحقيقه

فوداعا أصدقائي أو طلاقاً

ووداعاً أيها الأزراج يا نصفي الخبيث

أذهب الآن بعيدًا في الهوى، أشعل البركان في "قصر العقارب"

أوقظ الأرنب وسلَحه كي يغدو محارب

ضد اللص والقص، علَمه سحر البحر الذي يغوي القوارب

إنه الطوفان فلا شيء يعصم الطغيان، لا النهر ولا ذيل السحائب

ولا البرَ، ولا القصر، ولا سجن المناصب

أيها الحزب الذي فرَخ قطعان الطحالب

أيها الحزب الذي قيَد ريش النبع وزند التاريخ مهلا فالجبال تلد الأنهار فتعلو ثم تعلو فوق كثبان المخالب

أيها الحزب الذي يحفر في الفجر المقابر

إن نفيت الشاعر في الجب فهذي الأرض، في دورتها، تنبت زيتونا صبيا وتصيح في الغصون الحناجر

إنني أسأل صحراء الضمير:

فلماذا السجن في قصر العداله؟

أيها الحزب الذي يدعى الوسط

إن شعبي قد قنط

كلّ شعبي قد قنط

صدق الكافر بالجنّة إن كان بها قوّاد وشرطيّ ولصّ وسوط

***

آه شعبي.. آه شعبي

في بلادي أصبح الخلخال قيدا

(بسكرة/ 1983)

 هوامش:
1 ــ تحوير بيت للشاعر المتنبي كتبه وهو صبيّ لم يتجاوز عمره 13 عاماً.
2 ــ لعب على فكرة هيدغر عن الكينونة التي نسيها العقل الغربي.
3 ــ في فيزياء الكم نتعلم أنه عندما يكون الإنسان في الأعالي تدركه الشيخوخة قبل الإنسان الذي يعيش في المنخفضات، وهذا هو حال حزب جبهة التحرير الوطني الذي يعيش في الأعالي وفوق الشعب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.