}

محمد علي شمس الدين: العمق الفلسفي في الشعر ضرورة

تغريد عبد العال 20 أبريل 2019
ما زال الشعر بالنسبة لمحمد علي شمس الدين جرحاً من أقدم جروح الغيب، ففي ديوانه الثالث والعشرين "كرسي على الزبد" يحاول الإمساك بلحظاته الهاربة، فالشعر أيضاً هو اللاقبض على المعنى. وها هو يتنقل في اللغة، ويلبس تلك الأقنعة في لعبة شعرية لمراوغة المعنى، وتأكيد الذات الشعرية في حوارها مع الآخر.
يعدُّ شمس الدين من أهم الشعراء اللبنانيين والعرب، ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، الإسبانية والإنكليزية والفارسية، وهو من مواليد بيت ياحون (1942)، القرية الجنوبية اللبنانية.
هنا حوار معه:

(*) "كرسي على الزبد" هو نشيد للهشاشة والجمال في هذا العالم رغم الدمار والقبح الذي يحيط بنا، فماذا يفعل الشعر في عالمنا اليوم؟
هي أناشيد تنطوي على ملاحظات وجودية حول هشاشة الأشياء، وجمالية التحولات، لأن فكرة الخلود أو عشبة الخلود تكاد تكون حلماً من الأحلام المستحيلة. وفي النتيجة أستطيع أن أعتبر أن القصائد في معظمها بمثابة مراثٍ لكل شيء. المراثي هي شعر العالم.

الإيقاع ثم الإيقاع ثم الإيقاع
(*) في ديوانك "كرسي على الزبد" مشاهد سينمائية، الى أي مدى يقترب الشعر من الفنون الأخرى؟
أنا كلمتك عن الفكرة الأساسية من الديوان، أما التقنيات التنفيذية للقصائد (تقنيات الكتابة) عندي فهي تقنيات مفتوحة، فأنا شخصياً من أولئك الذين يدخلون المشهد البصري والحركي (السينمائي) في تركيب الصورة الشعرية، يضاف لذلك ما يشبه الحكاية لأن التجريد الخالص في مسائل مهمة يقتل الروح الشعرية ويصبح مسألة تمت بصلة قوية للتأمل المجرد أو الفكر الفلسفي غير الحيوي، بالاستناد إلى الصور، اللون، الحركة، المشهد والإيقاع ثم الإيقاع ثم الإيقاع، أي الموسيقى الأساسية لكتابة أي نص شعري، هذه الموسيقى عندي هي أساس، حتى أن الشعر عندي هو بث روح الموسيقى في كتلة اللغة، في طين اللغة.

(*) ما زال للإيقاع مكانه ومكانته في عالمك الشعري، فأين ترى مكانه في عالم قصيدة النثر اليوم؟
لم يتخلَّ أحد عن الإيقاع، وحتى في قصيدة النثر ما زال موجودا، لكنه أحيانا يكون إيقاعا

حجريا وليس إيقاعا موزونا، لأن كلمة إيقاع تمت بصلة لعالم الموسيقى أكثر مما تمت بصلة لعالم الشعر. في الشعر يقال الأوزان باستثناء فيلسوف واحد هو ابن سينا استخدم كلمة إيقاع وكان يقصد به الوزن. في النظرية النقدية القديمة، وهي نظرية فلسفية على العموم، لدى المثلث اليوناني، وبعد ذلك للفلاسفة العرب مثل الفارابي، ابن سينا، وابن رشد والى آخره، فضلاً عن النقاد العرب من قدامى ابن جعفر حتى آخر المنظرين، كانوا يعتبرون أن الوزن هو أساس في صنع الشعر، وبالتالي أي كلام من دون وزن قد تكون له تسمية أخرى، وقد تكون فيه شعرية، لكن الشعرية غير الشعر، فابتكروا مصطلحاً لأنواع الكلام التي تنطوي على شعرية، ولكن لم يسموها شعراً. القرآن هو القرآن، أو الذكر الحكيم، السجع هو السجع، شطحات المتصوفة وكلامهم هي الإشارات والتنبيهات أو المواقف للنفري، كلام علي بن أبي طالب هو نهج البلاغة وهكذا، إلا الشعر فإنه يشترط به الوزن، لكن الوزن مع الخيال، فاليونان القدماء قالوا (المشابهة) وضلوا السبيل بالنسبة لفهم الشعر، وضعوه في مرتبة متدنية في ملكوت المدينة التي يحكمها الفيلسوف، وأعطوا أهمية كبرى للعقل، يعني النظرة الأبولونية في حين أن النظرة الدينوزيسية أي تلك التي تتصل بالمشاعر والحواس والغرائز اعتبروها سفلية، ولا تمت بصلة للشعر. جاء نيتشه فيما بعد وهايدغر وصوبا النظرة واعتبرا الشعر ليس محاكاة لشيء بل هو ابتكار أول للوجود بالكلمات وهذه الفكرة كان قد أرسلها ابن عربي قبلهم، في كتابه (الفتوحات المكية)، حين اعتبر الشعر هو المولود العظيم للخيال وبالتالي يصبح الشاعر قرينا للخالق، وسأل نفسه لماذا، وقال لأنه بالخيال يوجد الشاعر ما ليس موجودا وهذا هو الخلق.
بالعودة الى مسألة الإيقاع، الإيقاعات التي كانت هي الأوزان بالنظرة القديمة للشعر، توسعت رقعتها لتصبح توازنات وتصبح أمورا ناعمة، قوى ناعمة للقصيدة، قوى ناعمة لا نستطيع أن نحدد مسارها وأبعادها سلفا. إن توسيع أفق الشعرية هو من خلال توسيع معنى الإيقاع والانتقال من الأوزان إلى التوازنات الكثيرة في الكلام، وأنا أجد هذه التوازنات موجودة في أي سرد.

(*) وفي قصيدة النثر أيضاً؟
وفي قصيدة النثر، ولم لا فليكن هناك توسيع لأفق الشعرية منذ بودلير حتى الآن، لكن الخلل

الكبير والخطأ العظيم هو الاعتقاد أن الأوزان والتوازنات والإيقاعات هي كلها في قصيدة النثر، هذه مسألة مرفوضة، قصيدة النثر هي جزء من الشعرية، وليست الشعرية جزءاً من قصيدة النثر، ولذلك أنا قصيدتي مركبة، أستعمل كل التوازنات والأوزان، والمرسل، وأكسر الأوزان إذا تطلبت الشعرية، وأكتب نصاً شعرياً في النتيجة، أشكاله متعددة، ولماذا لا أستفيد من كل المعطى، فأنا ابن ثلاثة آلاف عام من الأوزان في اللغة العربية. هذه هي المفارقة، في حين أن هناك آخرين يرفضونها أصلاً ومنهم محمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي. وأما أدونيس فبعد أن قبلها مئة بالمئة رفضها مئة بالمئة، أنكر وجودها وأنكر أنه كتبها وأنكر أن أحداً في العرب كتبها وهذا أمر عجيب، بينما كان في بيانه في مجلة شعر أول من نظر لها تأسيساً على سوزان برنار التي لم يذكرها، وأول من أسس لمفهوم قصيدة النثر العربية، ثم تنصل منها، عبر مقابلات وآراء له. وهذا انقلاب مزاجي ولا يصلح أن يكون قاعدة نقدية. أنا أقبل المبدأ وأعتبر أن قصيدة النثر هي إضافة للشعرية العربية التي هي أشمل من كل الأوزان وتوازناتها. الشعرية التي تستطيع أن تبتكر أشكالها وتبتكر ايقاعاتها.

(*) هناك محاولة لإعادة تعريف الشعر من خلال الديوان، فإلى أي تعريف وصلت، هل ما زال جرحا من أقدم جروح الغيب؟
بالطبع، تعريفي للشعر هو أنه جرح من أقدم جروح الغيب، وهو يمت بصلة لفهمي للشعر على أنه يأتي من ناحية الغيب. والغيب يبدأ من المستور وينتهي بسر الأسرار "الله عز وجل"،

(يسألونك عن الغيب، قل الغيب من أمر ربي)، الغيب الذي لا أستطيع تفسيره هو الله. لماذا جرح؟ لأن الشعر هو كلمة، وإذا فتحت فيروز آبادي كلم أي جرح، الكلمة هي جرح، لماذا جرح، لاستخراج دم الكائن، إذاً هي جرح لاستخراج المعنى، من الأقدم، لأن الشعر هو فعالية بشرية مرتبطة بالانسان منذ أن وجد. هذا هو تعريفي وما زلت عليه ولكن أضيف بعض الملابسات عليه. في ديوان "كرسي على الزبد" عندي اضافة على هذا التعريف بأن الشعر هو ليس ما تقبض عليه بل ما يفلت من يدك، وهذه وضعتها كحوار مع بيت شعر لسعيد عقل يقول فيه: الشعر قبض على الدنيا مشعشعة/ كما وراء قميص شعشعت نجوم، أي الشعر هو قبض على المعنى، الصورة جميلة لكن برأيي الشعر هو إفلات المعنى وليس القبض على المعنى. من يستطيع أن يقبض على المعنى؟ بالتأكيد لا أحد، لذلك أقول له: ماذا سنفعل بالياقوت يا أبتي/ (والياقوت أقصد به الشعر) وكلما زاد بعدا زدته طلبا/ أصل الحكاية أن الشعر كأس طلا والخمر أجمل ما يروي إذا انسكبا/ لكنه شف حتى خلته قمرا خلف القميص/ فلما أوشك احتجبا. فمعناي أقوى من معنى سعيد عقل..

الشعر والوجود والهشاشة
(*) في شعرك روح القضايا الكبرى، فالى أي مدى يحتمل الشعر القضايا الكبرى؟ وماذا تبقى من شعر المقاومة اليوم؟
الوجود واسع والشعر أيضا، وتكاد تكون هناك مطاردة بين الوجود والشعر، فالوجود يصنع تماثيله مثل كرسي على الزبد، لكن الوجود فيه هشاشة والشعر أيضا فيه هشاشة، وهشاشة الكائن هي ما ضربت على وترها في قصائدي. هذه الهشاشة هي مدعاة للتأمل، هي بالأساس مسألة وجودية. أنظري إلى التاريخ كله ماذا تبقى منه؟ هناك فجوة في التاريخ، تآكل كل شيء، تحدث الأشياء ثم تزول كأنها لم تحدث. ومن هذه الناحية فإن في شعري الكثير من التأمل مع الحفاظ على أدوات الشعر، لأن أي شعر ليس فيه تأمل هو شعر فيه فراغ، فراغ الكلمات، هو شعر مجاني، هو شعر فيه زخرف، الشعر العربي الحديث هو شعر زخرفي وقلائل من يتأملون بعمق، أنا أعتبر أن العمق الفلسفي في الشعر هو ضرورة مع الحفاظ على شروط الشعر وفنيات القول الشعري.
هناك أطروحات كثيرة في شعري في الكثير من الدول العربية، أطروحات تقارن شعري بشعراء المقاومة، وثمة مقارنة بين شعري وبين شعر فدوى طوقان وبين شعري وشعر محمود درويش في أطروحة دكتوراه. أنا شخصيا لي مفهوم آخر بهذا المعنى، فهناك ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو شعر الإقامة في المكان، وهذا يعبق به الشعر الفلسطيني، من أبو سلمى حتى درويش والقاسم وطوقان. المستوى الثاني هو شعر المنفى أو الرحيل، وهذا المستوى أحبه أكثر من شعر الإقامة. يقول أبو الطيب المتنبي: تغرب لا مستعظما غير نفسه ولا راضيا الا لخالقه حكما. إذا المتنبي يختار الغربة، لأنه يريد أن يكون كريما وليس ثمة أعلى من ذاته، انه يأنف الظلم ومن يتحكم به إلا من الله عز وجل، وبالتالي هذا يندرج في شعر الغربة. أما المستوى الثالث الأعلى فهو شعر الإقامة في اللغة، وهو الشعر الذي أقوله، أي كل شعر مبدع وجميل ويفجر اللغة ويزيدها جمالاً، واللغة هي إشارة الوجود، هو شعر يقاوم كل شيء قبيح. أما الخطابات الوطنية فأنا لا أحبها ولا أهتم بها، وأرى أن أسوأ الأشعار دخلت من هذا الباب خاصة في الشعر السياسي، ولو أخذت بابلو نيرودا وناظم حكمت، من الأسماء الكبيرة، في هذا الجانب من الشعر هم لا يساوون كثيرا، وحتى محمود درويش وسميح القاسم. خطابيات الصمود لا تعنيني ولا أحبها، بينما المعاني التي قلتها لك تظل أبقى وأقوى.

(*) انخرط الشاعر البرتغالي بيسوا في لعبة الأنداد أو الأقران، ولديك تجربة مماثلة في لعبة الأقنعة، ماذا تعطي هذه التجربة للشاعر، هل تعطيه حيوات أخرى؟
القناع هو من أقدم العلامات لتوليد قوة مضاعفة من خلال الحجاب، الملوك القدماء والعتاة

وحتى العتاة في هذا العصر، يحتجبون ولا يظهرون، وإذا أراد أحدهم أن يصل للملك أو الفرعون عليه أن يقطع مراحل كثيرة حتى يسمح له بمشهد عابر، فالمحجوب يكتسب قوة نفسية وهمية أكثر من المكشوف، هل أحد رأى الله؟ لذلك هو قوي لأنه محجوب، قال له موسى: أريد أن أراك، قال: ألا تؤمن؟ قال: بلى لكن ليطمئن قلبي، ولما انكشف له، خر صعقا. إذا قوة المحجوب سحرية، هناك أقنعة في الغابات، الشعوب البدائية تستخدم الأقنعة، في المسرح أيضا وصل القناع، كأنك إذا استخدمت القناع وتكلمت، فيصدر الصوت من خلال القناع، هناك أنت التي هي أنت، وهناك القناع، والذي يستمع، لمن يستمع للمتكلم أم للقناع؟ فالأقنعة تضاعف المعنى، وتجعله ملتبساً.
أنا استخدمت هذه اللعبة في كل دواويني، وفي هذه المسألة أريد أن أشير الى ملاحظة، استخدمت قناع قيس، المتنبي، الشيرازي، جبران خليل جبران، فان غوغ، المعري، الحلاج، سلفادور دالي. في كل نص مؤسس على القناع، هناك الصوت الأساسي للشاعر والقناع الذي أخذه ليسمع صوته من خلاله، مثلا في قصيدة أناديك يا ملكي وحبيبي، هناك صوتي أنا وهناك صوت جبران، دائما في استعمال نص القناع هناك الإيغو الشعرية والصوت المستعار للآخر. يحصل صراع في داخل النص، شرطي هو أن أتغلب على الآخر وعلى القناع لذلك اتهمت بالنرجسية، ولم أنفها رغم أني نقلتها من مدار علم النفس الفرويدي الى هذا المعنى بأني ملزم بأن أتغلب على الأقنعة التي أستعملها لأكون أنا هو أنا. ولو أخذت كل النماذج التي استخدمتها لوجدت ذلك، مثلاً في استخدامي لقناع جبران، ففي كتاب النبي يصف المصطفى الحبيب واقفاً على كتف المدينة وهو ينظر الى البحر بانتظار وصول سفينته التي ستنقله الى جزيرته. هذه الفكرة هي لجبران في كتاب النبي، ضعي هذا القناع جانباً، وانظري ماذا قلت، لتجدي أن ما قلته ليس جبران، وأن صراعي مع جبران في هذا النص مطروح لمن يقرأ، أقول: كان يجالسني فوق العشب/ على أكتاف مدينته ويجاذبني أطراف الحلم وأطراف العالم/ ينظر آناً للبحر، وآونة ينظر في بحر كآبته/ فتهاجر من جفنيه حمامة وعد تظهر بعد الطوفان/ ويقول بأن الله تكلم في حنجرة العصفور وحنجرة الوادي وترنم في حنجرة الانسان/ لا بأس قريب منك الله إذن/ وصلاتك أعمق من ذاك البحر وأبعد من تلك الشطآن/ فاغرف من نفسك حتى تعرف نفسك يا ملكي وحبيبي. هذا النص لي لكن قناع جبران موجود، هذا ما أردته في لعبة الأقنعة، هي لعبة مزدوجة، تأخذ لكن تعطي، غير مسموح لمن يلعب لعبة الأقنعة أن يكون ضعيفا، عليه أن يكون قويا لأنه في مباهاة مع العالم القوي.

(*) ولماذا دائما تكون الأقنعة من التراث؟
لا، هناك أقنعة من العصر الحالي، مثلا قصيدة: المرأة التي فرت من لوحة سلفادور دالي. لسلفادور دالي صورة معروفة يصور امرأة واقفة مقابل شرفة وتدير ظهرها وتنظر الى الأفق من النافذة وظهرها يتدرج مع ثوبها. كنت أرى هذه الصورة كل يوم، فأنا أحب الفن التشكيلي، ولي علاقة قوية في شعري مع الألوان والصورة. خطرت برأسي فكرة خطيرة، افترضت أني في ذات يوم أخذت ألبوم سلفادور دالي ونظرت داخله فلم أجد تلك المرأة. فكان العنوان: المرأة التي فرت من لوحة سلفادور دالي. وصغت القصيدة على هذا الأساس: هذه المرأة التي وضعها سلفادور دالي في الصورة هي من مخلوقات دالي، كما أنني أنا من مخلوقات الله، المرأة التي فرت من اللوحة، فرت منها لتكون حرة، وغير مقيدة بما صنعته ريشة الفنان، وأنا الذي أفر أو أتخيل أن المرأة فرت، أنا أيضا إنسان أبحث عن حريتي. هنا تعاملت مع قناع معاصر جدا. وهناك قصيدة عن غوغان؛ غوغان كان مغرما بالنساء الهيتيات، وكان يعاشر النساء الهيتيات، لديه لوحة جميلة لامرأة ذات نهدين ناضجين وإلى جانبها هر متربص، فكتبت قصيدة بعنوان غوغان لأسأله: من هذا الهر يا غوغان؟ وأخيرا أنتهي لأقول له: أنا هو هذا الهر. هكذا أكتب القصائد وهكذا أستعمل الأقنعة.

الحيرة جزء من الشعر
(*) على عكازي ينتظر الميزان/ ولن أجيء كي أقيمه/ فليس لي سوى ترددي. هل تتمسك بالحيرة كي يبقى الشعر؟
الحيرة جزء من الشعر، هذا ما قلته لك، هو اللاقبض على المعنى، وإفلات المعنى، الحيرة هي مقام من مقامات الصوفية، ولي قصائد كثيرة في مقام الحيرة، وشعري يضرب على وتر عرفاني صوفي. الحيرة هي مقام الواصل إلى مكان يتحير فيه في كيفية تلقي ما يأتيه من فيض، ومقام الحيرة يقترن به مقام آخر هو مقام التيه، أنا أضرب على هذين الوترين. في الحيرة لدي عدة قصائد وفي التيه لدي قصيدة محكمة بكامل أبهة وزنها، وكامل معناها الحديث، بعنوان التيه وتستطعين أن تتخيلي حسن نصر الله فيها، هي ليست له لكن بامكانك تخيل ذلك، أقول فيها: يمشي على الموت تياها كأن به من الألوهة سرا ليس يخفيه/ يمشي الهوينا وقتلاه تمجده كأن كل ما يرجيه يحييه/ يعلو على الغيم أحيانا وأبصره يدنو ليصبح أدنى من معانيه/ أعطيته كل ما أتيت من نعم/ وما ندمت فألقاني على التيه.
هذا النص في التيه تأتي الحياة في خدمة النص، ويأتي الرجل في خدمة القصيدة، يعني ذلك أن

الشعر استراتيجي أكثر من الحوادث، وهذا استطراد لمعنى المقاومة عندي، أبعد بكثير من شكليات ما ترين. افترضي غدا أن فلسطين تحررت، أين سنلقي كل هذه الأشعار الخطابية والمسطحة؟ ستذهب وحدها ولن تبقى. في رأيي الشاعر خطير، فهو أهم من الفيلسوف وأهم من رجل الدين، لأن الشاعر عنده رؤية، لذلك هو بقرب النبي تقريباً، فأبو الطيب المتنبي لم يستطع أن يكون نبيا، لكنه استطاع أن يكون شاعرا، ولما جاء أبو العلاء وجمع مختارات شعرية للمتنبي سماها "معجز أحمد"، أي أنه قارن بينه وبين أحمد النبي وسماه معجزاً، أي متنبي في الشعر. كان شعره يدور حول هذا المبتغى، لم يكن يريد ولاية، "أبتغي جل أن يسمى"، أي أنه كان يريد النبوة.

(*) لمن تقرأ لشعراء اليوم؟ وكيف تنظر للمشهد الشعري الراهن؟
أقرأ للجميع ولكن لا أتابع كل ما أقرأه، أتابع من يستحق المتابعة. بمجرد أن أجد شيئا له شكل الشعر، لكن ليس شرطا أن أتابعه، هناك تسعون بالمئة مما يلقى في الساحة لا يستحق سوى أن تقرأ السطر الأول منه فقط. أما العشرة الباقية فهي لآخرين أقرأهم جيدا ويعرفون ذلك، من الصغار والكبار. هناك نوع من الارتباك، والمشهد مشوش جدا.

أوعية متصلة مع
شعراء العالم والعرب

(*) هل هناك مشاريع قادمة؟
نعم هناك مشاريع مهمة قادمة وقريبة جدا، فقد أنجزت طباعة كتاب ضخم لي اسمه "فهرست الكائنات الشعرية"، في ثلاثة أجزاء، في 1500 صفحة، وهو يشمل رؤيتي الفلسفية والنقدية والشعرية وتماسي مع شعراء العالم الذين استعملت البعض منهم كأقنعة وكان لي مع الباقين تماس شبيه بما أسميه أنا شخصيا أوعية متصلة. فحين أقرأ بيسوا أو توماس ترانسترومر أو المعري فانه يحدث بيني وبينهم ما يشبه الأوعية المتصلة. هذا الكتاب هو أوعية متصلة مع شعراء العالم والعرب أيضا، كافكا، ترانسترومر، المتنبي، أدونيس، وأنسي الحاج وشعراء آخرين ليس لديهم شهرة لكنهم شعراء حقيقيون وأحبهم. برأيي هذا الكتاب مهم جدا لكل من يقرأ أو يكتب الشعر. هو خلاصة تجربة التماس بين الشعريات العربية والعالمية. كتبت عن السوريالية وعن شعرائها وعن بعض شعريات خاصة لدى الألمان مثل شعراء المد الإشراقي، وكتبت عن الحلاج وعن حافظ الشيرازي، وكتبت فصلا عن شاعر فرنسي هو سيرجيبيه وقد تواصلت معه وكانت لنا أمسية مشتركة في اليونان وترجمت بعض أشعاره، وهو أحد باعثي شعر الكونكريه أي الشعر الحركي، الذي يعتمد على الأصوات. الكتاب هو عن الشعرية بكافة تماوجاتها وبصورها المختلفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.