}

إبراهيم مالك الحر: الوحيد الذي يكتب قصيدة النثر بموريتانيا

صدام الزيدي صدام الزيدي 16 مارس 2019
"أنا ابن الثورة وابن الخروج على الأشياء وخلخلتها"، هكذا يبرر الشاعر الموريتاني، إبراهيم مالك الحر، اتجاهه لكتابة قصيدة النثر في بلدٍ ما زالت صورة الشاعر فيه جبروتية وذات هيبة تقليدية، ويشار إليه مجازًا بـ"بلد المليون شاعر عمودي".
يراهن الشاعر إبراهيم الحر على "عالمية النص"، بينما يتفّلت من قيود المحاكاة والتقليدية، حيث الكل يستعرض عضلاته (كما يقول)، ما دفعه ليحلِّق منفردًا في مجتمع قال إنه "ما زال منغلقًا يخاف الجديد، ويعتبره فيروسًا مرعبًا".
"لا أحد يمتلك الشعر، كلنا نتناحر على حافته"، بهذه العبارة ينهي شاعر موريتاني في عقده الثالث حديثًا مهمًا مع "ضفة ثالثة". إنه حوار مختلف ويذهب إلى فضاءات بعيدة.

الشعر أعادني إلى الحياة
(*) كيف تشكلت البدايات؟
في شتاء 2006، خرجت من المنزل باحثاً عن نفسي، ولم أعد حتى الآن.
الشعر أعادني إلى الحياة، بعد أن فقدت إيماني بها، لكن لم يسبق له أن أعاد لي شخصاً خسرته بداعي الموت، ولم يعدني إلى بيتي الذي عشت فيه طفولتي، كما لم يعد العالم العربي إلى خارطة العالم، حتى الآن.
أنا طفل صغير عالق في ذاكرة الزمن منذ جرحي الأول، وصرختي الأولى.
عايشت الموت مبكراً، فلم أستطع أن أصرخ، بل كتمت. عرفت البؤس والقهر والظلم والحرمان، نظراً لطبقتي ومكانتي الاجتماعية، عايشت كل ذلك، ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، بل كتمت أيضاً!
في الحقيقة، لم أكن أكتم بمعنى الكلمة، كانت روحي تصرخ، ولا أحد يسمع صراخها، كنت أبكي ولا أحد يمسح دموعي، كنت وحيداً، مخذولاً، ولا وطن انتشلني.
حين بلغت الرابعة عشرة لم أكن أتذوق سوى الأدب الجميل، الواقعي والحديث جداً، كأعمال أحمد مطر، وسعاد الصباح، ومحمود درويش.
في لحظة فارغة رميت نفسي في النار، وبدأت أصرخ معهم. هذه المرة الكل يسمعني، لكنني أصرخ بطريقتي، وأكتب الشعر بطريقتي، فكانت أول محاولة لي هي صرخة وجود مسروق وإثبات للذات حين حاولت كتابة نصي الأول "هذا أنا".

(*) كيف اتجهت إلى قصيدة النثر في بلد "المليون شاعر عمودي"، كما يقال عن موريتانيا؟
أنا ابن الثورة، وابن الخروج على الأشياء وخلخلتها. لا أحب أن أمر بشيء دون أن أضع بصمتي، لذلك كنت واقعياً جداً إزاء ما تقتضيه المرحلة والضرورة والمعاش. فخرجت من

عباءة المليون شاعر عمودي التي لم تغير في الواقع، ولم تحرك عوداً من مكانه، أو تسقط جنرالاً، أو تحدث خلخلة في نظام القبيلة السائد. أردت أن أثور بطريقتي، وأكتب بطريقتي. فالشعر الآن أصبح يعتمد أكثر على الصورة، والإبداع بطريقة درامية وتراجيدية يتلقفها القارئ أو المتلقي بقلبه قبل عقله. بحثت كثيراً ولم أجد نفسي سوى في قصيدة النثر، فحلقت دون أي قيد في سمائها محاولا قراءة الواقع وتغييره وإعادة تركيبه.

اخرجوا من الجُبّ
(*) برأيك، ما هي أسباب تأخر انفتاح الحركة الشعرية الموريتانية على الكتابة الجديدة؟
كعادة المجتمعات المنغلقة على ذاتها تخاف الجديد وتحاربه بكل ما أوتيت من قوة، تحسبه شيئاً دخيلاً وفيروساً يجب تجنبه، فالانفتاح الحداثوي هنا -خصوصا في الشعر- ربما سيجعل كتابا وشعراء يجلسون على دكة البدلاء، ويفتح نواقيس الخطر على أصحاب التقليد والمحاكاة، والممسكين بتلابيب الموتى، لذلك يكره الشاعر الموريتاني "التقليدي" هذا الانفتاح، بل ويمقته.. فالشعر الحداثي وقصيدة النثر بالتأكيد لن تمجد حاكماً ولن تدعو في الانتخابات والأمسيات الشعرية للتصويت لأي طاغية.
كما أنه لا أحد فسخ هذه العباءة، عباءة التقاليد في كل شيء، لا أحد هنا خرج من جب هذا الموروث وأعاد غربلته وحاول أن يمزجه مع المعاصرة في الشعر -وما ضير ذلك-!؟ لذا ما زالت صورة الشاعر التقليدي وهيبته وجبروته طاغية، ما زالت اللغة قوية جدا وبعيدة عن المتلقي، حتى يخيل لك أن كلا منهم يحاول إبراز عضلاته اللغوية، أما القارئ فـ "شاهد ما شفش حاجه"!
كل هذا التخبط أعمى بصيرة الشاعر الموريتاني، وحتى الآن لم يقتنع أن الشعر أبسط من ذلك.

(*) كيف يُنظر إليك موريتانيًا وأنت تحلق خارج السرب؟
في موريتانيا حين كتبت نص "انبعاث لوركا" ونشرته على وسائل التواصل الاجتماعي وردتني رسائل عديدة تسأل عن لوركا، ومنهم شعراء لا يعرفونه، ومن يعرفه منهم لا يدرك قيمته الشعرية بعد، أو ماهية طريقة موته المثيرة! إنهم ينظرون إليّ كما لو أنني لوركا، الذي لا أحد يفهمه هنا أو يحاول الاقتراب منه ليتعرف على ماهية الشعر لديه!! فلوركا أيضا غريب عنهم.
خارج موريتانيا، الأمر ممتع جدا، هم يتعاملون مع شاب موريتاني مغاير ومخالف للنظرة التي كانت لديهم عن هذا البلد، لذلك أتلقى ارتياحا كبيرا ومحبة كبيرة، وتشجيعا من الجميع.

الشعر فلسفة
(*) تعمل مدرسًا للفلسفة وعلم الاجتماع. هل أضاف هذا التخصص شيئًا إليك كشاعر؟
"إن الخاصية الجوهرية للفكرة باعتبارها عملا فنيا للشاعر ما تزال محتجبة". "الشعر لا يتطابق إلا مع أفكار اليقظة، الشغوفة بالمجهول والمنفتحة أساسا على الصيرورة، فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق". هذا ما كتبه (عبد الهادي مفتاح).
الشعر أيضا فلسفة فهما يتلاصقان ويلتقيان في الدهشة اللامحدودة، هذا ما تعلمته أثناء دراستي الجامعية للفلسفة، خصوصاً حين توغلت في فلسفة غوته وشعره، وتصوفت مع طاغور لأدرك أهمية الحكمة والإبداع والانزياح في الشعر مع جون كوهين.

(*) من يقرأ نصوصك، يجد تماهيًا في المشهدية اليومية العربية فيما تكتب (الحرب.. ثورات الشباب العربي... إلخ) كما تستدعي قصيدتك رموزًا عالميين، "انبعاث لوركا" كمثال.... وتتعالق مع حياة بعيدة خارج الحدود كما في نص "في البار".. هل نحن نعيش عالمية النص؟
حسنا، لنعد إلى موريتانيا. لماذا لا يصل الشاعر الموريتاني إلى العالمية؟! هو حتما لا يسعى لذلك، ولا يمتلك تلك الرؤية، فدعوة في فندق، وحياة مترفة، وطباعة ديوان، تكفيه! الهمّ الشعري والمأساة الشعرية ورسالة الشاعر لا تتعلق بمحيطه فقط. هل هناك رسالة أو مهنة إنسانية أكثر من الشعر والطب؟! الطبيب ينقذ حياة الناس ويعالجهم، والشاعر يحاول بكل إمكاناته أن لا يترك شخصاً واحداً يصل إلى تلك الحالة، التي يضطر فيها الطبيب لعلاجه.
الفكرة هنا هي أن الشاعر يخرج من رحم المعاناة حاملا بؤسه وشقاءه، كي يداوي أوجاع العالم. أجل، نحن أمام عالمية النص، هذا التقابل والاختلاف والتقارب، والتمازج الذي يشهده العالم يجعلني أفكر في نص شعري موحد، نص عابر للغات والاختلافات، لا حدود له أو أبعاد، أو قوانين. نص يحمل هما واحدا، هو هم الإنسان.
الحرب والثورات العربية أعادت خلقي من جديد، هذا الإنسان النائم بداخلي عاد ليستيقظ - وأنا

الخارج من عمق الواقع، والعارف به - الحرب تحدث داخلنا ضجة كإحساس الجوع والعطش والخوف، كنت أشاهدها عبر التلفاز وكأنها تحدث في قلبي!
هذه المشهدية بنيت عليها نصوصي محاولا التوغل في كنه حياتنا الاجتماعية، واليومية، ومعرفة أدق تفاصيلها باحثا عن الخلل، لذلك لا أجد حدودا حين أكتب، أطأ الألغام بأقدامي دون أن أخاف، كما لا تقلقني الضجة التي قد تقابل نصا لي. وحتى الآن ما زلت أحاول أن أصرخ بكل قوتي، وأغرد خارج السرب والحدود.

اتحاد الكتاب وقبليّة الشعر!
(*) هل دعيت إلى فعاليات شعرية موريتانية؟ ومن هو جمهورك هناك؟
في موريتانيا لدينا اتحاد كبير يسمونه اتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين، لم يقدم شيئا للشعر، ولم أنتسب له أو أقتنع به أبدا، نظرا لعنجهيته وقبليته ولاشعريته، لذا فأنا - بكل تأكيد - مستبعد من فعالياتهم الشعرية.
ربما يتم استدعائي فقط لفعاليات شعرية ينظمها أصدقاء لي. أما بالنسبة للجمهور فأغلبهم شباب حداثيون وطلاب جامعيون لديهم رؤية خاصة للشعر والأدب والإبداع ومتطلعون جدا إلى كل جديد، آمنوا بي منذ بدايات كتابتي على منصات التواصل الاجتماعي.

(*) أنت تجيد الفرنسية، وبشكل أقل الإنكليزية، إلى جانب العربية. هل أتاح لك ذلك قراءة أدب عالمي؟
أسعى دائماً إلى الاطلاع على الأدب العالمي، فاللغة وعاء ثقافي كبير تتيح لنا التعرف أكثر على الإنسان الآخر واكتشافه، فتبدد كل الاختلافات، وتجعلنا نعيش نوعاً من التمازج والتبادل والتنوع الثقافي.
قرأت روايات كثيرة ودواوين عالمية، لكن أفضل غالباً أن تكون مترجمة، فاللغة العربية هي الأقرب إلى قلبي.

(*) ما حكايتك مع فيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي؟
الفيسبوك هو المكان الذي وجدت فيه نفسي. مكان حمل صراخي وتقلبات مزاجي على مدار السنوات التسع الماضية. المكان الذي كتبت فيه عن الحرب، عن الحب، وعن الإنسان. وربما هو نقطة التقائي بالجمهور، لذا أستغله لأنشر معظم ما أكتب. كما أن الكثير من الأصدقاء والشعراء العرب والموريتانيين تعرفت عليهم فقط من خلال الفيسبوك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى.

(*) متى نقرأ لك باكورة نثر؟
هذا ما أفكر به حاليا. السنوات الماضية كنت مشغولا جدا بسبب الدراسة. الآن أبحث عن مكان أجد فيه ذاتي، وأصرخ من خلاله مخاطبا العالم. بالتالي أسعى إلى ذلك جاهدا، وأتمنى أن يحدث قريبا.

(*) في سطر واحد: برأيك، من يمتلك الشعر؟
لا أحد يمتلك الشعر، كلنا نتناحر على حافته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.