}

حميد العربي: تراجع الجزائريين ينهي حلم الدولة الديمقراطية

بوعلام رمضاني 30 ديسمبر 2019
حوارات حميد العربي: تراجع الجزائريين ينهي حلم الدولة الديمقراطية
"الشعر مزيج من المعاني يفرضها السياق والمحيط والمرحلة واللغة"
الشاعر حميد العربي الذي ترجم إلى أكثر من لغة أجنبية هو واحد من المثقفين الذين غادروا الجزائر مكرهين في عز عشرية الإرهاب السوداء قبل أن تطاله أيادي الغدر من هذه الجهة الإقصائية أو تلك، كما حدث لعشرات والصحافيين والكتاب والفنانين الذين عمل معهم واستلهم سيرهم ومواقفهم واعتنق قيمهم التي استنطقها في أكثر من ديوان شعري.

في هذا الحوار مع حميد العربي في باريس نتيح له إمكان التعبير عن هواجسه الفكرية والإبداعية وعن مفهومه للشعر وعن دوره، وتكريم ملهميه وشعب وطنه الثائر حتى لحظة كتابة هذه السطور من أجل حرية كاملة وحياة كريمة غير منقوصة.

(*) من هو حميد العربي شخصيا ومهنيا وفكريا؟
ـ مبدئيا من الصعب أن يتحدث الإنسان عن نفسه، ولكن ردا على سؤال يفرض نفسه أحاول الإجابة كما أستطيع. أنا من مواليد الجزائر العاصمة، وهاجرت إلى ميلانو في نهاية عام 1993 في عز العشرية السوداء. عشت في مرحلة أولى فترة طويلة صعبة حافلة بالشك والقلق، وتمكنت من تجاوزها بفضل مساعدة وتضامن الكتاب والأدباء والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين الإيطاليين. رحلت عام 1998 إلى مدينة مونبولييه التي أعيش فيها حتى اليوم، وبدأت رحلتي مع الكتابة بمؤلف "جذور الأزمة في الجزائر" عام 1997 في إيطاليا وكتبت أول مجموعة شعرية بعنوان "هذا الحقل مني" في فرنسا عام 2007.


(*) تعرف نفسك بأنك صحافي وشاعر في حين تعتبر اليوم شاعرا قبل كل شيء وتستضاف في المحافل الأدبية الأوروبية والعالمية كشاعر أيضا، وأنا شخصيا سألتك في الأمسية الأدبية التي أقمتها مؤخرا في المركز الثقافي الجزائري بباريس عن تراجع الشعر عالميا وطغيان الرواية مخاطبا شاعرا وليس صحافيا. ما تعليقك؟
ـ أصبحت صحافيا رغم أنفي في منفاي الاضطراري بإيطاليا وعملت قبل هجرتي مديرا تجاريا في صحيفة "ألجير ريبوبليكا" (الجزائر الجمهورية) الأمر الذي سمح لي بربط علاقات مع صحافيين كبار من أمثال عبد الحميد بن زين وسعيد مقبل والطاهر جاعوت وسعيد تازغوت ويوسف حاج علي وآخرين راحوا في معظمهم ضحايا الإرهاب الهمجي. في إيطاليا عملت رئيس تحرير مجلة "دا كي" الأدبية وفي عام 1995 وفي إيطاليا أيضا تحصلت على جائزة الصحافة من نادي الصحافة المعروف بميلانو (جيورناليستا إيسترا).


(*) أصر على أنه يجب التعريف بك كشاعر اليوم وأكثر من أي وقت مضى وأنت تكتب الشعر لتلبية نداء الروح الموجوعة كما أفهم من منظور فكري واضح المعالم. أليس كذلك؟
ـ نعم... نعم. لكن يجب التنبيه إلى التداخل بين الشعر والصحافة، والكتابة هي العامل المشترك بينهما، والصحافة تعتبر تعميقا للكتابة الشعرية.

معك حق لأن تفكيري يتم شعريا إن صح التعبير ثم تأتي الصحافة لتكرسه كقناعات تكتب بشكل آخر، وعليه يمكن القول إن الشعر وبحكم ماهيته يجذبني نحو عالم تخيلي في حين أن الصحافة تعد عالما براغماتيا. نعم أنا شاعر اليوم وأنتمي إلى عالم التحرر والتقدم بقناعات فكرية أشرت إليها من خلال الرموز التي عملت معها.

الشعر قوت الروح
(*) تاريخيا متى أصبتم بفيروس الشعر وما هو الدور الذي لعبته الصحافة في تحولكم إن صح التعبير ولو أننا لا نفصل بينهما من منظور تداخل الكتابة؟
ـ أصابني فيروس الكتابة بوجه عام والشعر بوجه خاص في وقت متأخر نسبيا، وقبل الانطلاقة الحقيقية كنت أكتب مقالات صحافية وأبحاثا تجسيدا لرغبة تسمح بالهروب من الأوجاع وكحب للكلمة وكحاجة علاجية في الوقت نفسه وهذا ما ساعدني على تخطي ألم المنفى المفروض. كتبت تحت وطأة الفرح والقرح والأحاسيس الجياشة من منظور التقاسم والنقل. لاحقاً أصبحت أكتب بمهنية أكبر ملتزما بقواعد الكتابة الصحافية القائمة على البحث عن الإيجاز والدقة والبحث الدؤوب والمنتظم عن الحقيقة. الصحافة تبقى خاضعة لهذه القواعد الأساسية في ظل الثورة التي يعرفها عالم الصحافة والإعلام بوجه عام بسرعته المذهلة وتعقده في الوقت نفسه.

(*) هل أفهم أنك تعمل كصحافي لضمان العيش ويبقى الشعر ضالتك السيكولوجية والإبداعية الأولى ولا تكتبه طلبا للقمة العيش؟
ـ لا أعمل بالصحافة لأنه أصبح من الصعب اليوم الاعتماد عليها لتحقيق عيش كريم، والصحافة ليست همي الأول ما دام الشعر يعد قوت الروح ونتاج عذاب وأوجاع وآلام وآمال وأحلام الإنسان.

(*) هل أفهم بعد قراءتي ديوانك الشعري الخامس الذي صدر لك مؤخرا في فرنسا تحت عنوان "انعكاسات الفعل"، أن رحلتك الشعرية بدأت فعليا في المنفى الفرنسي لكن الجزائر العاصمة التي ولدت فيها هي دائما وجعك؟
ـ فعلا... الجزائر العاصمة التي ولدت فيها مدينة رائعة وساحرة، وستبقى مرجعيتي الشعرية الأبدية ومبرر تكويني السيكولوجي والشخصي.

حينما بدأت في كتابة الشعر كنت أجهل من أنا، أجهل متاهات وتمزقات وضياع الإنسان وحقائق الحياة ومصاعبها وأسرارها كما كنت أجهل ما سأطلب منها. مع مرور الأيام وبعد عدة أسفار وتساؤلات، تبين لي أنني أصبحت أكتب للخروج من شرنقة الغموض والتحرر من بعض المعوقات والتحديات والتصالح مع نفسي بعد التعرف عليها كما يجب. اليوم أنا مقتنع أن الشعر هو العصارة التي تولد في أعماقي وتغذي أحلامي وإبداعي الفني وتساهم في ترقيتي روحيا وجسديا.

(*) ولهذا يعد تكريمك في المركز الثقافي الجزائري تكريماً لملهميك بابلو نيرودا وناظم حكمت ومحمود درويش. أليس كذلك؟
ـ بلى... معك حق وسبق أن طرحت عليّ السؤال كمتدخل أول لفت انتباهي أثناء النقاش. الحرية هي العامل المشترك بين هؤلاء الكبار الذين خلدوا مسيرة الشعر عالميا والتمسك بالوطن الأم تمسكا خرافيا والدفاع عن الحرية. هؤلاء الشعراء أعطوا المعنى المطلوب لإبداعي الشعري، ومن خلالهم تأكدت بأن الشعر فضاء حرية يمكن الكلمات من التحول إلى إبداع. هؤلاء علموني أن التعبير الشعري يتبلور عبر الإحساس ونوعية مقاربة العالم إنسانيا والأهم من ذلك عبر المعرفة كحصن منيع ضد الجهل والظلامية والعنصرية. إنني أقارب الشعر كمقاومة سلمية وكبحث عن متخيل أعلى وأكثر من مظهر جمالي.

(*) لماذا اخترت الخطاط حسن مجدي لدمج رسوماته العربية في ثنايا صفحات ديوانك الأخير وهل من رسالة من خلال ذلك عن اللغة العربية وأنت الأمازيغي والفرنكفوني؟
ـ أفضل الحديث عن التقاسم وليس عن شيء آخر، وليست هذه هي المرة الأولى التي أوظف فيها مصورين وخطاطين وفنانين تشكيليين ورسامي كاريكاتير بهدف التحاور والتبادل عبر أشعاري. في ديواني الأخير بدت لي أعمال حسن مجدي بديعة وساحرة ومعبرة عن أحاسيسي ومبتغاي، ولقد استطاع فعلا أن يعكس صدى رسائل أشعاري.

تأثير المنفى
(*) إلى أي حد أثر فيك المنفى شخصيا وإبداعيا وهل ما زال يؤثر مع مرور الزمن؟
ـ أعتقد أن المنفى ليس قدرا، وعانيت كما هي حال كل المنفيين في البداية فترة صعبة جدا ولم يكن من السهل ترك عملي ووطني وعائلتي.

مع مرور الأيام والشهور والأعوام، وجدت نفسي محاطا بأشخاص رائعين وفي محيط ثقافي أروع، الأمر الذي مكنني من الانخراط فيه مكتشفا أهمية التنوع العرقي والفكري والحضاري. انطلاقا من هذا المسار الشخصي الموزع بين الجزائر وإيطاليا ثم فرنسا لاحقا، يمكن القول إن تجربتي الشعرية هي نتيجة مرحلتين، وقامت الأولى على المنفى الاضطراري في عز عشرية الإرهاب السوداء وعلى العذاب النفسي الذي تولد منها، وتمثلت الثانية في تطوري نحو تفكير فلسفي حول عالم اليوم.

(*) لماذا تراجع الشعر في العالم مقارنة بالرواية إلى درجة أصبح يقال فيها: "من قبل كان المبدع يولد شاعرا أما اليوم فيولد روائيا"، وهل باستطاعته أمام هذا التحدي الإسهام في التأثير على المتلقي؟
ـ أعتقد جازما أن الشعر ما زال قادرا على تغيير مصير وتوجه الإنسان برسالته السلمية المنددة بواقع البؤس والظلم والعذاب، وأمام معاناة إنسان اليوم ووضع العالم بوجه عام لا يمكن للشاعر أن يسكت وبإمكانه أن يجد الكلمات المناسبة لإعلان حالة الطوارئ والتنديد بالوضع غير العادل وغير السوي. الشعر هو مزيج من المعاني التي يفرضها السياق والمحيط والمرحلة واللغة والحالة الذهنية، وكتحصيل حاصل لا يمكن له أن يموت أو يتراجع. انطلاقا من هذه المعطيات، يجب على الشاعر أن يضع نصب عينيه قضيتي الإنسان والأرض، وعليه التوفيق بين مقاربة ووصف العالم بطريقة مغايرة وأخذ القارئ معه في سفر لاكتشاف حقيقة العالم الذي يختفي وراء جدار الواقع اليومي الأليم.

 يجب على الشاعر أن يضع نصب عينيه قضيتي الإنسان والأرض










 







الشعب الجزائري وحلم الدولة الديمقراطية
(*) أخيراً كيف ترى مستقبل وطنك الجزائر الذي زرته مؤخرا منددا بالنظام الفاسد متظاهراً وسط الشعب وماذا تختار من شعرك الذي ترجم أيضا إلى اللغة العربية؟
ـ قبل الثاني والعشرين من شباط/فبراير 2012 كانت لدينا نظرة خاطئة عن الشعب الجزائري وكان وجوده مرادفا للكبرياء الزائد والرافض للتغيير وللآخر.

بعد هذا التاريخ أصبح هذا الشعب متضامنا وسلميا ومدنيا بشكل خرافي غير مسبوق ومتحررا من كل القيود ومن الخوف الذي كان مستوليا عليه لعقود. بطبيعة الحال طريق التحرر ما زال شاقا وطويلا لإرساء قواعد وطن مفتوح على العالم والمعرفة والتنوع الثقافي، ولا يمكن للجمهورية الثانية التي يريدها الشعب الجزائري أن تقوم من دون مشاركة المرأة والشتات الجزائري الموزع عبر العالم. الجزائريون الذين ثاروا ضد الظلم والفساد والقمع عليهم الاستمرار في المقاومة السلمية ضد نظام يحتقر المواطن ويهينه ويخيفه ويزوّر واقعه ويحط من شأن ثورته. شخصيا أعتقد أن النظام يرتعد تحت ضربات مقاومة الطلبة والمحامين والعمال من النساء والرجال، وعلى الشعب تكثيف الحذر والوعي لتجاوز مناورات التقسيم والفتنة. السلطة التي تحتقر شعبها قادرة على القيام بأي شيء للبقاء فيها حفاظا على المصالح الكبيرة الفاسدة. لقد فهم الشعب أن تراجعه يعني نهاية حلم الدولة الديمقراطية القائمة على العدل، وعليه لا يجب ترك فرصة تحقيق هذا الحلم لعقود أخرى. أجمل طريقة لتكريم شعبنا شعريا تتمثل في البقاء جنبه حتى تحقيق الحرية المنشودة.

(*) نريد نموذجا عمليا من شعرك؟

ـ بكل سرور.

النرجسية فزعة

مأخوذة بالجشع

الضمير تائه

اليقين زائغ

يشبه المرارة

الغد على المحك

الحكمة هاربة إلى عالم مظلم

الانفصام هو السيد

الالتباس هو القانون

المعرفة ابتلعتها الحقارة

الجمود والفرح ضاعت منهما البوصلة

يذوبان في الغياب

الزيتونة العتيقة وحدها

هي المنارة

ما بين الشرق والغرب

الصمت الذي تخفيه الشجرة

نبض اللحظة المثبت

في فضاء خجول

المخمل لإعادة تشكيل النار

صوت الشمس المندهشة

تحت مسامات السماء

هذا الصمت الأزلي للحجر

العذاب الصامت في المتاهة

خمول الفجر

أقطف هذا الصمت لك

خبئيه في الصرخة الحارة لكفيك

أحبك في صمت

الصمت المتواطئ مع الهمس

هذه الرغبة الهشة المتمنعة

لا لمسة لا كلمة

رعشة تغني في صمت

وحين الاستكانة يرقص نبض الروح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.