}

علي النجار: معرض "نريد وطناً" مُستلهم من انتفاضة العراق

أشرف الحساني 11 ديسمبر 2019
حوارات علي النجار: معرض "نريد وطناً" مُستلهم من انتفاضة العراق
"في خضم تصاعد الأحداث المأساوية وجدتني أفقد حياديتي كمتفرج"
الفنان التشكيلي العراقي علي النجار واحد من رواد الجيل الستيني داخل الساحة التشكيلية العراقية، اتسمت أعماله بخاصية التجديد في وقت مبكر كان من الصعب إبانه اجتراح مشاريع فنية بعيدة كل البعد عن الحروفية التي انتشرت داخل المدرسة العراقية مع جماعة البعد الواحد لتعم كل الأقطار العربية الأخرى. والحقيقة أنها ظلت سمة بارزة مشكلة للخطاب الجمالي العربي في ذلك الوقت، بحكم الجدال والنقاش المحموم الذي رافقها والمتعلق أساسا بمفهوم "الهوية". لكن علي النجار استطاع أن يتسلل من هذا المنزع الجمالي ليغوص في ذاتية الإنسان المكلومة ويحقق معها بـ"فنتازيته" نوعاً من الإشباع الروحي، معانقاً موضوعات أكثر جرأة ترتبط ارتباطاً شديداً بما كان يعتمل داخل العراق من السبعينيات إلى حين مغادرته عام 1997 صوب السويد ليدخل في تجربة فنية أخرى بعيدة عن القوالب الجاهزة محتكاً مع أبرز تجارب الفن المعاصر عبر العالم.

على هامش معرضه "نريد وطناً" الذي افتتح قبل أيام بغاليري ننار بمالمو بالسويد، التقينا الفنان علي النجار وكان هذا الحوار:


(*)
بداية، ماذا يمكن أن تقول لنا عن معرضك الأخير في مالمو بالسويد؟
- الحقيقة لم يكن المعرض ولا العرض تقليديين، بمعنى سياقات إقامة المعارض التشكيلية الشخصية المعروفة. نعم في البدء كان كذلك بالاتفاق مع مؤسسة وغاليري ننار في مدينة مالمو الجنوبية السويدية، فقد كان لي حجز لمعرض بتفاصيل أخرى ليست كما حدث في العرض فعلاً، اذ كان موعد المعرض محددا قبل عدة أشهر، وكانت جاهزيتي كاملة. لكن بعد أن حدثت صدمة قمع التظاهرات العراقية في بغداد من ساعاتها الأولى، وفي خضم تصاعد أحداثها المأساوية، وجدتني أفقد حياديتي كمتفرج..

والصدمة فعلت فعلتها لتقودني إلى تقديم مقاربة لها بما أمتلكه من وسيلة تعبيرية أنا قادر على أدائها، لتتساقط من فرشاتي وكأنها مشهد بانورامي متسارع كما إيقاع تسارع الحدث ووقائعه. ومثلما كانت ساحات التحرير في بغداد ومدن العراق دخانا ساما ومقذوفات وإطلاقات حية، كانت الرسوم كذلك، لتتحول إلى يوميات تتابع إيقاع الحدث بتنوعاته من احتفالية إلى مصادمة إلى كسر الحواجز إلى حوادث الاغتيالات ومركبات نقل الجرحى الصغيرة (التكتك) التي تخترق الفضاءات بجرأة ومجازفة إعجازية لا مثيل لها وهي تحمل الجرحى والمغدورين، يقودها فتية بعمر الورد في جو عام ملوث مرعب. وفي موعد العرض المحدد كنت قد نفذت أكثر من ستين رسمة شكلت بمجملها ملامح الانتفاضة كما تصورتها.



المعرض مكرّس للانتفاضة
(*) عنوان المعرض "نريد وطناً" جاء كصيغة فنية تستلهم العوالم التخييلية والجمالية من يوميات ثورة أكتوبر العراقية، لماذا؟
- (نريد وطنا) هو شعار الشباب العراقي المنتفض على سلطة سلبت كامل حقوقه. لذلك كان من الطبيعي وأنا أقوم بالأرشفة فنيا لهذه الانتفاضة أن أثبت شعارها في معرضي المكرس لها. لكن كيف تتم عملية الأرشفة بالنسبة لفنان يلاحق تتابع حوادثها يوميا، وأنا لست مصورا حربيا ولا مصورا صحافيا، ولا أملك غير وسيلتي التعبيرية التي تدربت عليها طويلا، الوسيلة التي تمنحني الحرية لألتقط جزئية من هنا وجزئية من هناك وأثبتها ضمن كادر لقطتي الافتراضية (المبنية على خلفية الحدث) والتي تتطلب مني المحافظة على الجو العام لكل التفاصيل وبكل الرسمات؟ هذا هو ما حدث، ليس لرغبة في حدوثه، بل لكون كل فترة الإنجاز ضاغطة بفجاعتها.

وهذا ما لاحظته في أعين زوار المعرض الذين أجهش بعضهم بكاء. وأنت تدقق في تفاصيل الرسوم سوف تصدمك فواجع القتل المتدثرة بضبابيتها أو الواضحة المعالم، مثلما تأخذك تفاصيل أخرى إلى دجلة وجبل التحرير وأحلام المنتفضين المؤجلة، إذ لم تكن المسحة الجمالية الفنية في هذه المعروضات إلا تأكيدا لمأساوية الحدث. نعم هناك تأمل وتقص، وتقنية موحدة الغرض منها إضافة صيغة ملحمية توازي ملحمية الشوارع والساحات المفتوحة على الترصد والكر والفر والقتل، وعلى جمهورية الثقافة والوعي الفائق والتآخي وانعدام الفوارق.

(*) كيف نستطيع أن نميز هنا في معرضك بين حدود الفني والسياسي؟
- الفن السياسي كما ألفه جيلنا الستيني فن مؤدلج، فن الشعارات الجاهزة وتفاصيلها الواضحة. وغالبا ما يكون البوستر مجاله، أو صور الرؤساء، الفن الواضح التفاصيل والمباشر في طرحه.
في رسومي التي نويتها مسعى لتفكيك وإعادة بناء الحدث وإضفاء تفاصيل رمزية دالة تناسب حتى الحالة النفسية الجمعية ونفسية المتلقي في آن واحد. غير أنها قابلة وبسهولة لتمنح المشاهد المعنى المخبوء خلف التفاصيل مرة واحدة، حتى من دون التدقيق بكل التفاصيل المتناثرة على امتداد مساحتها. أنا هنا سعيت لخلق الانطباع قبل المعنى، وعلى المشاهد اكتشاف المغزى. وأعتقد أن هذا الذي حدث. فهذه الأعمال بالإمكان عرضها كوحدات مفردة وجمعا. وهي عموما لم تنفصل عن أسلوبيتي الفنية في تنفيذ أعمالي الحبرية، إلا في بعض الاجتهادات المطلوبة لتناسب دراماتيكية الحدث. وربما ضاعفت أو عمقت من مغزاها السياسي، كونها أيضا قابلة للعرض في أية فترة زمنية لاحقة كوثيقة سياسية وفنية معاصرة في آن واحد، وما دامت كل رسمة تحمل توقيع زمن تنفيذها المواكب لأيام ثورة أكتوبر.


(*) إلى أي حد ساهمت السياسة في تثوير الفن التشكيلي العراقي منذ السبعينيات إلى الآن؟
- العراق وكما هو معروف مر بتعاقب حقب سياسية تلغي بعضها بعضا. لكن وفي بداية السبعينيات وفي زمن الجبهة الوطنية، بالتأكيد في محيط غير مستقر سياسياً، تأثرت سياسيا بعض الشيء الأنشطة الفنية، حالها كحال بقية الأنشطة الثقافية. لكن ما حافظ على زخم التشكيل العراقي كونه تأسس بشروط تأسيس مناسب لغرز قاعدة قابلة للتطور. وما ضمور مدرسة فنية إزاء مدرسة أخرى انتعشت إلا في بعض من نتائج قصدية حراك سياسي. وأعتقد هذا هو ما حدث من انبثاق ظاهرة البعد الثالث الحروفية في جوهرها (مثلا)، كإحياء للتراث العربي الموافق لعروبية السلطة الحاكمة، وكتعويض عن النقص الحادث لملاحقة التشكيل العالمي (افتراضا) في نهاية حداثته وبداية معاصرته، والذي وجد له صدى في غالبية مساحة التشكيل العربي. بالتأكيد خلفت هذه الحالة بعض العوق في مجال الانتباه إلى بقية المدارس العالمية الفاعلة على الساحة العالمية والتي نحن أولا وأخيرا من المفروض أن نكون من بعضها. فالسياسة في هذه الحالة عملت على إعاقة التواصل الثقافي الفني والآخر بما يناسب الوضع التواصلي العالمي عموما، وحصرها في وهم الأصالة والتراث كمكسب فني تشكيلي حديث. وهي لا تزال فاعلة في تجميد الحالة كما هي بنسبة ما ضمن فضاء واسع من بعض الفضاءات التشكيلية للبلدان العربية.

  لوحاتي قابلة للعرض في أية فترة زمنية  كوثيقة سياسية وفنية معاصرة في آن واحد


















مفهوم الكتابة
(*) كفنان تشكيلي، كيف تجد نفسك معانقا مفهوم الكتابة من خلال جملة من المقالات المتناثرة على الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية في التشكيل وأحيانا تتنطع لغتك لتجد نفسها في رحاب الشعر وعوالمه، ألا تخاف من أن يشوش ذلك على مشروعك الفني المميز؟
- بعد كل هذا العمر (أنا على أعتاب الثمانين) وفي ضوء تفرغي الكامل لنشاطي ربما أفعل ذلك لحالة إشباع فني للحد الذي أجد فيه نفسي وأنا أنفذ عملا فنيا كأنني في نزهة تضاريس طبيعية. كذلك ربما لتوحدي وتفاصيل الطبيعة. فأنت في خضم هذه الرحلة الممتعة غالبا ما تخطر على بالك خاطرة ما. وهذا ما حدث لي. فللخاطرة زمن تأويلي كما الزمن الفني وهي عندي صنو بعض. وبالتأكيد لولعي الأدبي دور في ذلك، فأنا ومنذ بدايتي إن لم أكن فنانا تشكيليا لكنت أديبا ربما.
أما مساهمتي في الكتابة عن الفن التشكيلي المحلي والعالمي، فترجع إلى نهاية التسعينيات حيث بدأتها أولا كتلبية لحاجة بعض التشكيليين العراقيين في الخارج لتقديم أعمالهم للوسط الثقافي، أو كتقدمة لكتالوجات معارضهم الشخصية. وشجعني هذا النشاط الحقلي على خوض مغامرة أوسع، وهي تقديم بعض التجارب العالمية المعاصرة للجمهور التشكيلي العراقي والعربي. وغالبيتها قراءة لأعمالهم ومساهماتهم الأصلية في بعض قاعات العرض الأوروبية والأميركية حيث أتواجد أحيانا إضافة إلى ولعي في البحث عن المفاهيم المستحدثة والتجارب الطليعية والأسماء الضائعة في متاهة الغربية وانقطاع أواصر تواصلها. ويبقى كل ذلك مرهوناً بظروف انشغالاتي أو تفرغي لهكذا نشاط تدويني. وليس ذلك بدون ثمن بالتأكيد. لكنه وفي كل الأحوال ثمن معنوي يوسع من مداركي لفهم واستيعاب ما يجري على الساحة التشكيلية العالمية والعربية.

(*) علي النجار واحد من رواد التشكيل العراقي ممن انخرطوا في تجربة الفن المعاصر بطرق وموضوعات جديدة لا علاقة لها بالموضوعات التي كانت مطروقة خلال سبعينيات القرن الماضي سواء بالعراق أو غيره. ما هي الصعوبات التي وجدتها في ذلك الوقت وأنت تحاول اجتراح مشروع فني بعيدا عن تيار الحروفية الذي انتشر آنذاك مع جماعة البعد الواحد؟
- ربما حس تمردي قادني منذ زمن الدراسة الفنية. وربما هي الجينات الرافضة للمألوف الموروثة. وربما ثقافتي الأدبية المبكرة لما قبل خوض الدراسة الفنية. هكذا أنا، أجدني في موقع التعارض والرافض للمألوف، وهذا هو الذي قادني لدراسة الكائنات السومرية الأولى الملغزة واستخلاص جذوة التعبير عن الذات منها. ففي الوقت الذي كنت فيه غاطسا في تجاربي التشخيصية، وحتى التجريدية الأولى ذات الخلفية التشخيصية، بدأت الملامح الأولى للحروفية العربية في بداية السبعينيات.

ولمعرفتي بأن ثمة أيديولوجيا خلف هذه الدعوة الجماعية الفنية (وهي كانت كذلك من قبل الفنان العراقي المعروف المرحوم شاكر حسن آل سعيد الذي انقلب على موروثه التشخيصي السابق فجأة)، لذلك انتأيت عنها رغم ترشيح أحد أعمالي لمعرضها الأول في بغداد.
أنا لم أكن أحتمل القوالب الجاهزة لعملي الفني ولا تأطيرها بأيديولوجيا معينة، بعد تجربتي الأيديولوجية السياسية الأولى الفاشلة في زمن مبكر. من هنا واصلت تحريك مخيلتي ضمن عوالم افتراضية بتفاصيل كائنات الطبيعة الظاهرة والمستترة.  هذا ما حدث لي حتى هجرتي من بلدي العراق في عام 1997 لأدخل عالما أوسع ضمن الفضاء التشكيلي الأوروبي، كما في أعمال الانستليشن وبعض الأفكار، ومحاورة عناوين عريضة، كالبيئة والحرب والوباء والهجرة وغيرها. وهي أعمال أعتقد أنني لم أكن لأنفذها لو بقيت سجين داري البغدادية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.