}

ضياء العزاوي: ينبغي تحاشي الانحباس بتجربة استنفدت أدواتها التعبيرية

دارين حوماني دارين حوماني 19 أكتوبر 2019
حوارات ضياء العزاوي: ينبغي تحاشي الانحباس بتجربة استنفدت أدواتها التعبيرية
"تركت العراق بعد أن بان ضيق الأفق السياسي"
ضياء العزاوي مكوّن صافٍ من فن وتراث وإحساس بالقضايا الإنسانية، هذا الفنان الثمانيني الذي ترك "بلاد السواد" باحثاً عن أفق أوسع لكنه حملها وإرثها وأخواتها جميعاً معه في حقيبته، فكانت كلها أرضيّة حزينة لأعماله مع ما يحمله من ثقافة بصرية وفنية عالمية، تلك الأعمال المأهولة بكل ما هو مؤلم على مساحة بحجم قلبه إسمها البلاد العربية.
تعدّدت ممارساته التشكيلية بين الرسم والنحت والتصميم الطباعي بهدف التغيير المجتمعي والسياسي، وبهدف تحريك الذاكرة العربية الجماعية النائمة ورفض التطهير والقمع الديني والسياسي من أي جهة كانت.
ضياء العزاوي، الذي اختار لندن مكاناً ثانياً له حيث وُضعت جداريته "صبرا وشاتيلا" جنباً إلى جنب مع أعمال بيكاسو ودالي وآخرين ليكون الوحيد الذي زرع روح فلسطين وخلّدها في قلب أوروبا وفي ذاكرتها، شارك مؤخراً في الفعاليات الثقافية التي أقامتها دار النمر في بيروت بإسم "عراقيات" عبر منحوتة سمّاها "الروح الجريحة".
التقيناه في بيروت، وكان لنا معه الحوار التالي: 



(*)لك مشاركات عالمية وعربية كان لها صداها وأثرها على جيل واسع من الفنانين والمثقفين، كيف ترى مشاركتك اليوم ضمن سلسلة فعاليات "عراقيات" في دار النمر في بيروت؟
مشاركة كانت ضمن الممكن الذي تَوفّر لمنسّقة المعرض، وحاولت أن أقدّم عملاً تم تجاهله عراقياً وعربياً لفترة طويلة رغم قيمته في إدانة قوات الاحتلال ومن جاء معه من قوات وأفراد متنوعين.


(*)حدّثنا عن عملك في منحوتة "الروح الجريحة" التي تشارك بها في هذه الفعاليات؟
هذا العمل أنجزته عام 2010 للمشاركة به بمناسبة دعوتي إلى جانب فنانين عرب آخرين بمناسبة افتتاح المتحف العربي في الدوحة، وهو أول تجربة لي لعمل نحتي كبير، حاولت فيه تكوين صورة متخيّلة لاغتيال 450 عالما ومتخصصا في مجالات علمية متنوعة من قبل عناصر مجهولة، حيث تماهيت في رمز الحصان المستهدف بين العراق والحسين وتحيط به 450 زهرة بيضاء إشارة لعدد الذي تم اغتيالهم.


(*)هذا العمل الفني "الروح الجريحة" وحوله 450 وردة عدد العلماء الذين اغتالتهم أيدي الموساد في العراق خلال الأعوام الخمسة عشر الفائتة، ألا يمكن اعتباره خريطة للعالم العربي؟
ما حدث في العراق من استهداف للعلماء والمتخصّصين هو جزء من جهود مجهولة للتخلص من خيرة المتخصصين، حدث هذا أيضاً في سورية ممّا يدل على أن الموضوع له خصوصيّته في التخطيط والتوقيت وأن له امتدادات دولية. وتتعارض مصالح هذه الدول مع ما يمكن أن يحققه هؤلاء العلماء من تغيير نوعي في المجتمعات العربية الذي هو في أمسّ الحاجة لهذا النوع من المواطنين.

في منحوتة "الروح الجريحة"  تماهيت في رمز الحصان المستهدف بين العراق والحسين


















الشعر والفن
(*)كانت لك اهتماماتك بالنص الشعري كمرافق للتخطيطات الفنية، حيث دخل الحرف منطق الصورة، وقمت بتفسير النص الأدبي تشكيلياً مع أدونيس وسعدي يوسف ومحمد بنيس وحليم بركات ومظفر النواب، إضافة إلى المعلقات السبع، برأيك هل من وظيفة للفن التشكيلي رفقة الشعر أو للشعر مرادفاً للعمل الفني أم أنه جزء من تشكيل فني قد يكون مرغوباً؟
إنها تجربة لها أولياتها عالمياً، وإن اختلفت عن ذلك، فالتجربة الفرنسية هي تاريخ في العمل المشترك بين الشعراء والفنانين، وإن كانت في أغلبيتها تعود للطباعة بنسخ محدودة منها للعمل الفني الأصلي. شخصياً كان اهتمامي لإنجاز دفاتر شعرية بنسخة واحدة مع اهتمام لصيغة تقديمها وعرضها فنياً بشكل يبعد حضورها التقليدي في المكتبات إلى فضاءات حرة كجزء من المخيلة الجمعية. في نفس الوقت تحرّض المشاهد – القارىء للشعر أن يغتني بهذه المزاوجة بين المخيّلة المشتركة للشاعر والرسام التي تتراوح بين الاهتمام باللغة وأداتها للشاعر وبين التنوع اللوني والخطي للرسام.


(*)يمكن أن نشهد انتقالات أو تحوّلات في انشغالات ضياء العزاوي، كيف ترى هذا الانتقال من الانطباعية إلى الحروفية ثم التجريدية ويماذا تربطه، وهل تجد نفسك أحياناً تعود إلى ضياء العزاوي الستينيات وما تحمله من تشخيصية في أعمالك؟
ما تشيرين له من تحوّلات هو أمر طبيعي، لا يمكن للفنان أن يكون حبيساً لتجربة استنفدت أدواتها التعبيرية القادرة على ما يريد طرحه، ما أسعى اليه من تجريبية دون أن أتحدّد بين التشخيصية والتجريدية هو أن أكون قادراً عن التعبير عما أشعر به من تحولات ما يحيط بي إجتماعياً وفنياً وما يأتيني من متابعتي للتطورات الثقافية للمنطقة العربية.


(*)لماذا تركت العراق رغم أنك كنت مديراً لمديرية الآثار وكانت أيامها حركات فنية مهمة انتميت لها ثم تركتها؟

تركت العراق بعد أن بان ضيق الأفق السياسي، لم أكن مديراً للآثار (هو عنوان الوظيفة وليس الاختصاص) بل كنت مسؤولاً عن عرض اللقى الأثرية وتهيئة المتاحف كما حصل في متحف الموصل الجديد وكذلك الناصرية وفي موقع مدينة الحضر. وبهذه المناسبة حدث بعد أن دخلت داعش للموصل وظهرت لقطات لتدمير المنحوتات وإذا بمحافظ هذه المدينة المنكوبة يقول بأنها مجرد نماذج جبصية وليست أعمالاً أصلية. عجبت لجهل هذا الرجل بأن ما كان موجوداً هو على خلاف كل الآثار العراقية. إنها اللقى الوحيدة التي لا توجد منها خارج العراق في المتاحف العالمية.


حوار الحضارات ضروري
(*)نلاحظ تنوّعاً في إنتاجك الفني بعد انتقالك إلى أوروبا لكنك بقيت مرتبطاً بالقضايا العربية الكبرى وبالتراث وبذاكرة بلاد الرافدين، ماذا أضافت لك أوروبا، وبرأيك في القرن الواحد والعشرين هل تغني العولمة والإنفتاحات الثقافية عن الإقامة خارج الوطن العربي وما يتبعه ممّا يمكن أن يتلقاه الفنان من تطور فني؟
ما تجدينه من تنوع في أعمالي هو انعكاس لمعيشتي في أوروبا وما قدّمته لي فعالياتها الفنية والثقافية وما خلقته من قناعة بأن حوار الحضارات ضروري بمقدار ما يمتلكه المرء من ثقة بقناعاته الفنية وبانتسابه الحضاري، إرتباطي بالقضايا العربية موروث محصّن بمعرفة ومتابعة سياسية وثقافية منذ أن غادرت العراق منتصف السبعينات وبالتالي لا يمكنني المساومة على ما آراه من تدمير وتشويه للقيم ومن تداخل متعسّف بين الدين والحياة اليومية وما تعمل به الأنظمة السياسية من تجاهل متعمد لحاجات الشباب وتصوراتهم المستقبلية، الإنسان لا يعيش مرتين وبالتالي لا أراهن على الغيبيات وما يلتحق بها من جهل، التطورات العلمية الهائلة جعلتني أكثر قرباً (للوطن كمساحة جغرافية) وأبعد عنه كبعد علمي وفني وتحولات ثقافية.


الموضوع الفلسطيني
(*)جدارية "صبرا وشاتيلا" انتقلت من كونها تجسيدا لقضية فلسطينية لتصبح جزءاً أساسياً من قضية إنسانية عالمية عنوانها العنف البشري والآلام المصاحبة له، وقد تمّ وضعها في متحف تايت اللندني مع أعمال بابلو بيكاسو وسلفادور دالي وجورج براك وخوان ميرو، هل يمكن أن نقول إن ضياء العزاوي بنى ذاكرة عربية لا تموت في قلب العالم الغربي؟
لعلني في هذا العمل قد وضعت الموضوع الفلسطيني في مستوى حضاري قابل للتواجد في قلب المجتمع الأوروبي ومن منطلق فني له مستواه مع ما يتواجد حوله، لقد تجولت هذه اللوحة في بلدان أوروبية مختلفة وبطبيعة العمل وحجمه استوقفت الآلاف ممن قد لا يعرفون عن هذه المجزرة ووسعت من معرفتهم بحكم وجود معلومات مكثفة إلى جانبها.

وضعت الموضوع الفلسطيني في مستوى حضاري قابل للتواجد في قلب المجتمع الأوروبي


















(*)قلت مرة "لولا عملي في الفن كنت سأذهب إلى مستشفى للأمراض العقلية"، هل تعتبر الفن فعلاً للوجود؟
هناك تعقيدات في المجتمع العربي وتناقضات لم تجد لها حلولاً من قبل السياسيين ولم تتمكن القوى الوطنية التي استلمت الحكم بعد انتهاء الاستعمار من إيجاد قاعدة سليمة لتطوير المجتمع وخلق تقاليد سياسية ديمقراطية بموجبها تتحدد طبيعة النظام وقدرته على قبول الاختلاف مما خلق فجوة كبيرة بين المثقفين وبين النظام وكذلك المجتمع، وبمجرد النظر لبلدان أخرى وما حدث فيها من تطورات هائلة وبين مجتمعاتنا تعرفين السبب الذي يدفع بالمرء للجنون، بهذا أجد في العمل الفني موقع المتابع لفعل التغيير وما له من جدوى في إغنائي بالبعد الانساني.


(*)يعتبر البعض في أوروبا أننا ننتمي إلى حضارة ميتة، فقد تأثّرنا بهم حتى أن اللوحة بحدّ ذاتها هي منتوج أوروبي وأن أعمالنا هي نقل واستنساخ عن تجاربهم، برأيك هل استطاع الفنان العربي أن يخلق لغة عربية خاصة ومعاصرة عبر أعماله؟

هذا حكم متعجّل أو قد يكون صحيحاً على التجارب في الخمسينات وما قبلها، هناك حضور قد لا يكون واسعاً للعديد من الفنانين العرب وهناك تواجد لأعمالهم في المتاحف العالمية والمجموعات الشخصية، أما أن تكون هناك تجربة عربية أم لا، فجوابي أن هناك تنوعاً فردياً له مراجعه الفنية والثقافية عربياً، وهذا التنوع على اختلافاته يلتقي بموقف فني له خصوصية مختلفة عن الفن الشائع أوروبيا وهذا إنجاز يحسب له.


(*)هل ترى أن نجاح جيل الفنانين الشباب حالياً أو حتى الشعراء الشباب في عالمنا العربي بات يعتمد على قدرتهم على بناء علاقات داخلية وخارجية بما هو أهم من قيمة العمل الفني أو الأدبي الذي يقدّمونه؟
لا أعتقد ذلك رغم أهمية هذه الحاجة للعلاقات، فالعمل الإبداعي لا يمكن أن يطاول ما لم يملك مقوماته الذاتية، وما لم يمتحن محلياً وعالمياً، والتقليل من جماليات محلية هي علامة من علامات الانغلاق الحضاري.

(*)أخيراً، هل تعرف أن أعمالك التي عرضتها في دار النمر تؤلم، توجع القلب، وتحيل لاوعينا إلى وعي زائد.. ماذا يريد ضياء العزاوي عبر مجمل أعماله التي تشبه الصرخة؟
ما عرضته هو مختارات محدودة حاولت فيها التقليل من الصراخ الموجع، والتذكير بما يحيط بنا من أوجاع، ولعل عنوان معرضي الاستعادي الذي أقامته مؤسسة المتاحف في الدوحة (أنا الصرخة أية حنجرة تعزفني) والذي استعرته من شاعر من جيلي هو ما يُعرّف أعمالي وانتساباتها.

* فيديو لعمل تركيبي لتصوير مجهري متباطىء لمنحوتة ضياء العزاوي في المتحف العربي للفن الحديث، الدوحة، قطر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.