}

الروائيّ ممدوح عزام: أكتب مرثيّة الواقع السوريّ

مناهل السهوي 22 سبتمبر 2018
حوارات الروائيّ ممدوح عزام: أكتب مرثيّة الواقع السوريّ
ممدوح عزام

في أحد الأحياء الهادئة في مدينة السويداء يستقبلنا الروائي ممدوح عزام ليخبرنا عن المكان والسياسة والعائلة وأبنائه الثلاثة المنتشرين في هذا العالم، نتبعه بخطوات ثابتة إلى عوالم مختلفة، متحدثاً بتأنٍ عن الحرب والثورة والرواية. تكتشف سريعاً أنه كشخصياته الروائية واضحٌ، يتبعُ حدسه المتمرد الرافض لكلّ القوالب الجاهزة، مبتسماً كأبٍ حنون، محاوراً كرجلٍ مثقف يعرف كيف يصوغ كلماته الصلبة كحجارة مدينته السوداء، مُشبعاً بالهواء الحرّ والنقي للجبل.

يشتغل الروائي السوري على الرواية بوصفها نبشاً في الماضي ليستخرج شكل الحاضر القاسي، مستحضراً الموت بأشكالٍ مختلفة لكن بنفسٍ حاد فبعض أبطاله يموتون بسبب الحرب وآخرون بسبب التقاليد وبعضهم يموت عبثاً، إنه سؤال الإنسان وسط الرغبة والحرية والسلطة. آخر أعماله كانت رواية "أرواح صخرات العسل" الصادرة عن دار ممدوح عدوان ودار سرد والتي ذهب فيها نحو ماضي الأشخاص متكئاً على حريتهم الفطرية لخلق مستقبلهم المؤلم. وفي هذه المناسبة كان لـ"ضفة ثالثة" الحوار التالي معه:

عن الحروب الصغيرة والثورة

 

* تدخل معظم روايات الحرب اليوم إلى الموت وأشكاله، فضلتَ العودة في "أرواح صخرات العسل" إلى الخلف نابشاً في الظروف التاريخية التي وجّهت الشخصيات نحو مصائرها. هل تجد أن الثورة مصير أم تراكمات أنتجت حالة من العنف؟

- كلا الأمرين معاً، فروح التمرد والاحتجاج والرفض والمقاومة كامنة لدى كلّ روح بشرية، وهي تعبر عن الرغبة في التخلص من حالة ركود تتعفن الذات الإنسانية بداخلها وتشرف على موت مجاني. وبهذا المعنى فهي تنحو نحو تقرير المصير الذي يصبو إليه البشر، بعد أن يكون قد تراكم على أرواحهم صدأ فظيع ناجم عن الاستبداد السياسي الطويل، أي عن تراكم القهر والإذلال الذي قد يستمر لفترات طويلة تكسرها روح الثورة. أما العنف فهو يرافق جميع الثورات في التاريخ، فلا الحاكم يقبل أن يتنازل بسهولة، ولا المحكوم يستطيع أن يصل إلى حريته بترداد الشعارات وتقديم العرائض، وهو أمر يحطم إنسانية الإنسان في النهاية.

* تحدثت في روايتك الجديدة عن الحروب الصغيرة التي يواجهها الفرد منذ صغره والتي كانت مجاراتها شبه مستحيلة لولا عناد الأبطال الثلاثة. هل نعاني من انعدام الوعي لدى من يجابهون السلطة فقط من منطلق العناد؟

- لم يكن عناداً بل نوع من المواجهة والتمرد على السائد والمقرر. وهو تمردٌ عفويّ وطبيعيّ ناجم عن الاستعداد الفطري لدى البشر لرفض الانصياع والطاعة، وهو الوعي البشري في حالته الخام التي لم يتدخل فيها أحد لتغييرها أو إغنائها سياسياً وفكرياً. ربما كان هذا هو حال معظم التحركات الشعبية الواسعة في معظم الثورات العربية، لم يكن الوعي غائباً عنها، وإلا لما تحركت البتة، لكنه كان بحاجة لمن يحوله إلى قوة واعية تعرف ما تريد وتسعى إليه.

* ربطتْ شخصية "أحمد لدي مصادري" علاقة مشوشة مع جميع سكان القرية، كان يعرف الكثير عنهم، على عكس ما كانوا يعرفون عنه. أيمكن أن نرى في " لدي مصادري" جهة أو عنصراً لم يتعرف عليه الكثيرون خلال الحرب السورية؟ 

- أعجبني وجود هذا الراوي في النص، لقد اكتشفته تقريباً أثناء الكتابة، ووجدت أن ما يعرفه عن سكان القرية خلق قطيعة بينه وبينهم، فمعرفة الأسرار عن الناس تبعدك عنهم أحياناً ولا تقربك منهم، والأخطر من هذا أن من يعلم أنك بتَّ تعرف أسراره، من دون إرادته، قد يكرهك أو يقاطعك أيضاً. ولهذا يخشى الكثيرون من الروائي أو الرواية التي يعتقدون أنها تكشف المخبوء. وقد ساعد وجود أحمد الذي كان يزعم أو يدعي أو يملك الكثير من أسرار القرية في ملء الفراغات التي يتركها الراوي الآخر نائل الجوف في النص، خاصة أن أحمد كان العين والأذن والأنف الذي يرى ويسمع ويشم الأحداث اليومية ويحتفظ بأسرارها، وبهذا ربما يشبه بطريقة ما الروائي نفسه. فالروائي هو الجهة التي تحضر بصورة سرية متسللة إلى أي حدث واقعي كي تكشف فيما بعد الأسرار التي خبأها أو يعتقد أنه خبأها هذا الحدث، ولهذا اخترت شخصية مثل أحمد الذي يدعي أنه يملك أسرار القرية كي يكون أحد الرواة لمصير الشبان الثلاثة، إنه الروائي في ثوب شخصية تعلم كل شيء.

* هل يمكن أن نعتبر أن مصير أبطال "أرواح صخرات العسل" الثلاثة نبوءة للواقع السوري؟

- لا ليست نبوءة بقدر ما هي مرثية، إنها نوع من الحزن العميق على المصير الذي آل إليه أولئك الأنقياء البريئون في ظل الحرب العبثية التي حدثت هنا.

ما نعرفه جيداً

* تنحو نحو بساطة الواقع وعمق المضامين الروائية. هل يمكن أن نعتبر ذلك شكلاً روائياً أم نقلاً أميناً للواقع؟

- هو شكل روائي بالطبع، وكل كتابة روائية هي محاولة في إيجاد الشكل الروائي المناسب للموضوع والمحتوى الروائيين، لا يمكن لأي رواية مهما تكن قيمتها الفنية أن تكون نقلاً أميناً للواقع. فنقل الواقع مستحيل لأن الرواية تنهض على الانتقاء والاختيار، أو على اقتطاع لحظاتٍ من الزمن الواقعي وإدخالها في البناء الروائي.

* كم ظهر من شخصيتك وحياتك الحميمة وعوالمك في رواياتك؟

- لا أعرف ولا أستطيع أن أحصي المرات التي استلهمت فيها لحظة أو حادثة أو مشاعر أو صداقة مما مرّ في حياتي، ومثلما يفعل جميع الكتّاب، فإن هذا لا علاقة له بالضعف أو القوة، بل بمدى صلاحية الاستعارة للمواقف المتخيلة التي يبنيها الروائي في عمله. وفي الغالب فإن الكاتب لا يتعمد ذلك، بل يأتي في السياق الروائي ويندمج في الشخصية الروائية، ويصبح جزءاً من عالمها، أي تلغي الخصوصية التي فيه، وتخرجه من العالم الشخصي. وفي كل الأحوال فإن تتبع مثل هذه الاستعارات أمر مشوق بالتأكيد.

* يمكننا القول إنك من الكتاب المفتونين أدبياً ببيئتهم، فلم تخرج رواياتك من إرثك الثقافي المحلي، هل تجد ذلك نقطة ضعف أم قوة؟ وهل كان خياراً؟

- الفتنة في الاتكاء على بيئتنا وثقافتنا هي أننا نعرفها جيداً، وقد يكون بوسع كتاب كثيرين أن يكتبوا عن ثقافات وبيئات أخرى غير بيئاتهم، أما أنا فلم أستطع أن أنجز مثل هذا العمل، ولا أفكر في إنجازه. وهؤلاء الناس الذين نسميهم " البيئة" هم الذين أعرفهم، وهم الذين عايشتهم وأفهم تقريبا شكل الحياة التي يختارونها، وأجواء بيوتهم، وتفكيرهم وأشواقهم وأفراحهم وأحزانهم.

 

 

أن نتجاوز التاريخ بالكتابة

* أعدت كتابة التاريخ بحبكات اجتماعية وسياسية وإنسانية. كيف يمكن أن نتجاوز التاريخ بالكتابة، وخصوصاً إن كان دموياً كتاريخ سورية؟ 

- من الصعب أن نتجاوز التاريخ كفعل اجتماعي وسياسي، إنه يعشش بيننا في كلّ لحظة، سواء كنا نتحدث عن تاريخ شخصي يختصّ به كل فرد من بيننا، أو كنا نتحدث عن التاريخ العام الذي يمس حياة الجماعة والشعب. ولكن المتغير في الرواية هو أنها تعيد سرد الأحداث بطريقة مختلفة عن السرد التاريخي، فمن جهة تنهض الكتابة الروائية على أساس الاختيار والانتقاء، من دون أن تخشى الاتهام باللاموضوعية، أو بتجاهل الوثائق، أو بالابتعاد عن المناهج، إلا إذا أراد شخص أو مؤسسة أو سلطة ما أن تحاسب المتخيل الروائي كما تحاسب النص التاريخي. وهنا يمكن أن أجيب عن سؤالك الأول بخصوص روايتي "أرواح صخرات العسل". إذ وجدت أنه من غير الممكن أن أصل إلى المصير الذي لاقاه الأصدقاء الثلاثة من دون العودة بكلّ واحد من بينهم إلى تاريخه الشخصي، وإلى التاريخ العام الذي دفع بهم إلى هذا المصير.

فإذا تحدثنا عن تجاوز التاريخ ، فإننا نقبل بهذا الأمر بالمعنى الروائي، أي بمعنى أننا نعيد روايته من جديد بعيداً عن ما يقوله المؤرخون. ولهذا السبب نرى الاعتراضات العنيفة التي تطاول الروايات أحيانا، فهي تعرض المسكوت عنه، أو المضمر، أو ما لم يقله التاريخ، كما عبر عن ذلك كارلوس فوانتيس، مما يرغب آخرون في أي سلطة بالتكتم عليه.

* نقلت قريتك (تعارة) بأمانة وصفية ووجدانية إلى كتاباتك. كيف حولتها إلى مادة مكانية قادرة على احتواء أحداث غزيرة ومعقدة كما في "أرواح صخرات العسل"؟.

- ما إن تنتقل الأماكن إلى الرواية، حتى يحدث لها ما يحدث للشخصيات من حيث المصير، إنها تتغير وتتبدل ويطرأ عليها نوع من إعادة البناء بما يتوافق مع بنية الرواية وطريقة حياة الشخصيات التي تعيش فيها، ولكن يبقى من الأصل ظلال هامة هي الأساس الذي يبنى عليه العالم الجغرافي الجديد الذي يقدم الروائي من خلاله مصائر البشر الموصوفين في الرواية. ولا علاقة للزمن الذي مضى على عيشنا في المكان كي نتفاعل معه فنياً، بل لطريقة العيش. لما يمكننا من اكتشاف الجمال الكامن في جوانبه الظاهرة والمخفية. هكذا أستطيع أن أقول إن ما أراه في قريتي لا يستطيع غيري ممن عاشوا فيها مددا أطول زمنياً، أن يروه. إنها ملكة خاصة بي تمنحني القدرة على إعادة ابتكار الأمكنة فيها بما يتناسب مع المخيلة الروائية. هذا ما تسميه أنت المساحات الحرة، وهي تدل على قوة المكان نفسه، واحتوائه على العناصر التي يمكن ترشيحها لأن تضمّ حياة شخصيات جديدة أخرى قد تأتي إلى رواية أخرى قد أكتبها.

* تكشف في أعمالك عن الرغبة والجنس كما لم يقدمه كاتب من السويداء. قد يرفض بعضهم أن تكون بنية الجنوب الاجتماعية هكذا، ما ردك في هذه النقطة؟

- المشكلة في مثل هذه القراءات أنها تقتطع من النص الروائي المواقف التي تخدم فكرتها عن التحريم والممنوع، وهكذا لا يرى المعترض سوى المرأة التي تدخل في علاقات يرى أنها ممنوعة، ويتجاهل النساء اللاتي يشاركن الرجل مشاركة حيوية فعالة في إدارة البيت أو الحقل أو مشاغل الأسرة. لم يكن في أي من رواياتي ما يمكن أن يقال إنه مبالغة، بل مجرد بشر عاديين يعيشون حياة عادية تتضمن الجنس مثلما تتضمن الطعام والشراب والنوم والعمل، وفي رواية "أرواح صخرات العسل" لا يرى الجنس إلا في مشهد واحد يشير إلى فساد الشخص المعني به، بينما تسود قصة حب بريئة بين خالد وهو أحد الشبان الثلاثة في الرواية وهيفاء الكافي التي تتخلى عنه في آخر الرواية.

* هل يستطيع الأدب يوماً، والرواية خصوصاً، ترك أثر وسط كل هذه الفوضى التي نحياها؟

- سمعت أحد الأشخاص يقول مرة إنه لا يسمح لأولاده بقراءة إحدى الروايات. وقد أثار ذلك الموقف كثيرا من الأسئلة في ذهني عن أثر الأدب في السلوك والتفكير البشريين. فلو لم يكن ذلك الشخص مقتنعاً أن للرواية تأثيراً كبيراً في حياة الناس لما أطلق ذلك التصريح. وعلى هذا فإن شخصاً عادياً حصل على تعليم وثقافة متوسطين يستطيع أن يحسم الجدل حول هذا المسألة ولو بالإعلان عن خشيته من القراءة. ولهذا فإن كلّ ما نراه من نشر للروايات، ومن جوائز تمنح، ومن مقالات تكتب، ومن لقاءات وحوارات، هو تعبير عن اليقين بأثر الأدب على الحياة الشخصية للأفراد، والحياة الاجتماعية للشعوب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.