}

جنان كاظم الخليل: اللوحة التابوت صرخة ضد الموت

ليندا نصار ليندا نصار 1 سبتمبر 2018
حوارات جنان كاظم الخليل: اللوحة التابوت صرخة ضد الموت
عمل للفنانة جنان كاظم الخليل

تعد الفنانة التشكيلية الدكتورة جنان كاظم الخليل من أبرز التجارب الفنية التي بصمت مدارس التشكيل العربي لما تتميز به من إمكانات جمالية استطاعت أن تعمل على خرق المألوف والسائد، وأن تكشف عن مناطق الصمت في طبيعة النظر إلى الذات والعالم والحياة، وأن تطوق بصمات القمع في المتخيل الشعبي العربي، وأن تفكك الهويات وصراعاتها داخل الجسد الأنثوي العربي عن طريق بناء أسئلة خاصة تتصل بالوجود والجنون والمقدس والمدنس والأعلى والأسفل في عزف منفرد يمزج اللون بحكايات تجعل اللوحة كائنا من لحم ودم، بل تمنحنا وجوهها العلنية والسرية فرصة أخرى لتأمل خطوط طبقات المعنى في عالم محمّل بالأسرار والسراديب والأحجام، إنها فوضى خلاقة تربك تلقينا، وتدفعنا إلى اكتشاف مجاهيل جنونها الذي يشبه جنون كبار الفنانين والنحاتين والشعراء والأدباء. لذلك فلا غرابة أن تمثل أعمالها الفنية مدرسة تتمتع بخصوصيات يجمع عليها عدد من النقاد والأكاديميين الذين درسوا تجربتها التشكيلية أو عبر تفاعلهم المباشر على صفحاتها ومشاركة لوحاتها في الفضاء الأزرق، أو في أغلفة كتب الشعراء والنقاد مما جعلها محط اهتمام أهم صالات العرض بلبنان والعالم العربي والغربي؛ هذا فضلا عن كونها واحدة من داعمي التجارب الشعرية الجديدة في العالم العربي إلى جانب سعيد عقل. جنان الخليل خريجة معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية، وحاصلة على ليسانس في الهندسة الداخلية فرع الديكور، ثم واصلت دراساتها العليا إلى أن حصلت على الدكتوراه من باريس، حيث حاضرت عن الفن ومدارسه في عدد من الجامعات العربية.

 

* تشتغل الفنانة جنان الخليل على تيمة "الجسد الأنثوي" باعتباره سؤالا يبحث في مساحات اليومي بهوامشها الصغيرة التي تتعرض إلى الانفتاح والانغلاق أمام سطوة السواد بتمثيلاته المتعددة. هل الجسد الذي يتم الاحتفاء به على نحو خاص في تجربتك التشكيلية هو نفسه الجسد المقموع في واقعنا العربي؟

لكل تجعيدة وجوه. بهذا المعنى يصير الزمن الخاص لحكمنا على الأشياء غير خاضع لطبيعة الرؤى التي عادة ما نحملها عن أنفسنا، لهذا أحب أن يكون الاشتغال على الجسد كيفما كانت تركيبته متصلا بمنمنمات كأنها حكايات، حتى أنني أسميها بـ"كتابة تشكيل الوجه"؛ فما دامت هذه الكتابة خاضعة لتوليفات لا يمكن تلمسها إلا بوساطة قارئ ذكي للوحة التشكيلة في طبقات تشكلها بعيدا عن تلك القراءات الإسقاطية التي تقول كل شيء عن اللوحة ولا تقول أي شيء. إن ما أشرت إليه في علاقتي ب"الجسد الأنثوي" هو صحيح يظهر في النتوءات وعمليات المحو التدريجية للملامح في شبكات الوجوه المتقاطعة والمتداخلة مع منطق الحكاية والحياكة التي تجعل ما هو هامشي مركزي في قراءة مفترضة للواقع قد تكون صائبة وقد لا تكون. إنني أسعى إلى أن أحرر هذا الجسد من المقولات الاختزالية العبثية التي تنظر إليه باعتباره بؤرة للشهوة أو الشبق المقدس في حين أن نظرتي إليه نظرة إنسانية كونية ما دام هو نفسه معرضًا لكل أشكال التدمير والهتك المادي والرمزي. لهذا حينما أفكر بوساطة الجسد أفكر في رموزياته أحب المسافة لأنها تحرض على مزيد من القلق والسؤال، وكل عمل فني لا يستند إلى هذه المسافة يكون عاديا، والاستثنائي هو الذي يقربني من استعارة الجسد كحكاية صلبة في نواة كل لوحة. أما السواد فيجثم علينا من النواحي كلها، والفن وحده من يمكن أن ينقذنا من سطوته كمقاومة حقيقية للاحتفاء بالعقل وبالاختلاف وليس بالمطابقات المميتة.

* هل خلصتك اللوحة من إطارات الذهنيات الذكورية التي قاومتها لوحاتك بشراسة وهي تشتغل على مرويات تراثية كقيس وليلى وليالي ألف ليلة؟ لماذا الانفتاح على التراث العربي تحديدا؟ وما هي الأسئلة التي قادتك لبلورة هذه الحوارية من داخل الفن التشكيلي؟

الفن عموما يخلصنا من ربقة التقاليد البالية التي تؤخر تطور المجتمعات وتحضرها ودخولها في فكر الأنوار. أعترف بأنني لم أكن مهتمة بهذه الحدود البيولوجية من حولي سواء أفي الحياة أم في علاقتي بالفن والأدب. غير أن التحولات التي لمستها من حولي في علاقتي بما يدور بي، جعلتني أكتشف ازدواجية في الخطاب حتى عند المثقف نفسه، فهو يدافع عن تحديث المجتمع، وتجده في بيته يمارس كل أشكال التسلط والقهر والرجعية، هذا الانفصام جعلني أتأمل هذه الذهنيات التي لا تتعلق بالذكر أو الأنثى بل هي تسير في المنحى نفسه عند كثير من النساء المتحررات المدافعات عن المساواة ولكن بينهن وبين أنفسهن وفي حياتهن يصبحن عاجزات وخاضعات. ومن ثمّ كنت أبحث عن مظاهر النور في النصوص الإنسانية؛ لأن التراث لم يمت ولن يموت أبدا ما دام يحمل في نصوصه كثيرا من مظاهر الفرح والتعايش والتسامح والسلم والقيم الإنسانية الرفيعة قيم الحب والرحمة والصفح؛ لكن طبيعة العودة إليه ومساءلته هي التي تفرض تجديد الأسئلة والسير في طرقاته الوعرة من دون فخاخ الإيديولوجيا السافرة التي تدمر الإنسان بسبب عدم الفهم. لهذا حينما فكرت بالانفتاح على شخصيات ثقافية في تراثنا العربي كان من منظور سؤال خاص يتعلق بقوة المرأة في الحوار مع الآخر، وفي منطقة الاحتمال؛ أي وجود فلسفة للتعايش بغض النظر عن الخطأ الذي يظل لصيقا بالإنسان باعتباره كائنا ضعيفا. لهذا كان سؤال الحب والبحث عن بناء تعايش وتدمير الاختلافات المتوحشة هو دافعي نحو العودة إلى التراث العربي بهدف بناء رؤى تنفتح على الحاضر والمستقبل، وتتجاوز الرؤية الضيقة التي تجعل منه كائنا متحفيا.   

لا أدعي أنني وليدة ثقافة واحدة وبالتحديد الثقافة العربية، فالفن رسالة اجتماعية حضارية ملهمة للشعوب والثقافات، وقضايا الإنسان أينما وجد، من دون النظر إلى دين أو جنس أو لون. ربما معاناتي هي نفس المعاناة عند مارجريت أتوود فى قاتلها الأعمى وبرل باك في الأرض الطيبة وغيرهما ممن يحملن هموم الإنسان، ولا أفضل مصطلح الذكوري والأنثوي، بل اصطلاح الإنسان هو الأقرب إلى قلبي، برغم أنني فى أعمالي الفنية دوما ما أجسد معاناة الإنسان من خلال منمنمة نسوية. فالمرأة دائما هي العطاء اللامحدود عبر تاريخ البشر، فهي الأرض والبذر والثمر، فمعظمنا تعاطف مع شهرزاد ودنيازاد خوفا عليهما من البطش. المرأة هي الجمال.  

* هل الجسد واحد أم متعدد في رؤيتك الفنية وخصوصا توظيف الوجه بإيماءات لا منتاهية يتساوق مع تشكل طبقات القراءة في تكوين اللوحة؟

لا يمكن أن يكون الجسد واحدا لأنه ليس إلها؛ ولا أحب أن يتم تأليه الجسد على حساب الروح، أحب التوازن في طبيعة نظرتي إليه، فالعمل الفني يسعى إلى الخلود في عين ذاكرة المتلقي وروحه، ماذا يمكنني أن أقول عن "عري السلطة"، و"الجسد الثالث" وهكذا من متنافرات تتعلق بالجسد المريض والعليل والنحيل والموشوم والجميل وغير الجميل في تحديدات الذوق العام والشعبي.. الجسد في رؤيتي يرتبط بتاريخ النقص وعلاقتنا بالرغبة نحو اكتماله بشكل ما، لهذا يتمثل أو أتخيله جميلا في تجاعيده التي تفضح هشاشة التصورات التي غالبا ما تكون مرتبطة به، ولكنه يرمز بالنسبة إلي إلى الامتلاء والفكرة والثورة والتمرد وحركية الكون.. إنه أداة لاكتشاف الداخل وارتباكاته وتمزقاته القصوى، ومع ذلك أحب تلك القراءات الذكية التي تربط بين امتداد الصحراء في حبات الرمل بين الكف والاشتغال على الوجوه الملونة بخطوط الحياة وهي تعصف بها مساحات الرغبة والضعف والجنون والقوة والتسلط والهشاشة. إنها قراءات للغة من الصعب الفصل فيها حسب الثقافات والأديان والمعتقدات والذاكرة والهويات.. 

* ماذا يمثل بالنسبة إليك الوجه هل هو أداة اشتغال أي تقنية في الرسم؟ أم هو معنى للبحث عن الاكتمال في عالم النقص؟ أم هو صرخة ضد كل أشكال الزيف والمحو التي تحيط بنا؟

الوجه هو المقابل الموضوعي للباطن، فالحزن والفرح والانطلاق والخذلان والألم والقهر... وغيرها...هي من مفردات المشاعر والأحاسيس يظهرها الوجه مع كل تفصيلة من تفصيلاته. فربما يحاول البعض إخفاء حزنه، لكن العينين تفضحان سريرته التي تجعلك رغما عنك تتعاطفين مع ذلك الإنسان الذي يحاول إخفاء معاناته.

* المتتبع لأعمالك الفنية يلاحظ أنك تولدين معاني ودلالات من قوة الألوان التي تختارينها وتكاد تهيمن عليها الألوان الحارة. هل يعني ذلك أن ثمة حرائق داخلية تصور حركية السؤال وديمومته في طبيعة النظر إلى الداخل وما يعتمله من إرباكات؟ أم هي فورة لمساءلة ما تبقى من حرائق الأمس سواء أكان ذلك على مستوى ما هو قيمي أم وجودي أم هوياتي أم ثقافي؟

هناك طاقات في اللون، ومصدرها نابع من قوة اللون نفسه، فاختيار الأحمر لا يتعلق بلحظة نفسية أو انفعالية، بل بطبيعة الوجوه التي تلخص فهما معينا لتاريخ جسد قد لا يكون جسدي أنا، ولكنه بالضرورة هو كل جسد أثر في لاوعي الجسد نفسه، وخصوصا المركب منها في حالات الضعف التي تستأثر باهتمامي، وأنا أتسكع وأشاكس الحياة، لهذا قد يرتبط اختيار الأحمر بكل الرموز التي يمكن أن تكون حاملة لمعانٍ موجودة في ذاكرة الملتقي وفي ثقافته الموسوعية؛ فالأحمر ليس فقط عنوان الحب والحرب بل عنوان الأبدية، وهكذا كذلك مع اللون الأزرق السماوي كرغبة في الامتداد والبحث عن اللامتناهي والشاسع.. إن الألوان في النهاية، تترجم مشاعر عميقة لإحساساتنا التي ندركها ونستجيب لها في تفاعلنا معها تماما مثل ما حصل مع لوحة "تمزق" كترجمة لانفعال مع تحول القيم النورانية في المجتمع إلى قيم ظلامية مزقت أجسادا بريئة في بيروت وباريس ومدريد وتونس ودمشق وبغداد.. فالوعي يصبح ذائبا نتيجة هذه التفاعلات والتداعيات التي تتدفق على شكل تعبيرات تشكيلية كما هو الأمر حينما نكون أمام روائح تغير كثيرا من الصور في أذهاننا في اللحظة نفسها تتراءى صور أكثر شاعرية من دون أن نعرف مصدر تلك الرائحة. لهذا كل لوحة من لوحاتي بألوانها المتعددة تترجم وعيا ما بحالات الموت أمام ما يربك تصوراتي عن العالم الذي أدين به بغض النظر عن هذه المستويات في اندفاعاتها الحرة أو تدفقاتها التي تعد بحسب بوصلة الخير والشر وأسهم البورصة وقيمنا المجهضة. أفضل أن أكون أنا في لوحاتي عوض استعارة أجساد للديكور أو الاستعمال السريع..

* تتميز تجربتك على مستوى تشغيل المواد بتنويع قوي؛ إذ نجد النحاس والذهب والخشب وخصوصا التابوت هذا الأخير الذي خضع لرؤى فنية استطاعت أن تظهر الجانب المضمر في علاقتنا بالموت الذي تحول في أعمالك التشكيلية إلى أداة فعل لمقاومته؟ هل هي رغبة في رفض كل الأفكار المظلمة السوداوية المنغلقة أم هي رفض صريح للتطرف الذي بات يعمل على قتل العقول وجعلها تابوتية تتجه بالحياة إلى طريق الموت ولا شيء غيرها؟ لماذا التابوت بألوان زرقاء تخفي أقنعتنا المرئية وغير المرئية؟

كيف يمكن أن أترجم سؤال الموت في لوحة مسطحة ممتدة، ألا يفرض علي الموضوع تغيير الشكل ما دام الموت يجعل هذه الأرض تتحول إلى تابوت أو إلى قبر.. إن التابوت هو حياة بالنسبة إلى أجساد مفتتة لا تقوى حتى المقابر على جمع رفاتها المتناثرة بين شظايا الحروب والطائفية والفهم الأحادي للدين والتطرف والإرهاب، وليس هذا فقط، بل حتى في فلسفة ما بعد الحداثة التي تجتاح عالمنا العربي في السراويل الممزقة من دون أن نمر بالحداثة والعقلانية. كيف إذًا، نستطيع أن نبني حضارة داخل تابوت في مرحلة من مراحل "التمزقات التاريخية" التي يبدو أننا ندور فيها ومعها كلما أحسسنا بقوة الغرب وانكساراتنا المتتالية. ألم نضع القدس في "تابوت"، وكل شيء بما فيها قيمنا وكل الأشياء التي كنا نفخر بها، إن الرغبة في الإخفاء تزداد مع تعطش الإنسان لاكتناز الحياة. إن اللوحة التابوت صرخة ضد كل أشكال الموت الرمزي وغيره، وتلوينه بألوان الحياة هو نداء إنساني للتفكير في الحياة ومواصلة الحلم بعالم ملون بالفرح وليس الكآبة والحزن.  

* هل أنصفتك اللوحة التي جعلتك تجربين الانتحار وترفضين عوالم الحياة الإقطاعية ومعالم البرجوازية؟

أفضل أن أتحدث عن تجربة الانتحار بوصفها سلوكا لا يقدر عليه إلا الأقوياء؛ وهذه التجربة تحديدا جعلني أكتشف هشاشة القوة في علاقتنا بما نفكر فيه داخل حياتنا ونبضاتها المؤجلة. غير أن دافعي نحوها لم يكن بسبب الحياة نفسها، وإنما بطبيعة تشكل الألوان من داخل تناقضاتها الصارخة، فأنا لم تكن تفزعني الحرب، وعشت في الضاحية الجنوبية بأسئلتها المؤرقة، ونجوت من الموت مرات عديدة وانفجرت قنابل عديدة أمامي. اختياراتي في الحياة كانت ضد الموقف الرسمي الذي كانت تمثله العائلة باعتبارها ضد كل ما هو غير تخصصي دقيق، ومع ذلك احترمت رغباتي التمردية، وما يزال أبي حاضنا قويا لكل تأملاتي في الحياة على الرغم من صور عديدة ترجمتها في أعمالي التي يمكن أن تكون عبارة عن سيرة مفتوحة لا تكتمل في لوحة معينة بقدر ما تجتمع عناصرها في ما سيأتي من أعمال. الفنان الحقيقي يكتشف أسطورته الخاصة ويتحول معها إلى كائن متوحد مع موهبته التي حتما تحتاج إلى الدراسة والتخصص لكي يكون مبدعا ينتج الفرادة ويعمل على مضاعفة حداثات التجربة في كل لوحة. لهذا أقول الإنسان لا يحتاج إلى إنصاف أو إجماع أو اعتراف أو تكريم من أي أحد أو جهة كيفما كانت خاصة أو رسمية بقدر ما يحتاج إلى إيمان حديدي بما ينشغل به؛ أو لم تكن وصية الراحل حنا مينة منذ أكثر من عقد دليلا قاطعا على أننا نصل إلى حقيقة الصورة بعد أن تصبح التجربة الفنية أو الأدبية قد نهجت طريقا صعبا ومستحيلا.

* ما الذي دفعك إلى هذا الجنون لتعانقي وتمكثي في رحابة اللوحة؟

لكل مبدع حالة شديدة الخصوصية، فمثلا أنتج طاغور هذا الجمال الشعري من خلال المكوث فى القصيدة والروحانية المفرطة والتأمل الشديد. فعالمي لوحاتي، وبعد معايشات مجتمعية كثيرة وتجارب يملؤها الفرح والحزن، وجدتني أنسحب إلى عالمي طوعا وكرها وحبا وتوحدا. الفنان الحي هو ذلك المنتج على الدوام، لذا قررت العزلة قد المستطاع كي أحيا فى عالمي الذي لا أحب سواه.

* هل الفن مؤلم إلى هذه الدرجة؟ وهل تستطيع اللوحة أن تصور هشاشة الكائن في زمن الرقميات المتسارع والعولمة المجنونة العابثة بكل شي بما في ذلك الإنسان نفسه؟

ألم الفن متعة لا يدركها سوى الفنان ذاته، أنا لا أجزم بذلك الألم ولا أنفيه قطعا. تتكون الحياة بين ضدين هذا وذاك، فإن كان الفن مؤلما يبقى أخف وطأة من ألم الحياة نفسها ومعاناة البشر اليومية، التي حتما تستطيع اللوحة التعبير عنها مع اختلاف الزمكان، ومهما كانت القضايا وتعددها وتشابكها فالفن حمال لها.

* نجحت الفنانة جنان الخليل في دعم كثير من التجارب الشعرية الجديدة بقوة في المشهد الشعري العربي. اليوم من خلال جائزتها التي ترسخ تقليدا كان يعمل به الشاعر سعيد عقل، وتصر على عدم وضع اسمها على الأعمال الفائزة. لم الشعر تحديدا وليس الفن التشكيلي؟ ما علاقتك بالشعر؟ وهل يستطيع الشعر حقا أن يلون هذا العالم بألوان السلم والتعايش وتعدد الهويات والإعلاء من قيمة الإنسان؟

لمَ الشعر تحديدا؟ سؤال جيد. للإجابة على هذا التساؤل الذي ينقلنا من عالم التشكيل باللون إلى عالم التشكيل بالكلمات، بيد أنه لزاما علي أن أعود قليلا إلى الماضي، حينما فعلت الشيء ذاته مع الفن التشكيلي فى بيروت مع افتتاحي لغاليري مرام وكان أول غاليري للفنانين العرب وفيه كان العرض الأول للفنانين نزار صابور وعلي سليمان ونزيه أبو عفش وغيرهم، ثم أكملت تلك التجربة فى البحرين فقدمت أول معرض استعادي للمرحوم فاتح المدرس وأيضا لصفوان داحول ومصطفى علي وغيرهم. كان غاليري البحرين بمثابة مدرسة فنية مفتوحة أبوابها لكل ناشئ ومحب للفن التشكيلي، وبرغم تحفظي على مصطلح النسوي، إلا أنني قدمت من خلال غاليري الفيروز للساحة البحرينية تجربة نسوية رائدة، كما قدمت بعض الأسماء من الرجال التي لم تكن معروفة حتى تقديمي لهم فى الساحة الفنية، فقد دأبت منذ فتح الغاليري على عمل ورشات فنية، أحاضر فيها بنفسي وبشراكة فنانين كبار، قدمت للبحرين مبدعين مثل جمال عبد الرحيم ونبيلة الخير وغيرهما. لكنني لظروف لا أحب الإفصاح عنها اضطررت لمغادرة بلدي الثاني والذي أعشقه وأعشق ناسه والعودة إلى لبنان والاتجاه لمساندة الشعراء أسوة بالفنانين التشكيليين، فقدمت تلك الجائزة لتقديم تجارب شعرية جديدة تحمل خصوصيات في طبيعة الرؤيا التي يترجمونها في نصوصهم، وأنا فخورة بحضورهم القوي الآن في الساحة الشعرية العربية، وأسعد حقا لما أقرأ نصوصهم. إنها مجرد إشارة إلى أن الشعر هو أصل الفنون ولا يمكن أن يخضع لمعيار السوق لأنه يخترق الأجناس والفنون التعبيرية وغيرها ما دام الإنسان نفسه هو الشاعر حتى حينما يكتب بلغة الصمت.

* هل يمكننا أن ننتظر منك عملا شعريا ولا سيما وأن قمت بتجربة فنية تمثلت في طبع عمل فني يضم نصوصا ولوحات مطرزا بطريقة فنية مبتكرة وزع بشكل محدود على بعض الشعراء والأدباء والفنانين؟ 

بالفعل لدي عمل جاهز للنشر، لكنني مترددة حتى هذه اللحظة ربما أكتب وصية لأحد أقربائي من الشعراء لما أموت يعملون على طباعته ونشره في تابوتي. إنها لحظة شعرية حقيقية..

* كيف تنظر الفنانة إلى راهن الفن التشكيلي في لبنان وقاعات العرض وحوارية الفنون بها؟ وطبيعة التلقي النقدي؟ ما الذي يزعجك في لبنان وخصوصا وأنك واحدة من أبرز المعارضات للسياسة الثقافية؟

الحركة التشكيلية اللبنانية تحولت إلى حركة تجارية بامتياز، وليس فقط فى بيروت بل تحول الوضع إلى سوق تجاري فى كل الدول العربية، وقد بدأت اللوحة فى الاختفاء بدخول عالم التركيبات، فأصبحت اللوحة مؤرشفة كنقل مباشر من دون فلسفة ووعي بطبيعة الإبداع، حتى أصبحت معظم الأعمال متشابهة مع بعضها البعض، وأيضا ما يعرقل الحركة الفنية العربية عدم وجود حركة نقد موازية ومواكبة وحقيقية.

* ما الذي تبقى من بيروت التي في ذاكرتك، ولا سيما وأنك واحدة من الذين أسهموا في بناء جسور للتواصل والتلاقي بين الفنانين والشعراء في ثمانينيات القرن الماضي عبر الغاليري الذي خصصته للاحتفاء بقامات شعرية وفنية كبيرة في العالم العربي؟

بيروت أسطورة حقيقية للروح ولذاكرة الحاضر والمستقبل عصية عن الابتلاع مهما تعالت صيحات الموضة في صحونها الطائرة المحملة بالعولمة والتسطيح، وحتما هي ممتدة في خيال الأجيال تخترق الحدود والجغرافيات بسحرها الذي افتتن به كبار الشعراء والموسيقيين والفنانين والرسامين والعابرين. لهذا سأقول عنها: إنها بيروت شقيقة القلب والعين ..!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.