}

نبيل سليمان: منع "ليل العالم" آلمني وأثار سخريتي

عارف حمزة 7 يونيو 2018

للروائي السوري نبيل سليمان (1945) قصّة طويلة مع منع رواياته من قبل السلطات السوريّة، وقد بدأ ذلك المنع من روايته "السجن" في طبعتها الأولى عام 1972، وكذلك كان الأمر مع رواية "جرماتي" التي منعها الرقيب في عام 1978، ثمّ مُنعت روايته "جداريات الشام – نمنوما" في عام 2014، قبل أن تُمنع روايته الأخيرة "ليل العالم" والتي صدرت مع مجلة "دبي الثقافية" في شهر يناير 2016؛ المجلة التي توقفت بعدها بشهرين عن الصدور!!

والروائي سليمان، الذي تفرّغ للكتابة منذ عام 1989، أصدر اثنين وخمسين كتابًا، منها إحدى وعشرون رواية، كان أوّلها "ينداح الطوفان" في عام 1970، وطبعتها الرابعة كانت في عام 2016، بينما بقيّة الكتب كانت في النقد الأدبي والثقافي. وكان كتابه النقدي الأوّل بالاشتراك مع المفكّر بو علي ياسين، بعنوان "الأدب والإيديولوجيا في سوريّة" في عام 1974، وآخرها "مرآة الأحوال: طغيانياذا" في عام 2016. كما صدر عن تجربته الكتابيّة ثلاثة عشر كتابًا.

رواية "ليل العالم"، التي صدرت طبعتها الثانية مؤخرًا عن دار "بردية" المصريّة، والتي كانت سبب هذا الحوار، تناولت الأحداث التي عصفت بمدينة الرقة السوريّة بعد سقوط النظام فيها و"تحريرها" من قبل "الجيش الحرّ" المعارض، ولكنّها سرعان ما صارت العاصمة الأولى لدولة الخلافة في العراق والشام "داعش". إلا أنّها تتناول كذلك فترات صعود "البعث" السوري منذ ستينيّات القرن الماضي وتحكمه بمصائر الناس والسلطة، وكذلك بمصائر الأحزاب السياسيّة الأخرى.

سليمان الذي أسّس دار الحوار للنشر في عام 1982، وعمل في التدريس في عدّة مناطق سوريّة، من بينها الرقّة، بين عامي 1963 – 1979، يُقدّم رواية طازجة ومثيرة، رغم الفترة الزمنيّة الطويلة التي تجري فيها الأحداث ورغم نمو الأحداث في سوريّة والجزائر ولبنان والإمارات...، وتُعتبر من أفضل الروايات التي صدرت حتى الآن عن الأحداث التي تعصف بسوريّة منذ آذار من عام 2011.

في "ليل العالم" نعثر على أحداث حقيقيّة وأسماء حقيقيّة وأماكن حقيقيّة، وكذلك على أغانٍ من الفولكلور الرقّي، وفيها نكتشف أسبابًا كثيرة لخنق الشخصيّة الرئيسيّة "هفاف العايد"، وهي النبع الأساسي الذي سالت منه الرواية، على يد مقاتلي "داعش"، وذلك على لسان الراوي الأساسي "منيب". لا نعرف سببًا مُحدّدًا لخنقها طوال رحلة منيب المُضنية لسرد الأحداث بطرق سرديّة مختلفة، ولذلك تبدو هفاف وكأنّها تُمثّل كلّ نساء الرقة، وربّما كلّ نساء سوريّة، ومن خلالها تمّ بناء شخصيّات كثيرة، وبشكل متماسك نفسيًّا وبدنيًّا وفي الأحداث التي شاركت فيها، وكأنّ الأمر يتعلق بمقولة الرواية نفسها؛ في تكميم الأنثى حتى في لباسها يعني تكميم البلد نفسه، نحو مقولتها الكبرى "هذه الحرب ليس فيها غالب. كلّ سوري في هذه الحرب مغلوب".

هنا حوار مع سليمان:

تبدّد الحلم

(*) في عزلتك في قريتك "البودي"، في ريف مدينة جبلة السوريّة، كيف تشرح لنا تأثير سنوات الحرب والقتل والتهجير والتنكيل والنزوح ... في نظرتك وعملك في الكتابة؟

بقدر ما كنتُ مفعمًا بالأمل ومتّقد العزم، وأنا أرى الشباب و"السلميّة" يموران في سوريّة، بقدر ما أسرع إليّ القنوط. فمن جهة أولى بدأت العسكرة تتلامح مبكرًا، مثل الأسلمة. وقبلهما جاء القمع بأعنف ما كان منتظرًا حتى من سلطة ديدنها القمع والعنف طوال نصف قرن.

من جهة ثانية كان للاعتداء الذي وقع على بيتي في البودي وأنا محاصر فيه مع صديق، يوم 11/7/2011، صدمة جلّلتني بالألم والخوف. فمكان كتابتي وقراءتي وعزلتي ومكتبتي منذ عام 1989، ما عاد آمنًا. وها هم بعد الاعتداء، وبعد تدخّل نائب رئيس الجمهورية، يكتبون على أضلاع سور البيت (هذا منزل العرعور)، ولم يكن ذلك يعني أقلّ من استباحة الدم في تلك الأيام.

بعد شهور لم أجرؤ خلالها على النوم وحيدًا في البيت، كما كان الأمر غالبًا خلال اثنتين وعشرين سنة، جازفتُ، حتى استعدت عادتي الأثيرة بالنوم وحيدًا في البيت.

وبانقضاء سنة 2011 كبر يقيني بأن الحلم قد تبدّد، وأنّ الربيع الموعود ابتلعه الصيف، وزاده الخريف فالشتاء ابتلاعًا، وأنّ السلمية قد هُزمت، وأنّ العسكرة والأسلمة قد هيمنتا، وأنّ النظام يخوضها حرب حياة أو موت، وأنّ ما يحدث منذ ربيع 2011 هو زلزال بامتياز، وها هي الحدود تفتح لسيل الرايات السوداء من كل حدب وصوب.

تحت وطأة كل ذلك كانت روحي تتمزّق وأنا أقرأ، وروحي تتمزّق وأنا أتابع الشاشات، كما أتابع الصداقات التي تتشقّق، والطائفيّة التي تنفثُ سمومها، بينما المعارَضات المسلّحة وغير المسلّحة تتسابق إلى الارتهان في أحضان الدولة المموّلة..

كانت روحي تتمزّق وأنا أكتب. هكذا كتبت رواية "جداريات الشام – نمنوما" عن سورية 2011، والتي صدرت سنة 2014.

في غفلة، أو في صحوة فائقة، تم تدجيني في حرب مجنونة، في نفاق ثوري ودولي، في الشاشات والسوشل ميديا، في الصداقات التي تبرد أو تتقطع، سواء مع المعارضات أو مع الموالاة. لكنّني، من تمزق الروح إلى التدجين، من الخوف إلى القنوط، سرعان ما كنت ألتقط أنفاسي، وألملم شتاتي، وأنهض بما تبقى مني.

(*) روايات كثيرة كتبت خلال هذه السنوات المضنية، ومن المثير أن عدد الروائيّات السوريّات هو أكثر من عدد الروائيين السورييّن في كتابة الروايات. إلى ماذا يُعيد الروائي والناقد نبيل سليمان ذلك، وما رأيه فيها؟

إذا كانت الرواية قد سبقت الشعر إلى الانفعال بالزلزال وإلى محاولة التعبير عنه، فقد تخلل ذلك فيض من الروايات المتواضعة، وبعضها وسمته الرداءة الفنية، وكثير منها يشكو من وطأة السياسة والشعاراتية والخطابة والتحزب والثأرية، وكل ذلك على حساب الفن. وليس كل ذلك إلا بسبب افتقاد النظرة التاريخية، وتبعيّة الفنّي للسياسي، واللهاث خلف الراهن، والوقوع في منزلقات التاريخ الساخن، التاريخ الذي يتشكل ويجري الآن.

وربما كان الحضور الأكبر للروائيات استمرارًا لحضورهنّ في عموم المشهد الروائي العربي.

فأقرأ وأكتب مثلما كنت قبل الزلزلة.

هكذا جاءت "ليل العالم". غير أن أمر الكتابة من بعد أخذ يتعقّد ويعسر من مشروع إلى مشروع حتى اليوم. أما النظر فلعله ازداد جلاءً وثقة، ليفرض نفسه ما كنت أعبر عنه بحياء أو بخوف، وخاصة من المزاودات المعارضة التي طوّبت الوطنية كما طوّبها عتاة النظام. لكن الأهم من كل ذلك هو أن يزداد النظر مثل الكتابة نقديةً واتقادًا.

دافع سيري

(*) ما الذي جعلك تختار الكتابة عن الذي جرى في "محافظة الرقة" بشكل خاص؟ هل هي سيرتك القديمة هناك؟ ورغم أنّها انتهت منذ زمن جيّد، مثلها مثل سيرتك ربّما في الجزائر، إلا أنّها بدت طازجة وكأنّ مَن يكتب هو أحد أبناء الرقة. هل كنت تحتفظ بتخطيطات ما؟ وما الذي بقي من الرقة الآن؟

من المؤكد أن الدافع السيري كان دافعًا قويًا لكتابة "ليل العالم". فإذا كنت قد عشت في الرقة ما بين 1967-1972، فقد ظللت مسكونًا بها حتى اليوم، وظلت علاقاتي وثيقة جدًا بها حتى اليوم. أما ما في "ليل العالم" من الجزائر، فالحق أنه ليس سيريًا، بل متخيلا.

كل ما يتعلق بالرقة في الرواية وغيرها، ليس من أوراق قديمة، بل هو من المستكنّ المتقد في الذاكرة، في الوجدان، في الروح. وها هي الرقة الآن قد ذهبت بَدَدًا، كعمران، لكن "دريسدن" (الألمانيّة) قبلها ذهبت بها الحرب العالمية الثانية إلى بددٍ أكبر، وخلال عشر سنوات عادت أبهى إلى الحياة.

ستعود الرقة أكبر بهاءً، وربما أسرع.

(*) تبدو "ليل العالم" وكأنّها رواية توثيقيّة – تسجيليّة، مع قيامها على الكثير من الأحداث والأسماء الحقيقيّة. هل تعتبر هذه التسمية ظلمًا لها، وخروجًا على تكنيك الكتابة لديك؟

يحضر الأب "باولو دالوليو" في الرواية على نحو يشي بالوثائقية. وكذلك هو حضور "أبو لقمان" و"أبو علي الأنباري" من قادة داعش في الرقة. لكن لقاء الأب باولو بهفاف ومنيب، سواء في الدير أم في الرقة، هو لقاء متخيل. كذلك هو حضور القياديين الداعشيين، واستذكار منيب لماضي ابن الرقة (أبو لقمان)، ومثول منيب أمام القائد الداعشي، كل ذلك متخيل.

لعلك تلاحظ أن الرواية التي تغامر بالشهادة على الراهن / الحاضر، وبكتابة التاريخ الساخن، التاريخ الذي يتشكل ويجري، تثير شبهة الوثائقية، مثلها مثل الرواية التي تحفر في ماضٍ قريب أو بعيد، بالأحرى رواية التاريخ البارد. كبر أكبر. ففي الرواية الكثير مما يرفع الرقيب في وجهه البطاقة الحمراء.

وبالنسبة لرواية "ليل العالم" إذا كانت قد استطاعت أن تجعل القارئ (ة) يعتقد (تعتقد) أنها وثائقية، فهذا أمر يسعدني جدًا، لأنه يدلّل على مقدار ما استطاعت أن تقنع القراءة به.

الرقيب هو هو
منذ نصف قرن

(*) ماذا يعني لك منع روايتك "ليل العالم" في عام 2016 وقبلها منع روايتك "جداريّات الشام"، في عام 2014، من دخول سوريّة؟

علّمني هذا المنع ما أعلمه جيدًا جدًا منذ عرفته أول مرة عندما منعت الرقابة طباعة روايتي "السجن" في سورية عام 1972، فاضطررت إلى "نعمة" النشر في بيروت، وصدقتُ المثل: ربّ ضارة نافعة.

والرقيب هو هو إذن منذ نصف قرن. من الحق أنه أحيانًا يتراجع، فقد سمح برواية "السجن" من بعد، وكذلك كان الأمر مع رواية "جرماتي" إذ منعها عام 1978، ثم سمح بها عام 1995. ومن الحق أن الرقيب أحيانًا يتسامح، ولكن (كله محسوب).

لقد آلمني هذا المنع لرواية "ليل العالم" بقدر ما أثار سخريتي. فأيّ عقل هذا الذي يمنع في زمن الاتصالات العابرة لجلودنا؟ وأيّ حرمان من القارئ السوري بلاني به؟

يسعدني أن تصدر "ليل العالم" أو "جداريات الشام" في دبي أو القاهرة أو عمان، ولكن القارئ (ة) في سورية هو مَن يهمني أولًا وعاشرًا، وخصوصًا لهاتين الروايتين في هذه الأيام.

(*) ربّما كان السبب في منع رواية "ليل العالم" هو حديثها عن حقائق إطلاق سراح الإسلامييّن من سجون النظام في أيار 2011، والذين شكلوا قادة الفصائل الإسلاميّة المتشدّدة الرئيسيّة، التي فرّخت الكثير من الفصائل فيما بعد، والذين بدا كأنّهم ذاهبون لتشويه صورة "الثورة" وداعمون لنظريّة النظام في أنّه يحارب الإرهاب في طريقه لسحق "الثورة" ضده. بالإضافة لمقولة "هذا الدرك الذي وصلناه بسبب الاستبداد والديكتاتوريّة".

ربما كان أمر إطلاق سراح الإسلاميين ومآلهم المتشدّد سببًا للمنع، لكني أكاد أجزم أنه ليس السبب الأكبر. ففي الرواية الكثير مما يرفع الرقيب في وجهه البطاقة الحمراء، مثل إحياء صور المظاهرات السلمية في مدينة الرقة، كجزء من المظاهرات السلمية في عموم سورية سنة 2011. وبالتالي، يكمن السبب في كل ما قدمت هذه الرواية من الشخصيات والصراعات التي تهتك وتعرّي ما بلغناه من الدرك الأسفل بسبب هذا "الليل" الذي يخنقنا ويعمينا منذ أكثر من نصف قرن في سوريّة، وليس بأرحم منه هذا الليل الذي يسربل العالم كله. انظر: أين نحن الآن؟ أين العالم الآن؟

(*) منع الرواية في سوريّة كأنّه جرّ التعتيم عليها في أماكن أخرى، وعلى الرغم من أنّها من الروايات الأكثر قربًا وحياديّة ضمن الروايات الكثيرة التي صدرت خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أنّها لم تخضع للكثير من المراجعات لبيان أهميّتها. هل نعود بذلك من جديد لمسألة كُتّاب الداخل وكتّاب الخارج؟

لا أستطيع أن أربط بين المنع وما تعدّه تعتيمًا. ولا أحسب أن الرواية شكت من تعتيم. فقد صدرت طبعتها الأولى كتابًا مرفقًا مع مجلة دبي الثقافية في عدد كانون الثاني/ يناير 2016. والرواية التي يجري توزيعها مع المجلة تكون محظوظة عمومًا، بقدر ما تكون المجلة مقروءة، وقد كانت مجلة دبي الثقافية كذلك: إنها ثلاثون ألف نسخة وبثمن زهيد. لكن الرواية تختفي من التوزيع مع نفاد أو إعادة وتخزين المجلة، وعمرها إذن في التوزيع شهر واحد.

في معرض الكتاب في القاهرة مطلع هذا العام صدرت طبعة جديدة من "ليل العالم"، وها هو الروائي والناقد المغربي أحمد المديني قد كتب عن الرواية، للتوّ. وأضيف أخيرًا أن الرواية حظيت بفصل من كتاب السورية لطفية برهم "أنماط الوعي"، وبفصل من كتاب التونسي أحمد بدري الناوي "الإحالي والجمالي"، والكتابان صادران في سورية منذ سنة.

أقول هذا كله للتوضيح، وليس للتعزية عن تعتيم أو قصور. فالمراجعات والدراسات ليست بريئة من الشلليّة والعصبويّة والعلاقات العامة، وللسوشل ميديا دور ما هنا.

أخيرًا إليك هذا المثال السوري الجارح والصارخ: رواية متواضعة فنيًا، لكنها تتفوق على برنامج فيصل القاسم "الاتجاه المعاكس" في صخبها وثأريتها وهجائيتها وسبابها. وبفضل أخطبوط العلاقات، والتلطي خلف الثورة والمعارضة والمنفى واللجوء، تنصبّ على الرواية اللايكات الفيسبوكية والنقدية والصحافية، ولكن ماذا يساوي كل ذلك؟

أما الزبد فيذهب جفاء يا صديقي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.