}

لطيفة لبصير: الكتابة هي رغبة قبل كل شيء

ليندا نصار ليندا نصار 30 يونيو 2018

لطيفة لبصير واحدة من الكاتبات والباحثات المغربيات اللواتي أثبتن حضورهن الأدبي والنقدي في الثقافة العربية المعاصرة. بل وأثرن في إعادة التوازن لصورة المرأة داخل المتخيل القصصي العربي. لا ترتبط قصصها فقط بالأنثوي المحض، وإنما برؤية جمالية تعمل على توسيع جنس القصة عبر دفع طاقاتها التصويرية نحو أقصى مدى ممكن، وبالتالي تصبح القصة تشيد معرفة عميقة عن الإنساني وهشاشته، وتناقضاته، ومستويات المركزية الذكورية التي تغدو في قصصها كشفا عما لا يُقال عادة بصوت مرتفع. كما أنها من موقعها الأكاديمي والتدريس في جامعة الحسن الثاني كأستاذة للسرد والنقد الحديث واصلت حفرياتها البحثية في جنس السيرة الذاتية ومساحات الحدود داخلها انطلاقا من السير التي كتبتها المرأة من دون السقوط في فخ الكتابة النسائية، بل بحثت في الجماليات التي نجحت في رصدها داخل الكتابة. إنها لطيفة لبصير الأكاديمية والقاصة المغربية التي راكمت عديدا من الأعمال في القصة القصيرة والدراسات النقدية وترجمت إلى لغات عديدة كالفرنسية والإنكليزية والألمانية، وتم الاحتفاء بها في أكثر من موقع عربي سواء أكان ذلك على مستوى التجربة الإبداعية أم كمحكمة علمية في لجان عديد من الجوائز، ونافست بقوة مجموعتها القصصية "عناق" (2012) أحلام مستغانمي في اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد بعد سلسلة من المجاميع القصصية: "رغبة فقط" (2003)، و"ضفائر" (2006)، و"أخاف من.." (2010)، و"يحدث في تلك الغرفة" (2018)، و"محكيات نسائية، لها طعم النارنج" (2014)، ودراسة نقدية "سيرهن الذاتية، الجنس الملتبس" (2012) و(2018)، ومجموعة قصصية مشتركة مع القاص الإسباني نافارو (2009)، و"وردة زرقاء" ترجمها إلى اللغة الفرنسية عبد الله الغزواني (2018).

 

*يلاحظ قارئ أغلفة أعمالك القصصية والنقدية أنها تتوحد في اللون الأزرق وتلويناته المتعددة، بل نجد هذا اللون لصيقا حتى بفلسفة اللباس عبر صفحتك الزرقاء. هل هذا الاختيار مرتبط بوعي جمالي يتصل برمزية هذا اللون أم ثمة سر آخر؟ ما حكايتك مع هذا اللون؟

- العديد من أعمالي صدرت باللون الأزرق، وهو بالنسبة إلي أولا لون الصفاء والماء والبحر والغضب أيضا، فهو اللون الذي تنبع منه العديد من المتناقضات، إذ لا يمكن حصره في معنى واحد يتيم، وهو اختيار جمالي أيضا ارتبط في العديد من أعمالي بالفنان سمير السالمي، فنان البحر الذي يهيمن الأزرق أيضا في أعماله الفنية، والتي يشكل البحر فيها عالما لامتناهيا من الأسرار، وتلقائيا تحول إلى العديد من ملابسي، بشكل جمالي أيضا، وأصبح له حضور خاص مع كتبي.

*تعد القصة القصيرة من أصعب الأجناس الأدبية في تحديدات النقاد لكونها تدور في فضاء مكثف وتعتمد في بنائها الجمالي على اللقطة. لماذا اختارت لطيفة لبصير القصة القصيرة؟ ألا تفكرين في الهجرة إلى الرواية مثلما فعل العديد من كتاب القصة حينما اعتبروها مجرد تمرين على الرواية؟ ما رأيك في مثل هذه التصورات؟ وما هو تصورك عن القصة القصيرة؟

نعم القصة القصيرة من الأجناس الصعبة التي تشتغل على رقعة ضيقة، وكلما ضاقت الرقعة، أصبح التعبير أصعب وأدق، لأن كل ما يوجد في النص ينبغي أن يدل حتى أصغر الإشارات، لذا تبدو القصة القصيرة مثل وعاء لرموز لها تأويلاتها العديدة المؤجلة التي يمكن أن تضيء عبر كل قراءة ثانية، وهذا يتأتى لنا حين نعيد قراءة النصوص القصصية قراءات جديدة؛ فنحن نكتشف طبقا من الأسرار التي لم نصل إليها في القراءات الأولى، وهنا أتحدث عن النصوص المكتوبة بعناية وبدقة والتي تحمل أكثر من المعنى الظاهر الذي يكون ملازما لمعنى الباطن. هناك أمهات القصص طبعا التي ما زالت تعد مثل نصوص مثال لحد الآن والتي لا ينبغي نسيانها من حقل غرائب النصوص المتجددة على الدوام في القراءة، منها القط الأسود والرسالة المسروقة لإدغار آلان بو، والمعطف لغوغول وخصلة شعر لموباسان، ووردة لإيملي لوليم فولكنر والعطش لغسان كنفاني وذرات لحنان درقاوي واللوح المحفوظ لأحمد بوزفور واللائحة تطول. وأنا أعشق هذا الجنس الأدبي بقوة رغم أنني في البداية كانت اختياراتي الجمالية موجهة لحقل الرواية سواء في دراساتي العليا أو أبحاثي، وهذا لا يمنع من أنني أكتب في نصوص روائية وهي مؤجلة في النشر ليس إلا، وليس هذا نوعا من الهجرة وإنما هو من قبيل التنويع السردي، خاصة بالنسبة لتيمات تقتضي سردا طويلا مفصلا له العديد من الفروع التي يعود إليها لكي يتمم مشهده الحاضر، وهذا لن ينسيني معشوقتي القصة القصيرة التي أشعر بفرح غامر حينما أكون بصدد قراءة النصوص العسيرة التي لها أكثر من دليل أو مفتاح، فتلك هي المتعة الكبرى، مثل الباحث عن القاتل وسط مجرمين كثر.


*أما زالت تعاني القصة القصيرة من التهميش على مستوى النشر والمواكبة النقدية؟ وكيف تقيمين تجربتها عربيا؟

نعم هي تعاني من التهميش على المستوى العالمي، وهذا يتضح حين أحرزت الكاتبة الكندية أليس مونرو جائزة نوبل وهي كاتبة قصة قصيرة، فقد سمعت وقرأت العديد من الانتقادات حول تجربتها، بل اعتبر البعض بأن قصصها لا ترقى إلى أن تحوز جائزة نوبل حتى من طرف القصاصين أنفسهم، آنذاك قلت في نفسي، هل يعتبر القصاصون أنفسهم أن ما يكتبون هو مجرد تمارين تطبيقية  تُنسى مع الحصول على النقطة النهائية الإيجابية أم أن في الأمر خللا ما.

قرأت العديد من أعمال هذه الكاتبة التي تكتب بصيغة مختلفة، وهذا بالضبط نوع من الإشكال، فالكل يضع معايير نمطية جاهزة في ذهنه لكتابة القصة، وحين يكتشف أراضي أخرى غير مطروقة فهو يصاب بالارتجاج لتركيبة ذهنه المستوية على طاولة ورق مكررة، في حين كانت التجربة على قدر غرابتها مهمة؛ فمثلا ضمن مجاميعها القصصية، يمكن أن نقرأ قصة تحمل معناها الخاص لوحدها، كما يمكن أن نقرأ معنى آخر داخل المجموعة القصصية كلها، وهو اشتغال بالنسبة إلي ليس سهلا، فأبطال القصة الواحدة لهم معنى داخل القصة ولهم امتداد خارجها أيضا، وقراءتهم بالمعنيين تمنح للقارئ رؤية مزدوجة لما يحدث، وهو شكل جمالي أعتبره جيدا بالنسبة إلى الكتابة. وبالنسبة إلينا على المستوى العربي، هناك العديد من الكتاب العرب طبعا الذين أتحفونا بكتابة القصة القصيرة مثل زكريا تامر ويوسف إدريس ومحمد زفزاف وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي وربيعة ريحان وأنيس الرفعي وحنان درقاوي وسعيد منتسب وجمال بوطيب وغيرهم، ولو أنني من دون وعي مني أجد بأن القصة القصيرة في المغرب تكتب بوعي مختلف جدا على مستوى الشكل لأن المضامين هي موجودة أو مطروقة ولكن الشكل يتغير من جيل الى جيل، وهناك مواكبات نقدية ولكنها قليلة، وهذا يعود إلى المناخ العام الذي يؤمن بأن الرواية هي سيدة القرار.


*يشعر القارئ في قصتك "أخاف من.." بألم الشخصية التي تعيش تناقضاتها على مستوى الحياة في ظل ذاكرة ترغب في النسيان جراء ما علق بها من خوف في الطفولة، طفولة تعيش قدرها بعد وفاة الأب لتدخل في سلسلة من المشاهدات التي جعلته يشكك في فحولته. هل يمكننا أن نقول إن هذه القصة تسخر من واقع الجامعة في ظل موجات الإصلاح العديدة التي يقودها جامعيون معطلون بسبب قوة الذاكرة. هل انتهاء السارد- الشخصية إلى انتظار الأم لتفك له طلاسم هذا الخوف من المرأة هو إدانة صريحة لطبيعة الفكر الخرافي الذي أضحى يهيمن على الممارسات العلمية من داخل الجامعة أم أنها حالات إنسانية تفكر فيها القصة القصيرة التي تكتبها لطيفة لبصير؟  

في هذه القصة القصيرة يشعر بطلها الأستاذ الجامعي بعجز جنسي لا يستطيع محاربته، بينما الفراشات تحلق حوله وهو في حالة اليأس. حين كتبت هذه القصة كنت أفكر فيه طبعا كإنسان يريد أن يفعل أشياء كثيرة وأن يقوم بالإصلاح الجامعي، لكن كل ذلك باء بالفشل، وأمام ما يتنازعه من رغبات في التغيير ورغبات في الانتصاب، يبدو الماضي أكبر من تعليمه وتثقيفه، فقد كانت أمه يوما ما تزيل الثقاف لرجال ممنوعين من الانتصاب في كوخ ناء يعود إلى ذاكرته على شكل طبول يتردد صداها، وكان هو قد أصيب بانتكاسة حقيقية لما كان يراه من سلوكات أمه، التي في الحقيقة كانت تزيل الثقاف (العجز الجنسي الذي يفسر على أنه سحر) على طريقتها أي بمضاجعتها للزبائن، ولذا فذاكرة الخوف استوطنت ملامحه وشلت قدرته على التغيير في حياته الشخصية، وهو دوما يرغب لو عادت أمه لكي تزيل عنه الثقاف، في حين كانت هي نفسها صاحبة القتل.


*في مجموعتك القصصية "عناق" التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد مع أحلام مستغانمي، هناك تصوير لحالات نسائية تعيش واقعها في ظل سلطة وهيمنة الرجل، بل تتحول المرأة إلى مجرد ديكور في بيت الرجل كما هو الأمر في قصة "الدعسوقة" التي عاشت الشخصية حيوات متطابقة سواء في الطفولة أم بعد الزواج برجل مشابه للأب حيث السواد والقهر والروتين والخوف من الآخر، والخيانة التي تبدأ مع الحاجة إلى عناق. هل يمكننا أن نقول إن لطيفة لبصير انتصرت للمرأة تخييليا من أجل إعادة التوازن لصورتها المختلة في المجتمعات العربية؟ أم أنها صرخة ضد كل أشكال القهر والتسلط التي تعانيها المرأة؟

كانت لحظات جميلة تلك أن يتم الإعلان عن "عناق" ضمن هذه اللائحة، وعناق هي مجموعة قصصية تنشد الإنسان أولا وضمنها المرأة والرجل، وأنا كنت أنتبذ هذا المكان القصي بين الثنائيات كي يتفاعلا من جديد، كل الثنائيات التي تعيش بين ظهرانيها كأمكنة وأزمنة وأحاسيس، ومن بينها المرأة والرجل، الحياة والموت، الماضي والحاضر، السماء والأرض...الخ. كنت أبحث عن عناق يضمهما من جديد أو يبحث في أشكال عطبهما المتكرر الذي يؤثر على مجرى الحياة، ولذا كانت تفاصيل صغيرة هي التي تشد أبطالي، مثل حشرة صغيرة مثلا تلقب بالدعسوقة تحيي طفولة بأكملها لدى الساردة التي عاشت نفس الروتين منذ بداية تربيتها الأولى إلى زواجها من رجل بنفس المواصفات، وهي لا تنفك تؤجج في ذاكرتها رغبة في عناق جميل ربما يحمل نوعا من الجرأة حين تبادلت قبلة مع رجل آخر ليس من نفس الطبقة الاجتماعية ولا المواضعات الاجتماعية، بحيث يعد خرقا لما اعتادت عليه ولكنها حياة بأكملها يلخصها ذلك الميل والشد عن القاعدة المألوفة.


*هل تحن لطيفة لبصير إلى طفولتها، وإلى أرجوحتها، وإلى معالمها التي نجدها تحضر في أكثر في قصة في مجاميعك؟ هل يؤلمك واقعها الآن؟ وهل نجحت في تصوير ورصد معاناتها عبر القصة القصيرة؟

طفولتي هي جزء من روايتي الأسرية، ومعالمها تحضر مثل بقايا الوشم القديم، ولكنها ليست هي البانية للقصص، لأن العديد من الشخصيات التي ترتع في نصوصي لها طفولة خاصة، مستقلة، منزاحة عني بكل تفاصيلها وحيثياتها، وهي تنشأ حين أكون بصدد نحت الشخصية القصصية، لأن كل شخصية لها عوالمها الخاصة التي صنعتها وهي تحضر بين الفينة والأخرى وكأنها تؤثث معالم الشخصية، فمثلا في قصتي "سأسميك نادين"، تتذكر البطلة قصة لعبها البريء مع ابنة الجيران حين قامت بدفعها وسقطت ورأت منظر الدم وأغمي عليها، كانت الأم قد منعت الطفلة من اللعب ورؤية الخارج وكانت قد أورثتها ذنب القتل، وهي لم تقتل لأن الطفلة أصيبت بإغماءة فقط، لكن المدة الزمنية التي ستقضيها الفتاة وهي مؤمنة بهذا الوضع، ستضع بصمتها للأبد، وكأن الجريمة تحدث ذهنيا فقط.


*تكتب لطيفة لبصير في مناطق مربكة للتلقي العربي خصوصا في ظل حفرياتها داخل التابو؛ حيث تكشف القصص عن العجز الجنسي، والخيانة الزوجية، والرغبات الحارقة، وزنى المحارم، والبيدوفيليا، والجنون، والجسد. ما الذي دفعك إلى الكتابة في هذه المنطقة تحديدا؟ وهل تكونين حرة في أثناء الكتابة أم أن الرقيب يجعلك في كثير من اللحظات تغيرين من طرائقها وصياغتها؟ كيف تنظرين إلى علاقة الكتابة بالرقابة وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بكاتبة؟

 الكتابة هي جزء مما يحدث، وهي لا يمكن أن تحافظ على ثيابها أنيقة داخل مكان ملوث وطبيعي في نفس الآن، إذ أن هذه الاختلالات التي تحدث هي من طبيعة الإنسان وهو يعيش ويرغب ويتمنى وينعم بالقدر خيره وشره، ويبحث عن شيء بديل لما يحياه وينبذ النظام الذي اكتشف نفسه نقطة في مركبه، كل هذا يجعلني أحيا وسط كل هذا الإرباك الذي لا تنسلخ منه الشخصيات، فهو جزء من بنائها العام. وأنا لست أنا حين أكتب، بل أنوات عدة لها خلفياتها وسياقاتها المختلفة، والجرأة ضمن نصوصي ليست هدفا وافتعالا، ولكنها تدخل في بناء النص ككل، وتستوي في تعبيرها الجمالي، لأنني لا أعتبر نفسي جزءا من الشخصيات التي تعاني، بل أنا في الظل مما يراودها، لأنني لست الشخصية، لذا فالرقابة لا تضغط على أصابعي، لأنني مؤمنة بالحرية في الكتابة من دون مزايدات، ولا يهمني ما يمكن أن يقال حين أكتب عن هذه التيمات بقدر ما يهمني أن أعبر عنها وأن أجعلها تحيا بضجيجها وبالرؤية التي أصنعها طبعا. وهناك أمر هام آخر هو أن أبطالي يتوزعون بين المذكر والمؤنث، وهو ما يجعلهم كائنات تعاني وتود أن تضيء بشكل من الأشكال.


*يحضر بشكل لافت داخل مجموعتك القصصية الأخيرة "يحدث في تلك الغرفة" عوالم تستبطن شقوق النفس وتعريها في صور قصصية مكثفة بإحالات وبتأويلات متصارعة جراء قوة الشخصيات وتناقضاتها الداخلية إلى درجة يجعلنا نصدق أن كاتبة هذه القصص هي عالمة نفس من الطراز الرفيع، ويظهر ذلك في نصوص المجموعة برمتها كما لو أنها كتبت بخيط رفيع، حيث يصبح علم النفس موضوعا لتعرية شخصيات تعيش اضطرابات تكشف عنها القاصة لطيفة لبصير بشاعرية وبإيحاءات ترمز إلى ما يقع خلف الغرف المغلقة. هل يعني هذا أن لطيفة لبصير حاولت في مجموعتها القصصية الجديدة أن تعمق وعينا بما تعيشه الشخصيات من اضطربات شديدة التعقيد لا ترى لأنها تدخل ضمن المحظورات؟ أم أن استراتيجية الكتابة عندك قائمة على التجريب الواعي بما يجعل اللغة القصصية قادرة على استغوار أدق التفاصيل من دون التفريط بجمالية الكتابة؟

الغرفة عندي في هذه المجموعة القصصية هي ذلك الهو المترسب في أعماقنا والذي لا يرى في الواقع الا من خلال استيهاماتنا الشخصية أو هفوات منزلقة وشاذة عن المألوف، وحين فكرت في كتابة هذه المجموعة كنت أتابع انشغالا يستهويني بالدرجة الأولى ألا وهو النفس البشرية العصية على الترويض، فأنا أشعر دوما أن وراء وجوهنا العادية هناك أعطاب غير عادية، استأنسنا بها وتحولت على مدى الأيام إلى أشباح تتآمر علينا ونحن بتلك الخفة التي ندعي، نشعر بأننا متحررون منها، ولكننا في الحقيقة هي تنمو معنا مثل سرداب قديم نرمي فيه كل ما يهترئ من ملابس وأفرشة قديمة ولا ننظر إليه، بل نتركه هناك دون تنظيف ومع مرور الأيام ينتابه النسيان، وفي الوقت الذي نفكر في رؤيته من جديد، نشعر بأن المكان والزمان قد غيرا ملامحه تماما. هذه الزاوية التي أبحث عنها ألا وهي النفس البشرية توجد في غرفة، وفي الغرفة تحدث أشياء لم يكن ينتظرها البطل نفسه كأن يصاب بهزال شديد دفعة واحدة، أو أن تعشق الطبيبة شفتي جثة وتهيم بها في حياتها، أو أن تعيش امرأة مع أصوات غريبة ثم تفضل عدم شفائها منها، أو أن يحيا رجل مع أخته عمرا بأكمله رافضين العوالم الخارجية مستلهمين عوالم فرويد ومنغلقين في غرفتهما الخاصة...الخ. إن الذي يحدث في تلك الغرفة ليس بالضرورة ما يحدث في الواقع، إنه يقع في زمان ومكان هاربين، منفلتين من المنطق، لكنه يتجسد عبر أحلام وأحلام يقظة وأنفاس أخرى تجوب أرجاء النفس وتلامسها بقوة، وهو ما يظل منفتحا على تآويل عدة.

*ماذا عن غرفة لطيفة لبصير في الحياة ولا سيما مع ملاحظة ترتبط باحتفاء خاص بالفن التشكيلي وبالموسيقى وبالثقافات الإنسانية وتعالقاتها؟ هل قلت كل شيء عن غرفتك؟ ألا تخافين من نوافذ المجتمعات الذكورية التي تجيد التلصص على شخصيات الكاتبة العربية؟ وهل يمكننا أن نقول إن "محكيات نسائية" هي ترجمة لنضالك من أجل إعطاء الكلمة للمرأة فقي ظل واقع التهميش هذا؟

غرفة الحياة هي شاقة بكل ما للكلمة من معنى، فنحن ننتظر على الدوام، وهو سؤال يظل مطروحا، ماذا ننتظر في الغد، لأننا معقودون بأمل قادم، وفي بعض الأحيان أقول إن الحياة هي كل يوم وكل دقيقة، وأجدها هي نفسها تأخذنا إلى حيث تريد، وما يجعلها محتملة نسبيا هو الجمال الذي يتأتى عن الموسيقى والفن التشكيلي، والعديد من الأصوات الفنية هي مستوطنة في نصوصي سواء فيروز وكيت جاريت أو شارل أزنافور أو أم كلثوم أو بافاروتي واللائحة طويلة جدا، إضافة إلى العديد من الفنانين التشكيليين الذين كانت لهم أقدار غير طبيعية وهؤلاء تستهويني أقدارهم ويأسرني فنهم، بل تحولوا إلى أبطال في قصصي مثل الرسام الانطباعي فان جوخ، أو الرسام السوريالي الغريب سالفادور دالي فهو يكمن كخلفية لإحدى قصصي في مجموعتي القصصية الأخيرة "يحدث في تلك الغرفة"، والقصة تحمل عنوان: "لا أريد أن أنام"، وهي تشبهه في قلقه الدائم وغرائبية طبعه، وما زالت الغرف في طور الولادة، ففي كل يوم تنبعث غرفة أخرى جديدة لتلوح في الأفق، أما عن مجموعتي "محكيات نسائية" فهذي سير غيرية كتبتها عن نساء عايشن أوضاعا صعبة، وكنت اللسان الذي نقل أقسى القصص وأغربها في بعض الأحيان، وهي ما زالت تتناسل إلى ما لا نهاية. أما عن التجسس، فلا يهمني ولست منشغلة به، لأنني اعتبر أن الكتابة هي رغبة قبل كل شيء، وأنا لا أريد أن أكبح جماحها مهما يكن.


*ما رأيك في الكتابة النسائية عربيا سواء في القصة أم الرواية انطلاقا من موقعك الأكاديمي؟

أشعر بمتعة لقراءة العديد من النصوص التي تكتبها المرأة وأنا أبدأ أولا بقراءة ما تكتبه المرأة عموما قبل الرجل، وهناك العديد من التقنيات والأشكال والتعبيرات والرؤى أعتبر الخوض فيها مناطق جديدة وما زال بإمكان المرأة الانفتاح على العديد من الإمكانيات الأخرى.


*درست في كتاب "سيرهن، الجنس الملتبس" السير الذاتية لكاتبات عديدات؛ حيث فككت ضمير المتكلم المربك في كتابة المرأة ومتخيلها. لماذا البحث الأكاديمي في الحياة الخاصة للمرأة العربية؟ هل قمت بتحصين كتابتها من نرجسيتها أم أنك بحثت عن منطقة الالتقاء من داخل ما هو جمالي محض؟

هذا العمل الذي ستنضاف إليه أعمال قادمة هو جزء من انشغالاتي، وقد كنت أستمتع وأنا أقرأ سير النساء الذاتية لما فيها من التباس جمالي غير مناطق النظريات نفسها، فالميثاق التعاقدي على أن كاتب العمل هو نفسه السارد والبطل والشخصية لم يعد هو المبتغى، فالعديد من الكاتبات أربكن هذا الميثاق، وصار التعاقد على ضمير متكلم يضمر تعددا في المراتب، فالكاتبة التي تكتب السيرة الذاتية ليست هي الساردة، لأن هذه الأخيرة مختلقة وكائنة غريبة تصنع عوالم أخرى وتوجه من خلالها القارئ، والكاتبة حريصة على هذه الرؤية لأنها توجه القارئ نحو خلاصات تنبذ عوالم الأسرة والنظام والتربية والرجل أيضا، وهو الذي يجعل قراءة هذه الأعمال من الصعب بمكان.


*تكتبين بشكل متواصل عن نصوص لكاتبات عالميات وعربيات. كيف تنظرين إلى مستقبل الكتابة الإبداعية النسائية المغربية وخصوصا الأصوات الجديدة؟

العديد من الأسماء المغربية سواء في النثر أو الشعر هي قادمة بشكل أجمل، وهنا لا يفوتني أن أذكر بكاتبات شابات ولكن لهن إقامة خاصة في الإبداع، أذكر على سبيل المثال منى وفيق وعوالمها الجديدة في السرد والشعر، وأذكر سلوى ياسين وخديجة اليونسي ونسيمة الراوي وعائشة بورجيلة ومليكة الشجعي...الخ. وهي أصوات أعتبرها قوية جدا، ولها أثر كبير على المشهد الثقافي المغربي، كما يجب الانتباه إليها لأنها بناء مختلف وإمكانيات غريبة أيضا.


*من موقعك ككاتبة قصة وأكاديمية. ما رأيك في سطوة الجوائز وأثرها على الإنتاج الإبداعي ومساحات الإنساني من داخلها؟ هل تتفقين مع مقولات بدأت تلوح في الأفق تقول بتوجيه ذائقة القراء والكتاب نحو تيمات معينة بعيدا عن الحرية؟

الجوائز لها معنى إيجابي وسلبي في نفس الآن، فهي إيجابية لأنها تمنح للكتاب أن يسافر من مقره إلى متلقين جدد، وتمنح للكاتب أيضا معالم أخرى تدخل في التعريف به لكي يقرأ على نطاق أوسع، ولكن السلبي فيها أنها أصبحت الميزان الذي يزن النصوص ويوجه المتلقين نحو عمل معين وكأنه يخبرهم بأن هذا هو العمل الذي ينبغي أن يقتدى به، وأن ينجز على منواله، وهو ما لا ينبغي أن يكون، لأن العديد من الأعمال لم يسبق لها أن حصلت على جوائز ولكنها هي التي استمرت عبر تاريخ الإبداع عموما.


*أن تسافر نصوصك إلى لغات عديدة هذا يجعل الكاتب يشعر بنوع من الاطمئنان إلى تجربتك. كيف تترجمين لنا ترجمة نصوص لطيفة لبصير إلى ضفاف وجغرافيات أخرى؟ وهل أنت مطمئنة إلى ما تكتبين؟

الترجمة هي عبور آخر نحو عوالم أخرى، رغم أن حقول الترجمة يلزمها تعريف آخر يقوم به  الذين يقدمون نصوصك إلى بلدان أخرى، وهذه أيضا ما زالت غارقة في المعارف الشخصية مع الأسف، لأن العمل ينبغي أن يقدم نفسه ونحن ما زلنا خاضعين لحد الآن كما يقال من الفم إلى الأذن (وهو ما يحدث لكل الأنواع التجارية)، وقد ترجمت العديد من نصوصي إلى الألمانية والإسبانية والكردية والإنكليزية ومؤخرا تمت ترجمة مختارات من أعمالي القصصية من طرف الدكتور عبد الله الغزواني وصدرت تحت عنوان "وردة زرقاء rose bleue"، وأنا أعتبرها ترجمة مبدعة لنصوصي، فما أصعب ترجمة الإبداع، لأن الجملة القصصية لها إيقاعها الخاص، وعوالمها، والذي أعجبني في هذه الترجمة أنها حافظت على البناء والاستعارات التي تمثل جزءا كبيرا في نصوصي.

أما عن الطمأنينة أو الاطمئنان لما أكتب فهو ما لا يحدث أبدا، فكلما أنهيت عملا، أشعر بأن لدي رغبة ألا أعيد قراءته إلا نادرا جدا، وأنصرف غلى شيء آخر كما يحدث لي الآن بكل تأكيد.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.