}

شيخة حسين حليوى: أكتب كأني أسترد وجودي!

أشرف الحساني 21 مايو 2018

شيخة حسين حليوى قاصّة فلسطينية متميزة، تقلّب جمرة النص عن حياة تعذبها وعن مكان ظل هسيسه يسري في جسدها وتبحث عن شبيهٍ له في أحلامها، لكنه عصيٌّ على القبض... فتخمن أن تكتفي معه بالنظر والتذكر والحلم..

صدرت لشيخة حسين حليوى بضعة أعمال قصصية منها: "خارج الفصول تعلمت الطيران"، "سيدات العتمة"، وأخيراً صدر لها عن منشورات المتوسط "الطلبية C345". هنا حوار معها:

 

* شيخة حسين حليوى، أنت من مواليد قرية بدوية، قضاء مدينة حيفا في فلسطين، وتعيشين منذ أكثر من 20 سنة في مدينة يافا. لماذا هذه القسوة غير المقصودة ربما مع المكان الأول؟ ثم ماذا تبقى في جسدك وأحلامك من سنوات الطفولة المشرقة، التي قضيتها بمدينة حيفا، بعبقها الأسطوري والتاريخي الجريح ؟

هي ليست قسوة على المكان وإنّما قسوة على اللامكان فيَّ! ذاك الذي عاد يقتصُّ منّي بعد أن عشتُ طفولتي ومراهقتي مترنّحة بين انكاره وبين الانتماء له، بين وحله العالق أبدًا في حذائي وبين لساني المتعالي على حروفه الجارحة. حينما تركتُ قريتي (غير آسفة عليها) في عمر الثامنة عشرة لم أكن أعي أنّني سأظلُّ طيلة حياتي أبحثُ عنها كما ظللتُ أبحثُ عن جديلتي المذبوحة، تلك التي ضحّيتُ بها كي أشتري لي وطنًا على شكل مدينة ساحلية ساحرة اسمها حيفا، ولكنّها لم تغفر لي خيانة الأماكن فتملّصت. خُنتُ المكان الأوّل فخانتني كلُّ الأماكن بعدها. ليس لي سوى خيمة أنصبها في صحراء وهميّة أطلُّ من فتحة فيها على خراب الأماكن/ الأوطان في قلبي، وأحلّقُ دون جناحيْن.

ماذا تبقّى من جسدي من سنوات الطفولة؟ طفلة تسكنني، عنيدة قاسية وصلبة كشجرة البلوط العملاقة التي كانت تتوسّط قريتي، قلبٌ كبير تركته حافة فرن الحطب على خاصرتي، جرحٌ عميق تركه شارع الإسفلت على ركبتي وهو يجنبني موتا مجانيّا تحت عجلات الشاحنات. ويدُ محمرّة تصفعُ الريح وهي تبحثُ عن وجوه الراحلين.

منذ رتّبتُ في رأسي وظائف اليد المفتوحة"

أدركتُ أنّ الاحمرار الدائم في راحتها ليس إرثًا جينيًّا

ليس تشوّهًا خلقيًّا أيضًا

قد يكون خطأ طبيًّا مقصودًا

منْ يلتفتُ لامرأة بدويّة تئنُّ من حلق مخدوش؟

تلحُّ في رأسي ذاكرةُ شظيّة: لم أكسر يومًا خوف عنزة "شانية"

لم أنحنِ فوق خُبّيزة غبراء

لم أحمل حطبًا للفرن سوى مرّتين.

كيف نبت الأحمر على راحتي بين كتاب التاريخ وكمّ بخيل؟

جدّتي اخضرّت كفّها وهي تنبشُ حقول الغياب

قبل أن تموت غزا الشيب بقايا ذوائبها واصفرّت يدها

أذنت لها بالرحيل معها

صار غياب الأحبّة يقينًا كموتها. لمَن ستلوّح اليد الصفراء؟

أنا احمرّت راحتي

لكثرة ما صفعتُ الرّيح وأنا أبحثُ عن وجهها

وما زلتُ أبحثُ عن وجهي أيضًا".

*صدر لك حتى الآن 4 إصدرات، صدر أولها عام 2015، هل نستطيع أن نقول أن هذه السنة بالضبط، تمثل انطلاقة أساسية في مشروعك الكتابي؟ 

هي فعلاً السنة التي بدأت فيها الكتابة والنشر مع العلم أنّني لم أكتب قبل ذلك حرفًا ولم أجمع كتاباتي في صندوق من ذهب أو في جارور متآكل. كنتُ أقفُ على الحياد من نفسي، أراقبها فقط دون أن أتدخّل في أمورها. وهي كانت مطيعة جدًّا ومخلصة للجداول اليوميّة وقائمة الـ   .chic list! 

هي السّنة الّتي قطعتُ على نفسي خلوتها حينما أدركتُ أنّها ضاقت بما تحمله من قصص، وأدركتُ أنّني هي ذاتها وإنّ قصصنا واحدة. لا أستطيعُ تحديد اللحظة الّتي بدأتُ فيها الكتابة، ولكنّي أتذكّر أنّي رحتُ أكتبُ قصّة جديلتي التي قدّمتها ذات يوم قربانًا لحيفا العروس، القصّة التي ختمتها بـ "صدّقتُ أنّي من بنات حيفا أو كدتُ أصدّق ذلك، لكنّ يدي ما زالت تبحثُ عن جديلتي وترتدُّ كالملسوعة" وهكذا فتحتْ يدي "الملسوعة" صندوق "باندورا" وتدفّقت كلّ الأسئلة المؤجّلة، الأسئلة التي فصلتني عن نفسي في محاولات فاشلة لتجاهلها. منْ أنا؟ وأين أنا اليوم؟ وعمّ أبحثُ؟ وماذا تركتُ ورائي؟ ولماذا تركتهُ؟ لماذا أشعرُ دومًا أنّني "بالكادِ" من كلّ شيء وفي كلّ شيء؟ سؤال الهويّة بكلّ مركباتها الجندريّة والقوميّة والإنسانيّة صار هاجسًا. دوائر كثيرة صار لا بدّ من إغلاقها.  تارة أرمّم الجسور وتارّة أنسفها. وفي كلّ مرّة أوشكُ أن أغلق دائرة ما، أوشكُ فقط، إذ كلّما اقتربت انفتحت أخرى اعتقدت أنّها تربّعت كاملة الأضلاع.

لم أتوقّف عن الكتابة. أكتبُ وأحفظ نصوصي في ملفّات عشوائيّة على حاسوبي دون عنونة ودون تقسيم بحسب النوع الأدبيّ. لم أسأل نفسي لماذا أكتب ولِمَن، كنتُ كالمُقبلةِ على خرفٍ قد يُطيحُ بذاكرتي القريبة والبعيدة، أو كمن يتهدّدهُ خرس قهريّ سيلجمُ لسانه. أكتبُ وكأنّي استردُّ وجودي، أو أثبّتُ قدميّ في الفراغ وفي اللامكان وأدركُ أنّني أتأرجح. فالكتابة صارت فعل تثبيت فاشل، ولكنّها فعلُ تثبيتٍ في وجه الجدار والمسمار معاً.

*وأنا أقرأ بعضًا من قصصك سرى في ذاكرتي هسيس طفولتك بكل أفراحها وأحزانها ويتبدى ذلك بشكل كبير في "سيدات العتمة"، هل يمكن أن نقول إن الكتابة عند شيخة حسين هي محو يساعد على النسيان؟

بل هي لي عنق النسيان. كيف أنسى؟ ولماذا؟ كنتُ وما زلتُ أعاني من ذاكرة هشّة لم يصمد فيها الكثير. سقطت منها في الطريق تفاصيل كثيرة، أسماء، أماكن، بدايات، نهايات، لحظات مصيريّة.

 كان إسقاطا متعمّدا وليس سقوطا. وهي حقيقة مؤلمة؛ أن تعمدَ إلى الخفّة، تتخلّص من لحم الذاكرة كي تصير خفيفا كريشة، وحين لا تصمد بوجه الريح تعود لتبحث عن لحمك ودمك! صرتُ وأنا أكتبُ أتشبّث بكلّ تفصيل كقشة نجاة. هناك ألمٌ في التذكّر ولكنّ ألم النسيان أكبر وأكثر حدّة. كلّ حادثة أو ذكرى أو صورة من الماضي تكون أحيانًا سكينًا تنغرزُ في خاصرتي ولكنّ الدم النازف كان يعيد طبقة رقيقة من لحمي..

في "خارج الفصول تعلّمتُ الطيران" كتبتُ في نصوص المكان:

" لايعنيني ذاك النهر المُحاذي لقريتي الميّتة هناك

على سفح جبل الكرمل

لا يعنيني الشارع الذي كان يفصل بين أكواخنا وبين النهر

لاتعنيني القرية اليهوديّة التي وراء النهر ( كنت أكره أضواءها الساطعة في الليل)

لا يعنيني منسوب المياه فيه

ولايعنيني اسمه الذي لم أحفظه يومًا.

يعنيني أن أتذكّر لماذا كنت مرّة سأغرق فيه؟

ولماذا لم أغرق؟".

 

أصدرت في ذلك العام مجموعة قصصيّة بعنوان "سيّدات العتمة" ومجموعة نصوص شعريّة/نثريّة عنوانها "خارج الفصول تعلّمتُ الطيران". بعد أن أتعبني اللحم الحيّ رحتُ أبحثُ عن العالم حولي ولم أجد أكثر سريالية من واقعه، فخرجتُ بمجموعة "النوافذ كتب رديئة" و"الطلبيّة 345".

*" سيدات العتمة "هو تعبير صريح يضمر في طياته نقدًا لاذعًا الى الكيفية أو الطريقة التي تعامل فيها المرأة داخل المجتمع العربي الذكوري والمتمثلة في سلب حقوقها واختياراتها الشخصية في العيش واختيار الشريك... هل نستطيع أن نقول معك مثلاً، إن المرأة العربية ما زالت تعيش في الحالة التي عاشتها المرأة خلال العصر الوسيط وأن كل الاجتهادات التي قادها زعماء الإصلاح خلال القرن التاسع عشر من أجل تحرير المرأة أجهضت ولم تعط أكلها حتى اليوم، وهو ما جعلها تبقى في دهاليز معتمة؟

هناك أمران فيهما مفارقة كبيرة. النظرة للمرأة اليوم لا تختلف عنها في العصور الوسطى على صعيد الخانة التي يضعها فيها المجتمع، هو ما زال ينظر إليها بدونيّة وتحقير واستصغار. يحاول أن يظهر بمظهر المتحضّر الداعم المؤمن بإنسانيّة المرأة أسوة بإنسانيته ولكنّه يسقط عند أوّل اختبار لعقليته المتحجّرة. القتل على خلفية ما يُسمّى شرف العائلة، تزويج القاصرات، حرمان من أبسط الحقوق، إقصاء واستغلال وحتى على مستوى المرأة الكاتبة، نادرًا ما تُعامل بنديّة كالرجل الكاتب. حسبنا ذاك التقسيم المضحك: كتابة نسويّة! غالبًا ما يُنظر إليها بخفّة واستهتار وأحيانًا بسخرية معيبة. قد تكون المرأة الكاتبة، وأقولها بحذرٍ شديد، قد سقطت في هذا الفخّ واعتمدت الكتابة في مربع الخنوع ورضيت من اللغة بمفردات النعومة المفرطة والموضوعات المدغدغة للحواسّ، هي لبست القبّعة التي أعدّها لها المجتمع فصارت لا ترى أبعد من حوافها. ألوم عليها فقط، على الكاتبة التي استكانت لهذا الدّور، ولكنّي أعرف أنّ كثيرات قادرات على كسر هذا التابو ووقفن في مواجهة مع وسطٍ أدبيّ تتحكّم فيه عقلية السّلطان وحريمه.

من جانب آخر تحملُ المرأة طاقات هائلة وقدرة عجيبة على التكيّف والمجاراة، على العمل والإنتاج والإدارة، قوّة تجعلها تسود حتّى في العتمة. وقد يتصوّر البعض أنّ نساء "سيّدات العتمة" ضعيفات مستكينات عاجزات! القصص بمعظمها في المجموعة جاءت صرخة قوّة ووجود أقوى من العتمة.

قديماً قال المتنبي: لولا المشقّةُ ساد الناسُ كلّهم الجود يفقرُ والإقدام قتّالُ.

المشقّة التي تُتقنها المرأة، كما عرفتها في بيئتي البدويّة الأولى، تجعلها سيّدة حتّى في العتمة. هي الّتي تتلمّس طريقها بدربة وحنكة ودون عيون أحيانا قادرة على حمل أعباء الحياة البدويّة الخشنة وهي الّتي من عتمتها تكرّمت على البدويّ الرجل المضياف الهمام بكثير من هذه السيادة، ولكنّه في الضوء وبعينين مفتوحتين يحتكرُ السيادة، وهي من عتمتها لا تحتكرُ إلا عالمها الداخليّ الّذي يجعل منها سيّدة الحياة كلّها.

 

* في السنوات الأخيرة عرفت الرواية العربية تزايدًا كبيرًا ليس لقيمتها المعرفية، التي قد يجهلها حتى ممن يكتبون هذا الجنس الأدبي، ولكن بسبب الجوائز الكثيرة التي أصبحت تقدمها بعض دول الخليج، وهو الأمر الذي انعكس سلبًا على الشعر والقصة مع هروب الكثير من الشعراء الى كتابة الرواية...كيف ترين هذه الظاهرة الثقافية؟ ثم كيف ترين واقع الرواية العربية في ظل التغيرات التي عرفتها المنظومة الثقافية العربية منذ "الربيع العربي" الى اليوم؟

أقول صراحة، وبعد تفكير جادّ، إنّ الأمر ليس بهذا السوء مقارنة بأوضاعنا عمومًا. الأوطان تنهار أو تمرُّ بشكلٍ من أشكال الموت والبعث، الشّعوب بين موتٍ وآخر تحاول أن ترفع رأسها فوق المستنقع وتتنفّس، الكلام يرتبك، يحيدُ عن مساره ويتلعثم في الأفواه وعلى الورق. على هامش ذلك يحدث الكثير، كأن يُكتب أدب رديء (مع التحفّظ على كلمة رديء – فمن أنا حتّى أقيّم نتاج الغير) ويحتفى بهِ. أقول فليكتب من يريد ولينشر من يريد وليكن القارئ هو الحكم. أرى الحالة تشبهُ طفلاً يتعلّمُ الكلام ويصرُّ على أن يقوله بطريقتهِ، أحيانًا تصوّبهُ أمّه وأحيانا تتركهُ متيقّنة أنّه يومًا ما سيعرف كيف يكون الكلام جيّدًا معبّرًا أو منقوصًا ضعيفًا.

أقتني الكثير من الروايات العربيّة، أقرأ منها عشر صفحات ثمّ أرميها. كُنتُ أتساءل ساخرة: لماذا يكتب هؤلاء؟ ماذا يظنّون أنّهم فاعلون؟ ثمّ بدأتُ أخجل من مجرّد أن أطرح هذا السؤال، خجلتُ وأنا أمارس دور الإخراس في حقّ البعض. فليكتبوا، ولنراكم روايات ودواوين وغيرها ثمّ بعدها نمارس قراءة مسؤولة واعية ونأخذ ما نريد ونترك ما لا نريد.

مسألة الجوائز هي مسألة ذات حدّين، فالعالم كلّه يحتفي بأدبائه من خلال الجوائز المتنوّعة ويرصد لذلك مالًا وجهدًا واهتمامًا وهو أمر محمود. احتكار الجوائز في العالم العربيّ هو المشكلة ومعايير الاختيار المشكوك في أمرها أحيانًا مقلقة كثيرًا. وهي أيضًا مسألة مطروحة للنقاش والجدل. هل فوز أيّ كتاب أو كاتب بجائزة ما يجعله صاحب أثر أو يضمن له إضافة أدبيّة وإنسانيّة؟ لا أظن. يظلّ الحُكمُ مرّة أخرى لصدق الكلمة المكتوبة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.