}

جليل بناني: التحليل النفسي قد يساعد على الحرية

أحمد العمراوي 10 أبريل 2018
حوارات جليل بناني: التحليل النفسي قد يساعد على الحرية
لوحة للفنان العراقي ستار نعمة

هل يمكن الحديث عن تحليل نفسي بالمغرب، بل وفي العالمين العربي والإسلامي؟ ما هو مدى تقبل مجتمعاتنا للتحليل النفسي حاليا؟ ما علاقة الدين بعلم النفس؟ هل تؤثر الشعوذة والخرافة على التحليل النفسي؟ ما الدور الذي على جمعيات التحليل النفسي أن تلعبه في المغرب وفي البلدان العربية الأخرى؟ أحوال الفرد، أحوال الجماعة، اللغة الأم، الفصحى، الازدواجية، أزمة المراهقة، الازدواجية اللغوية، قضايا التربية والتعليم، الحب والجنس، التدين والنفس الإنسانية، ثم الكتابة والذات والإبداع... إلخ- هذه كلها أسئلة ومحاور من ضمن أخرى تُطرح بحدّة مع التحولات السريعة التي عرفتها وما زالت تعرفها مجتمعاتنا. والتحولات دفعت بالفرد إلى الانغلاق على الذات أو إلى التمرد عليها، مما يقود لضبابية تؤثر سلبا على تطور هذه المجتمعات.

وتأتي أهمية هذا الحوار، الذي جاء نتيجة لقاءات متعددة، من الوضعية التي أصبح يعيشها الفرد في المجتمعات، التي على غرار المغرب. وقصته ابتدأت أثناء التحضير للقاء عالمي حول قضايا التحليل النفسي اليوم في البلدان العربية والإسلامية، وعلاقتها بالآخر، أي الغرب، والذي أسفر عن لقاء حول الفارق الجنسي انعقد في الرباط. وقاد اللقاء الأول بيني وبين جليل بناني إلى لقاءات متتابعة، ثم متقطعة، ثم متتابعة كالنفس الإنسانية. هو في حقيقة الأمر سفر؛ سفر بين لغتين، بين ثقافتين، بين منظورين. تحاورنا أنا وجليل بناني بالدارجة وبالعربية الفصحى وبالفرنسية، في سفر فكري مسترسل، وبترجمة هي سفر حقيقي في العمق. رتبنا أوراقنا وأعدنا الترتيب والكتابة. كل كلام يقود للكتابة، وكل كتابة تكشف عن المستور. سؤال وجواب يقودان لأسئلة ترتب وتعاد مراجعتها بلغتين. البساطة والوضوح ما أمكن كانا شغلنا في هذا العمل. نسوق هذا الحوار وهدفنا الأساسي هو توسيع دائرة المتحاورين، وتلمس الجواب بل وتعميق الأسئلة الضرورية حول النفس الإنسانية ورغباتها الدفينة بتلقائية أحيانا، وببحث أحيانا أخرى.

ونسوق هنا فصلا من كتابنا "محلل نفساني في المدينة: حوارات مع المحلل النفساني جليل بناني" الذي سيصدر بعد أسابيع عن ملتقى الطرق بالبيضاء.

التدين والروحيات

(*) في المجال الديني هناك ثلاث علاقات: علاقة الإنسان بربه، علاقته بالآخرين، وعلاقته بنفسه، وهذه العلاقات مترابطة وحاضرة في كل الديانات، وخاصة في الإسلام. ما موقف التحليل النفسي من هذا؟

- سؤالك وتأملك هذا يستدعي تساؤلات أخرى: كيف يمكننا التفكير بالإيمان في التحليل النفسي؟ هل يمكننا تأويل الأسئلة المرتبطة بالإيمان الديني؟ ما هي العلاقة بين اللاشعور والإيمان الديني؟ هل يندرج التحليل النفسي ضمن البعد الروحي؟ ما المعنى الذي يمكن إضفاؤه على الشفاء والخلاص؟

المحللون النفسانيون، وكذلك المعالجون بالطرق الأخرى، يمكنهم أن يستقبلوا طلبات متوافقة أو متعارضة، فالأفراد يبحثون عن أجوبة لمعاناتهم واكتئابهم، فيتجهون بذلك للمحلل النفساني أو للفقيه أو لكليهما. نشهد في مجتمعاتنا تحولات على مستوى المرجعيات المتعلقة بالهوية والمرتبطة بالتطورات السريعة، والتي لم تستثمر ولم تفهم جيدا بسبب القلق والضيق. وتعرف المجتمعات العربية الإسلامية حاليًا عودة للتدين، ولكنها تعرف أيضا حركات تحررية تحتج بصوت مرتفع على التوجه الأحادي للفكر الديني وهيمنته على الحياة الاجتماعية والفردية.

من الضروري الرجوع للنصوص المؤسسة للتحليل النفسي فيما يتعلق منها بالتدين. ففرويد حدد العلاقة بين المُصاب الموسوس وبين الممارسة الدينية في كونها علاقة تطابق. وقد استنتج أن في العصاب تدينا فرديا، وأن في التدين عصابا موسوسا جماعيا. وقد تجاوز هذا الطرح فيما بعد.

كيف ينشأ الإيمان بالله؟ حين يشعر الطفل بأنه غير محمي من طرف الأب أو الأم، يشعر بحالة يأس وهجر. وفي هذه الحالة سيلجأ إلى حنين ماضوي. ماض كان الاحتماء به مضمونا. إنه الرجوع إلى أب أكبر وإلى قوة عظمى، ومن هنا تنشأ الحاجة للتدين. الأفكار الدينية، حسب فرويد، هي تحقيق للرغبات الأكثر عمقا والأكثر قدما لدى الإنسان، والأكثر حضورا بالنسبة للإنسانية. والدين هنا سيختلط بالمقدس: هو ذو خصائص مجردة كبرى باعتباره حماية إلهية أمام العجز الإنساني، وأمام الغربة الأخلاقية والإهمال.

(*) بحسب ابن عربي، حينما خرجت حواء من جسد آدم، تولدت لديه رغبة جنسية، هي رمز للحنان، وقد أثارت حاجة كبرى لدى الرجل، الذي هو رمز الرجولة. المرأة جزء من الرجل، والرجل جزء من المرأة. الرجل يحب المرأة كما يحب الله. كيف ينظر التحليل النفسي لهذا التقاطع بين المؤنث والمذكر؟

- بالرجوع إلى ثنائية الجنس جسديا نجد أن التحليل النفسي قريب جدا من الخطاب الصوفي، وقريب أيضا من التجربة الصوفية والإيمان، بالسلطة المطلقة الإلهية التي أثارها التحليل النفسي. إنها تجربة فردية خاصة تقود إلى متعة نهائية نجدها أيضا لدى الرجل. ومع ذلك هناك فرق كبير بينهما. التحليل النفسي هو ممارسة الإنصات للكلام، يستخلص مفاهيم لحسن فهم وتوضيح الخطاب والفعل الإنساني. إنه لا يُقدم وعودًا ولا طريقة محددة للاتباع. التجربة الصوفية هي وعد، هي تمرين وتدريب. سلوك وممارسة يومية بوصفات محددة. لها تميزها السلوكي اجتماعيًا، لها شعريتها، ولها موقفها من الجسد والنشوة.

نشوة الحب تضع الإنسان خارج نفسه. تضعه في الفراغ. ومن أجل تأطير وتنظير وجود متعة ما وراء الانتفاع بالمتعة القضيبية، سيقوم جاك لاكان بإدراج شهادة القديسة تيريز دافيلاّ  Sainte Thérese d’Auila، وهناك بالنسبة له التقاء من جهة بين الإله والصوفية، ومن جهة أخرى بينه بين المرأة. بين التدين والتحليل النفسي هناك تجربة ملء فراغ، هذا الفراغ بالنسبة للتدين هو إله، وبالنسبة للتحليل النفسي هو امرأة. الإله يوجد أيضا فينا، والمرأة توجد أيضا داخلنا.

(*) في التجربة الصوفية التي تقوم على تربية وتهذيب الذات، يتم التركيز على عدة مقامات من أبرزها الصمت والجوع والخلوة والسفر، فهل يمكن للتحليل النفسي أن يستفيد من هذا التراث؟

- ماذا تعني المقامات لدى المتصوفة؟ ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر يتحدث عن أربع مقامات هامة بالنسبة له، هي: الصمت الداخلي، الجوع، العزلة، والسفر الداخلي. ويروي أن أحد الصوفيين نسي جوعه ولم يتذكره إلا يوم الجمعة حين كان يزور شيخه ويأكل معه الكسكس. بالنسبة للصوفية على الجسد أن يتعذب ويشقى، بحيث إذا كان شبعانًا وهانئا فإنه لا يستطيع الشعور بالأحاسيس الداخلية. العزلة تمكننا من الاقتراب من الله، والليل أحسن فترة للتأمل الداخلي. السفر الداخلي، والذي يُطلق عليه السفر إلى الله إلى درجة الحلول فيه، دفع بالمفكر الكبير أبو نصر الحلاج إلى القتل لكونه أدعى الحلول في الذات الإلهية حين قال: "ما في الجنة إلا الله" وحين صاح قائلا: "أنا الحق" أي الله، بما أن الله هو كل شيء. الأرضي والسماوي يتلاقيان، وكأن الله يمر عبر الإنسان لكي يُعرف. ابن عربي يقول: "إن المخلوقات هي خالقة لمخلوقها"، ويُؤكد أن موضوع الله هو في نفس الوقت خلق الله.

يمكن القول إن الصوفي يبحث باستمرار عن المجرد وعن اللانهائي. يبحث عن ذلك بكل الأشكال غير العادية والتي تصل لحد الألم. التجربة الصوفية تذهب بعيدًا إلى درجة إلغاء الجسد وتعطيله وتغييبه. من هنا يمكن أن تحصل في التجربة الصوفية لذة ونشوة كما يصفها جاك لاكان، وكل تجربة روحية يجب أن تتحمل الآلام والإحباطات والصدمات وترجعها داخليًا لتتحملها. إنه منفى داخلي حقيقي يتطلب قدرة كبيرة على التحمل. وليس بإمكان كل الناس القيام به. وبالنسبة للمتصوفة، فـ"الخاصة" من الناس هم القادرون على بلوغ هذه المقامات لا "العامة".

 نص مقدّس واحد

وتأويلات مختلفة

(*) هل تعتقدون أن التدين مسألة شخصية؟

- هناك نص مقدس واحد، وهناك تأويلات مختلفة لهذا النص. والتأويلات تختلف باختلاف الناس والمجتمعات. ليست هناك مجتمعات عربية واحدة. والإيمان مرتبط بشكل كبير بالتركيبة النفسية للإنسان. الشعور بالذنب وبالحرية وبالخطيئة بالنسبة لماضٍ معين يقود البعض إلى إرادة محو كل ذلك بالممارسة الدينية. ويمكننا تعداد الأمثلة المرتبطة بالممارسة الدينية كفعل فردي خاص.

قد يذهب البعض بعيدًا حين يلجئون إلى الدين باعتباره مُسكّنًا لمرضهم أو مداويًا أو معالجا لها، قد يرجع للقدر (المكتوب) أي (الله أراد ذلك)، و(هذا قدري). هل يمكن للدين أن يجيبنا عن كل متطلبات الحياة؟ هل يمكنه أن يحل كل الآلام؟ الذين يدخلون في خانة الإيمان ويزورون معالجًا سواء كان طبيبا أو محللًا نفسانيًا يعتبرونه سببا فقط لعلاجهم، لأن الله هو وحده من يتكفل بالعلاج. ففي المجتمعات العربية الإسلامية، يقال عادة: "إن الله هو المداوي والإنسان سبب فقط". وعندما يقرر هؤلاء الذهاب إلى معالج، والذي يعتبر كسبب، فيمكنهم أن يصبحوا متفاعلين معه. ومسؤولية المعالِج تكون هامة هنا. إنها ورطة بالنسبة له، لكونه سيكون عبارة عن واسطة بين الله والإنسان. كيف يمكنهم الخروج من هذا المأزق؟ إن التعايش بين العلم والدين يطرح نفسه هنا بحدة. إن تدين المرضى ومعتقداتهم وممارساتهم هي أفعال فردية وجماعية.

(*) يقسم القرآن الكريم النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: النفس المطمئنة، وهي مقام الأنبياء والأولياء والصالحين، والنفس اللوامة المتوازنة التي تلوم صاحبها على كل خطأ ارتكبته، والنفس الأمارة بالسوء المرتبطة بالشر والمرض النفسي. ألا ترى معي أن هذا الطرح يتقاطع بشكل ما مع ما ورد لدى فرويد حول الشعور واللاشعور؟

- أشير أولا إلى أن المقارنة بين "النفس" في القرآن، وبين الطرح الفرويدي يختلفان تبعًا للسياق الذي ترد فيه الكلمة. فالسياق الثيولوجي ليس هو السياق الفلسفي ولا سياق علم النفس...

مفهوم النفس يهم المحلل النفساني والمعالج والطبيب. في العربية كلمة نفس تشير إلى التخصصات الثلاثة: التحليل النفسي، العلاج النفسي، والطب النفسي، في الفرنسية كلمة « Psychiatrie » مكونة من كلمتين إغريقيتين هما: « Psukhé » و « iatros »، وهذا الأخير يعني "الطبيب". ويمكننا ترجمة الكلمة الأولى "بنفس" ونستخلص من هذا أن « Psychiatrie » تعني طب النفس.

وبالفعل فالقرآن الكريم يستعمل مصطلحين أساسيين يشيران إلى النفس وهما: "نفس" و"روح". والروح تدل كذلك على الملَك المُرسَل. وثنائية النفس اللوامة والنفس المطمئنة تداولت لدى فلاسفة الإسلام. فبالنسبة لابن سينا، بإمكان الإنسان أن يوجه ذاته نحو النفس المطمئنة بفضل تفكيره وثقافته. هناك تجاذب بين الخير والشر. في القرآن الكريم تدل النفس على الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي يتماهى مع الأنا عند ابن سينا والمفكرين الذين أتوا بعده. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التماهي بين النفس والأنا يوجد لدى أفلوطين فيle premier alcibiade  ، ونجد أن النفس في الكثير من الآيات في القرآن تشير إلى الله نفسه بطريقة الجمع. كلمة "نفوس" تدل على جماعة من الإنس والجن. وهكذا فلفظ النفس يُحيل إلى ثراء لغوي لساني يسمح لنا بالربط بين أصناف النفس الثلاثة التي ذكرت انطلاقًا من القرآن، وصولا إلى النظرية الفرويدية. الأهواء يمكن أن تكون مشدودة لـ"هو" اللاشعور. الهو مكان الدوافع، والتأنيب متعلق بالأنا الأعلى (التي تمثل المحرمات) والنفس المطمئنة " تتعلق بالأنا" (تتوسط الحالتين).

يجب الاعتراف بمسألة جوهرية في هذه المقاربة، ذلك أنه لا يمكننا إخراج مفاهيم الإسلام أو المتصوفة عن سياقها الخاص وإقحامها في التحليل النفسي. أنواع الخطاب المتعلق بالإيمان، العلم، التأمل الداخلي، لا توافق بالضرورة كل ما طرح في خطابات أخرى بنفس المعنى.

(*) تشير النصوص الدينية الأولى إلى أن الشيطان دفع حواء إلى أكل الفاكهة (التفاحة) فتسبب ذلك في طردها هي وآدم من الجنة، لهذا يجب أن يتم التحكم في اللذة والمتعة بواسطة الممنوعات. ما وجهة نظركم؟

- النفس الميالة للشر وللرفض ستواجه بالمنع من طرف النفس اللوامة، التي تقود للشعور بالذنب. يتعلق الأمر هنا بوضع حد للذة، أو على الأصح بوضع حد أمام الأهواء الجنسية. الأنا التي تمثل بواسطة النفس اللوامة ستقود إلى الضغط على الأهواء التدميرية ونشر أهواء الحياة. الأمر الذي سيورط سيطرة للحب على الأخلاق، وعلى القوانين الاجتماعية... المسألة الجنسية هي في قلب المسألتين المتناقضتين. اللبيدو هو جزء من الإحساس بالحياة. ولكنه يقوده أيضا إلى التدمير حين يتحلل من الأخلاق والممنوعات. هناك شعور بالذنب أصلي لاشعوري يضع الكائن البشري في صراع بين أهواء الحياة (Eros) وأهواء الموت « thanatos ». الشعور بالذنب هو أساسي أيضا في الحضارة وفي تطور الإنسان.

(*) يميز الإمام الغزالي بين أمراض القلوب وأمراض الأبدان، ويعتبر الثانية مرتبطة بالأولى. فأمراض القلوب توافق الأمراض النفسية، ويجب أن تعطى لها الأولوية في كل علاج. ما رأيكم؟

- هذه الإحالة جد هامة لكونها تعتبر الأمراض النفسية هي أمراض القلوب، وتبين أن علينا أخذ الكلام في بعده الاستعاري. حينما نتحدث عن البدن أو الجسد فهذا أمر فضفاض، إنه الحب في كليته. حينما نتحدث عن القلب، فليس المقصود هنا هو عضلة القلب، نحن نتحدث عما يمثله، إنه إشعار عن الحب، وبمعنى آخر حين نشعر بألم نفسي فإن علينا أن نبحث عن الأسباب في الحب. وإذا قدمنا الجانب النفسي وأعطيناه الأولوية، فإن هذا هو منتهى سعادة الإنسان، الإنسان المفكر، الإنسان الذي يمتلك اللغة. وهذا ما لا يوجد لدى الكائنات الأخرى. وبالنسبة للتحليل النفسي فالمعتقد يمكنه أن يساعد في البدء في الشفاء، ولكنه ليس كافيًا لوحده.

لكن ما معنى الشفاء؟ إنه مفهوم يأتينا من الطب الإيجابي، والذي لم نستطع التخلص منه بصفة نهائية، والكلمة العربية شفاء، التي تعني تخفيف الألم، هي أكثر تعبيرا حاليًا. أغلب المرضى الذين يزورون المختصين يأتون لمداواة أمراضهم. ويمكننا هنا أن نعتبر أن الأمراض هي المشاكل الأساسية، أو نعتبر أنها جزء مهيمن فقط. ويتم اللجوء إلى حلول سريعة عبر أدوية، أو عبر جلسات قصيرة، أو القيام ببحث عميق حول أسباب الألم، وإذا لم يفلح العلاج بشكل تام فعليهم التعود على التعايش مع آلامهم.

(*) الأحكام الشرعية في الإسلام تنقسم إلى خمسة هي: المباح، المحرم، الواجب، المكروه، المستحب. وهذه الأحكام استنبطها الفقهاء والأصوليون من الأصل الذي هو الكتاب والسنة، فأصبحت جزءا من المجتمع ومن ممارسته. كيف يمكننا النظر إلى الممنوعات والمباحات من زاوية التحليل النفسي؟

- الفرد يكتسب ما هو ديني بمؤسسة الأسرة وبالمدرسة بواسطة التربية والتعليم، فالناس لا يتربون على نفس الطريقة، فليس لهم نفس الآباء ولا نفس التربية، وهنا يأتي التأويل، أي العلاقة بالتدين والمسألة الذاتية الشخصية. العلاقة بالدين تأتي من العلاقة بالآخر كما قلتَ. هذا الآخر الذي يعتبر شبيها أو نقيضا يتلقى نفس التعليمات أو يتلقى تعليمات أخرى بشكل مختلف تبعًا للتأويل الذي نعطيه للنص الديني، من خلال الشروح أو من خلال قراءتنا، رغم أن لنا مثالا واحد أو هدفا واحدا في الدين نسعى إليه. ومن ناحية أخرى، فإن للتدين علاقة بالشخصية وبالصراعات التي يعيشها الفرد. فبعض الأفراد مثلا يمتثلون للممنوعات والمحرمات ويطبقون ما طلب منهم أكثر من الآخرين، وحتى ولو لم يخطئوا فهم يعتقدون أنهم يستحقون عقابا. ولذلك يلوذون إلى التوبة. التدين يأتي هنا إذن لتبرير هذه المحظورات. قد يرجع الفرد اضطراباته وقلقه "للجن" لتفسير ما يلحقه من قلق، فيمزج هنا بين الدين والشعوذة لطرد "الأرواح الشريرة". الممنوعات هنا ترتبط بالاضطرابات وبالصراع النفسي أكثر من ارتباطها بالضوابط الدينية.

لنأخذ مثالا الشخص المصاب بالفوبيا أو الرهاب، المصاب بالخوف من الخروج من البيت، والمصاب بإحباطات. هذا الشخص سيستعمل الدين لتبرير عجزه، وسيرجع كل شيء للقدر "المكتوب"، وإلى الله الذي أراد له ذلك. إنه يستعمل الدين هنا للتبرير. مثال آخر لشخص به وسواس قهري يلتجئ إلى الوضوء وتكرار الصلاة عدة مرات حين يشك في فعله. وحين يزداد شكه وقلقه فسيضاعف من تكرار فعله هذا. ويتضح جليا هنا أن ما قام به هذا الشخص لا علاقة له بإيمانه، ولكن فعله سيتأتى كذريعة ومقاومة لأعراض. المحيط يعترف به كموسوس وينصحه بالالتجاء للمختص في العلاج، وكذا "للمشعوذ" (الفْقيه هنا). وهناك حالات أقل خطورة قد لا يعيرها الوسط اهتماما كبيرا. ودور الطب أو العلاج أو التحليل هو التخفيف من المعاناة، بجعل الفرد أكثر حرية في ممارسته، متحررا من شكوكه ومخاوفه واضطراباته وأوهامه.

الكثير من الممنوعات تتم بلاوعي. والشخص يتقبل الممنوعات في اللاشعور. وحين يقوم باختراق المحرم فلكي يخترق قانونا فرص عليه، أو يشعر أنه فرض عليه. يتحدى والديه، يتحدى الأستاذ، ويتحدى السلطة. وهناك الكثير من المحرمات أو الممنوعات لا تُحترَم. والفرد وحده من يضع التبرير لما قام به. الفرد يستجيب هنا لوعيه وليس للقانون.

دور المدرسة

تنمية الفكر النقدي

(*) ما أهمية العلاقة بين التربية الدينية والمدرسة؟

- للمدرسة أهمية كبيرة في التربية الدينية. وهناك فرق بين المدرسة والمسجد في هذا المجال. دور المدرسة هو تنمية الفكر النقدي لدى التلميذ، وليس الاقتصار على تلقي المعارف. معرفة تاريخ الإسلام، ومكانته في الحضارة العربية، مسألة أساسية في التربية. والطريقة التي ندرس بها هي ما يجب أن نوليه أهمية أكثر.

(*) كنتُ قد اقترحتُ سابقا تعويض مفهوم "التربية الإسلامية" بـ"التربية الدينية"، من أجل المقارنة والانفتاح على الآخر. ما رأيك؟

- سيكون الأمر جيدا. فعمل الثيولوجي المنشغل بالأمر الديني عليه أن ينصب على إعادة القراءة، وليس فقط على مضاعفة التأويلات حول الإسلام، وأن ينصب أيضا على الديانات السماوية الأخرى في علاقتها المتبادلة فيما بينها.

(*) تأثير "الفْقيه" على المريض هو أكثر أهمية من تأثير المحلل النفساني حاليا، وكأنهما يتنافسان على جسده ونفسيته، علما أنكم اشتغلتم ميدانيا على هذا الأمر، ما رأيكم فيه؟

- سيكون من الخطأ أن نضعهما في وضعية تنافسية، أو في حالة غيرة. فهما لا ينتميان أبدا للمجال نفسه. بالنسبة لـ"الفقيه" فمجاله هو الجانب الاعتقادي الإيماني. أما مجال المحلل النفساني فمجاله هو اللغة. لقد تأسس التحليل النفسي على المعرفة الطبية النفسية. والطب النفسي تأسس على أرضية تقليدية ممثلة من قبل الفقيه، ومن قبل الأضرحة، والمشعوذين والسحرة. إنها دائما ثانوية في التمثلات الشعبية. لقد أتى التحليل النفسي ليحدث قطيعة إبستيمولوجية، وذلك بعدم اعتبار الجنون أمرا يعود لأسباب غيبية "مقدسة"، ولكن لأسباب بشرية. وفي التصورات الشعبية تصنيفات "الجن" و"السحر" لم تعد تندرج ضمن سياق وحيد، ولكنها أصبحت مندرجة ضمن الصنف القابل للتشخيص: الهستيريا، المس، البارانويا... يوجد هنا تغيير مسارِ من قبل التصنيفات. التحليل النفسي يهتم بالذات المأخوذة ضمن اللغة. ومن هنا فهو يسائل التقاليد من خلال الدال الموجود في الثقافة. لا أحد يخرج عن انتماءاته الرمزية. التحليل النفسي ليس في تعارض بين الحداثة والتقليد، ولكنه يحاول إعطاء خصوصية للتقاليد بإدخالها ضمن القيم الكونية.

يمكن للتحليل النفسي أن يساعد

على الخروج من الخوف إلى الحرية

 (*) ما الدور الذي تلعبه الدراسات الميدانية التحليل نفسية بالنسبة لتحرير الإنسان العربي من أغلال الماضي؟

- لقد عانى العرب كثيرا من العبودية الطوعية، وما زالوا يعانون منها. ويمكن للتحليل النفسي أن يساعد على الخروج من هذه الحالة بأن يكون علامة للمرور والانتقال من التسليم إلى الإفصاح، من الخوف إلى الحرية، من العبودية إلى الرغبة. وهذا لا يعني أن الحرية هي إمكانية أن نقول كل شيء، وأن نفعل ما نريد خارج القانون، لكن معناه أن يأخذ الأفراد وعيا بميكانيزمات الرقابة الذاتية التي تسير وتكبح وجودهم. يمكنهم بذلك الخروج من حالة الشلل التي تصيب الجماهير حين تكون تابعة لا تمتلك أفكارا خاصة بكل فرد. يمكنهم تنمية فكر نقدي، حر، خلاق، منفتح، ومبادر.

(*) في رأيكم هل يمكن للعلمانية أن تقدم شيئا للمجتمع؟

- يوجد عمليًا شكل من العلمانية في مجتمعنا، هو فصل الدين عن السياسة. فالقوانين الدينية لا تطبق بشكل حرفي. والكثير من التغييرات قد حدثت بفضل التطور الاجتماعي. العلمانية هي تمظهر من تمظهرات الحداثة، تمر عبر حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ثم عبر حرية الأفكار والمعتقد دون خوف. لقد أصبح التفريق بين الذكر والأنثى الذي طرح بالشكل التقليدي موضع تساؤل. وولوج هذه الحداثة يفترض تطورا اجتماعيا وتربويا وثقافيا. فالكثير من العوامل، إلى جانب الدين، تشكل الأفراد. والعلمانية في التحليل النفسي تقتضي التمييز والتفريق بين اضطرابات الشخصية، وبين معتقدات الفرد الدينية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.