}

بشار مرقصّ: نحو خلق حيّز فلسطيني مستقل في حيفا

رشا حلوة 3 فبراير 2018
حوارات بشار مرقصّ: نحو خلق حيّز فلسطيني مستقل في حيفا
بشار مرقص

في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2017، افتتح مسرح خشبة في مدينة حيفا (فلسطين 48) موسمه المسرحيّ الثالث بعنوان "أشخاص غير مرئيّين"، هذا المسرح الذي تأسّس على أيدي مجموعة "إنسمبل خشبة"، واتخذ مقرًّا له مبنى عثمانيًّا يعود إلى عائلة الخطيب التي تهجّرت من حيّ وادي الصّليب في حيفا في نكبة 1948، ليتحوّل مع الأيام القليلة من بداية عام 2015 والترميمات على يد مجموعة من المسرحيّين/ات والفنانين/ات إلى أحد أهم المؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة المستقلّة في حيفا وفي الأراضي المحتلّة عام 1948، كما في فلسطين الحقيقيّة كلّها.

أحد أهم ركائز مسرح خشبة المستقلّ ومديره الفنّيّ، وأحد مؤسّسي "إنسمبل خشبة"، هو الكاتب والمخرج المسرحيّ بشار مرقصّ، من مواليد عام 1992 في قريّة كفر ياسيف في الجليل ويقيم في حيفا. شارك في العديد من الأعمال المسرحيّة كممثل ومخرج في مسارح فلسطينيّة وعربيّة وعالميّة عديدة، بالإضافة إلى عمله في حقل الإنتاج المسرحيّ، ويعمل كمدرّس لمادة التمثيل والإخراج في جامعات ومعاهد مختلفة.

من خلال هذا الحوار تحدثنا عن تجربة مسرح خشبة، تجربته مع الكتابة والإخراج المسرحيّ، عن المسرح الفلسطينيّ بالأمس واليوم، عن خصوصيّة المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ في حيفا، عن استقلاليّة المؤسّسات وعن إعادة برمجة المدينة كما يلائم الجيلين الثالث والرابع بعد النكبة.

(*) هناك دومًا من يتفاجأ من العلاقة بين صغر سنّك وبين إنتاجك المسرحيّ. اليوم، بعد هذا الإنتاج واستمراريته، عندما يتفاجأ أحدهم من هذه العلاقة، ما هو الرّد الذي يخطر ببالك؟

- بصراحة، منذ فترة طويلة لم يتفاجأ أحد من هذه المعلومة، لربما لم يعد هناك ناس جدد يدخلون إلى دوائري الشخصيّة. ككاتب ومخرج كنت محظوظًا منذ بداية عملي في المسرح، كأن الفرص والصدف والقرارات كانت دائمًا صحيحة، وعرّفتني إلى الناس والأماكن والطواقم الصّح، التي بحد ذاتها، بالإضافة إلى المجهود والمبادرات التي أبذلها شخصيًا، تختزل الكثير من الوقت الضائع، الذي ممكن أن يقف فيه الفرد ولا يعرف ما يفعل فيه، فمع الناس الصّح ليس الوقت هو المعنى، إنما رغبتك بصنع أحلامك وخلق الفرص لتحقيقها.

هاجس صنع مسرح

بطريقة لم تُصنع من قبل

(*) بالعودة إلى البداية، لعلاقتك الأولى ربما مع الكتابة والإخراج المسرحيّ، ما هي الأشياء التي حملتك إلى هذا المكان، ومع الوقت أكّدت لك أنك تمشي في الطريق الصحيحة؟

- هذا سؤال كبير. دائمًا كان لديّ الهاجس بأن أصنع مسرحًا بالطريقة التي لم تُصنع من قبل، لكن في نفس الوقت أن أستفيد من التراث المسرحيّ والثقافيّ الفلسطينيّ، بمعنى أن يكون نابعًا من هذه المدرسة الفلسطينيّة مع أدوات وتقنيّة مسرحيّة أخرى تعلّمتها. وكأنه كان من الضروريّ الدراسة والبحث عن خط جديد أحبّ أن أصنعه، وإن أردت أن أصنع مسرحًا أريد أن أصنعه بهذه اللغة وهذه الطريق على الأقل. اعتبر أن سنوات كثيرة من عملي كانت في مختبر لخلق أسلوب تفكير وإخراجي أعتبره طريقي في العمل، ومع الوقت بدأت أفهم، أرى وأراقب الطريق الذي اختاره، وأطوّر نفسي ضمنه مع الوقت، والأساليب التي حاولت أن أخلقها أحيانًا أو أختارها أحيانًا أخرى، وأعيد صقلها من جديد، هذه الأساليب تصنع مسرحًا يجيب بالفعل عن تطلعاتي وماهية ما أحبّ أن أصنعه في المسرح. وخلال السنوات الأخيرة أسمع أن المشاهد المرتبط بالمسرح مباشرة، أو الذي يحبّ المسرح بالعموم، يرى هذه اللغة المسرحيّة التي أحاول خلقها وتطويرها خطوة بعد خطوة، وتجربة بعد تجربة. في الأعمال الأخيرة زادت الثقة عندي، خاصّة لأنني استطعت إيجاد المعادلات الصّح لأكون راضيًا فنيًا على الطريق لا على النتيجة أبدًا، إنما على ما أحاول أن أفعله وبنفس الوقت وبموازاة ذلك يحكي مع الجمهور مباشرة، ومع أنه فنيًا هذه لغتي الشخصيّة فإنني وجدت المعادلة التي أشعر مع الوقت أنها تمشي في الاتجاه الصحيح، وأعتقد أنني موجود في هذه المرحلة الجديدة.

(*) من خلال اطلاعي على تجربتك والقرب منها، رأيتك دائمًا هذا الشخص الذي منذ بداية عمله مع مسرحيّين ومخرجين كنت تراقب وتسمع أكثر مما تتكلم، كأن مدرستك الأولى والمستمرة هي الناس وقصصهم، التي نتج عنها انسمبل خشبة ومن ثم تأسيس المسرح...

- تمامًا، أحبّ أن أصنع المسرح مختبرًا ينطلق فعليًا من الناس، الذين أنا أحدهم، ينطلق مني ومن دوائريّ ومحيطيّ الأوسع، ومن ثم حمل هذه القصص إلى مختبر المسرح، وداخله يعيد المختبر تركيبها بطريقة جديدة، يحكي عنها من خلالها لكن بعيون أخرى. أرى أن معادلة المسرح هذه تنبع من المجتمع والناس وتاريخهم وحضارتهم والخوف من مستقبلهم، ومن ثم تعود إلى الناس، فهناك مدخل ومخرج، وبدون هذه المعادلة الأساسيّة لا معنى للمسرح الذي أحاول التركيز عليه، وهذه المعادلة لم أبتكرها أنا، بل هي موجودة تعتمد على الإصغاء للناس، للجمهور، وللوجع العامّ، الذاكرة العامّة والحياة، وعندما يعود العمل المسرحيّ إلى الجمهور، يعود مع وجهة نظر جديدة، وللأدق مع منظور آخر، كي يرى الناس قصّتهم من خلال أعين جديدة، وهذا جمال الفنّ. هذه نقطة انطلاقي وانطلاق مسرح خشبة، الذي تعتمد استراتيجيات عمله على اختيار ثيمة سنويّة من المجتمع والحياة وتفاصيل الناس اليوميّة، ومنها ينطلق مسار البحثّ إلى أن نصل إلى المُنتَج الفنّيّ.

(*) غالبًا اعتمد المسرح الفلسطينيّ خلال السنوات السابقة على النصّ الأدبيّ والمسرحيّ العالميّ في إنتاجه أكثر مما اعتمد على خلق نصوص جديدة، هل تعتقد أن هذا أوجد فجوة في علاقة الجمهور مع المسرح؟

- بكلّ تأكيد، على الأقل خلال سنوات المسرح الفلسطينيّ التي أعيها، لأنه في الماضي لم يكن الوضع كذلك، خاصّة في تجارب مسرح الحكواتي والمسارح الفلسطينيّة الأولى، التي تميّزت بمحاولات خلق الجديد. الأزمة تكمن فيما بعد بالإسقاط الدائم لنصوص أدبيّة أو مسرحيّة على الواقع، وهذا جميل، لكنه غير كافٍ لخلق علاقة مع المشاهد. إن عدنا إلى أي تجربة مسرحيّة في العالم من الأمثلة التي نعرفها كلّنا، فإن شكسبير مثلًا لم يجلس وحده يكتب نصوصه الخالدة، بل كان يعمل مع فرق مسرحيّة ويزور قاعة المسرح ويمزق مشاهد ليكتبها من جديد إلى أن وصلت إلى ما نعرفه اليوم. إذًا كي يتطوّر المسرح الفلسطينيّ كفنّ يجب أن نعمل على خلق الجديد، الحوار الذي يخلقه عمل مسرح جديد هو الأساس، وهذا هو ما ينقص المسرح الفلسطينيّ مؤخرًا، وأتمنى أننا نتفق جميعنا كمسرحيّين فلسطينيّين على ذلك.

لا نستطيع بعد أن نتكلم عن المسرح الفلسطينيّ مثل المسرح الأوروبيّ على سبيل المثال، الذي أصبح مدرسة. نعم، لدينا تجارب رائعة وتاريخ حافل، لكننا لم نصل بعد إلى مرحلة بلورة مسرح، هذا لا يحتاج وقتًا وسنوات فقط، إنما يحتاج إلى عناصر ما؛ منها مبادرات وتجارب جديدة، الكثير من الأخطاء، النقاد المسرحيّون والأكاديميّون والباحثون للكتابة والنقد والأرشفة وللتطوير، ونحن كمسرح فلسطينيّ لدينا الإنتاج فقط، وباقي العناصر غير موجودة. خلال السنوات الأخيرة، بدأ الاهتمام بالكتابة والنقد عن المسرح، لكن التجارب النقديّة هي أحد الأعمدة الأساسيّة لخلق مسرح، وهي غائبة حتى الآن، وبالنتيجة لدينا الكثير لنفعله.

بالعودة إلى الاقتباسات المسرحيّة فهي نابعة من غياب كتّاب المسرح، وهذا لأنه ما من مسارح كثيرة، وهي دائرة إنتاج لا شك أنها متأثرة من الوضع التاريخيّ والسياسيّ. الموضوع كبير جدًا، انطلاقًا من تبعات الحديث عن كيف يمكن للمسرح الفلسطينيّ أن يتطوّر ويتحوّل إلى مدرسة لها معاييرها حتى نصل بعد سنوات إلى مرحلة جديدة منه.

المشكلة غياب

حركة المسرح

(*) هناك خصوصيّة ما في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ في الداخل (مناطق 1948)، خصوصيّة متعلّقة بالإنتاج في ظلّ الواقع السياسيّ. تربينا ضمن مقولة مفادها: "الفنّ لا يطعم خبزًا"، علمًا أن الفنّ لا يطعم خبزًا كثيرًا في أماكن كثيرة. لكن اليوم وبعد تجربتك المتواصلة وتأسيس مسرح خشبة والتحديات لاستدامته، ما هو "الخبز" الذي تحصل عليه كبشّار وكمسرح خشبة؟

- المسرح عندنا في البلد لا يطعم خبزًا لأننا حتى اليوم لا نملك مؤسسات مسرحيّة كاملة، وهذا جزء من الموضوع. عندما أكون في نقاش حول جمهور المسرح يُطرح السؤال الدائم: لماذا لا يوجد جمهور للمسرح؟ لم أفكر للحظة يومًا ما أن المشكلة هي الجمهور، كلا، المشكلة هي غياب حركة المسرح، وهذه المسألة نجحت فيها مبادرات عديدة بما في ذلك تجربة خشبة، ونحن على الطريق الذي نجعله ينجح ويتطوّر ويمشي في مسار مختلف وجديد. قبل أيام، افتتحنا إنتاجنا الجديد "الكباريه"، والإقبال الذي حظى به العمل لم يكن في حيفا من قبل، إن لم يكن في فلسطين كلّها أيضًا؛ كل الحجوزات انتهت بعد العرض الأوّل، وهذا العمل لديه إمكانية لأن يُعرض على مدار سنة كاملة ويحافظ على رغبة الجمهور بمشاهدته، والفكرة هي أن هذا العمل ليس جيدًا فقط، إنما أيضًا هو عمل جيّد مع مؤسّسة تعمل على بناء علاقات صحيحة مع مجتمعا المحيط، مع طواقم عمل وتسويق، فلا يمكن للمسرح كفنّ أن يعمل بلا مؤسّسة مسرحيّة تعمل بصورة كاملة وصحيّة، دائرة العمل هذه يجب أن تتطوّر دائمًا، وإن توقف تطوّرها تبقى بمكانها ثابتة، ومن السهل جدًا عندها أن تتجمد ولا تطعم خبزًا. الخبز الأساسي الذي آكله هو أن أعمالي وأعمال خشبة تحظى باهتمام كبير، محليّ وعالميّ، لكن أيضًا هذا ليس هو الخبز الأساسيّ، إنما أننا نعرف أنه خلال السنوات الأربع الأخيرة في حيفا هناك تجديد ما في المدينة، والفضل يعود إلى عدد كبير من الناس وإلى مؤسّسات أخرى، لدينا مؤسّسات تُبنى اليوم على أرض صلبة، وهذا هو الأساسي؛ وجود مؤسّسات مستقلّة وقادرة على العطاء والاستدامة، مع التحديات الكبيرة، لكنها تعمل على تغيير نوع العلاقة مع المشاهد، بحيث تكون مبنيّة على الشراكة والتطوّر مع بعضنا البعض، وهذا ما نراه يومًا بعد يوم في حيفا.

إعادة برمجة المدينة

(*) هناك مقولة عامّة متعلّقة بالمشهد الثقافيّ في حيفا اليوم من الفاعلين/ات فيه، مؤداها أنّ الحركة الثقافيّة الحاضرة تعيد شكل المدينة المرغوب، متجسّدة باستقلاليّة المؤسّسات والمضمون كما استقلالية المقولة السياسيّة والثقافيّة. هذا الادعاء لا يحبّه بشكل أو بآخر الجيل الأكبر بل وينتقده، ولربما هذا جدل غير علنيّ لكنه حاضر بين جيل اليوم والجيل الذي بدأنا الإنتاج من خلاله، فما رأيك؟

- أعتقد أن المسألة ليست فقط إعادة خلق المدينة، برغم إمكانية أن يكون ذلك صحيحًا، لكن الأمر هو أنّ الثقافة الفلسطينيّة في حيفا اليوم تلعب دورًا جديدًا يعيد برمجة المدينة، وهو لا يشبه الدور الذي كانت الحركة الثقافيّة مجبرة به في سنوات سابقة، وأطلقت على هذا الدور اسم تأسيس المكان؛ نحن نخلق لأنفسنا مكانًا من جديد، نتعلّم كيف نحبّه من جديد، نعيد تعريفه، وهذا الدور بشأن تعريف المكان لم يشغل الحلقات الثقافيّة الفلسطينيّة في السابق، لربما لم تكن بحاجة إليه، وكان الحراك عندها يلعب دورًا أكثر أهميّة، ورؤيتنا لدور الحركة اليوم لا يلغي أهمية الأدوار السابقة. دور الحركة الثقافيّة اليوم كأنه يقول بأنه قادر على إعادة تعريف المكان، إطلاق أسماء جديدة عليه، خلق مساحات جديدة داخله، وهذا مرتبط جدًا بالجيل وليس فقط بالثقافة، وتحديدًا بالجيلين الثالث والرابع بعد النكبة، وبالطبع لديهما أساليب جديدة للتعامل مع الحياة ومع رغبتهما من المدينة والحيّز العام، هذا لم يشغل الثقافة من قبل؛ شكل المساحات، ماذا يعني أن تُسمى شوارع بأسماء جديدة؟ مثلًا "ساحة الأسير" هو اسم جديد أُطلق نتيجة حراك سياسيّ في حيفا (خلال إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام عام 2011 الذي عرف باسم "معركة الأمعاء الخاويّة"، أقيمت اعتصامات تضامنية في منطقة حيّ الألمانيّة في مدينة حيفا، وخلالها أطلق المعتصمون/ات اسم "ساحة الأسير" على هذه المنطقة، وهو الاسم المستخدم حتى اليوم في الخطاب السياسيّ العامّ مثل الدعوة إلى مظاهرة في تلك الساحة، حيث يُذكر في البيانات والنصوص الإعلاميّة الفلسطينيّة اسم "ساحة الأسير")، وهذا كلّه هو امتداد لكيف نعرّف نحن المكان من جديد؟ وهذا أمر ملموس، السؤال هو إلى أين سنصل منه؟.


(*) ثمة من يقول إنه في مرحلة ما بدأ تغيير في الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ هنا في الداخل، من ردود فعل إلى أفعال، وهناك أصوات تتحدث أكثر اليوم عن ضرورة أن يكون الإنتاج هو الفعل، بما في ذلك التركيز على الأسئلة الفرديّة/ الجماعيّة والحوار الذاتيّ، وألا يكون محرّك الإنتاج هو بالأساس رد الفعل، فما رأيك؟

-أوافق تمامًا، وهذا الأمر لم ألاحظه فقط بالعموم، إنما هو أحد القرارات التي اتخذناها في مسرح خشبة ونحن واعون لها، بأن الحركة الثقافيّة في السابق كانت أكثر بمثابة رد فعل للمؤسّسة الإسرائيليّة وللأحداث الكبيرة، والحديث عن كل الحركة الثقافيّة، كأنك داخل ماراثون تركض طوال الوقت لإنتاج ردود فعل بلا أن تكون لدينا القدرة لأن نسأل أنفسنا ماذا نريد أن نفعل؟ لذلك أقول هناك دور جديد نعيشه، وأنا أيضًا فكرت في مرحلة بأنه مع وجود حدث سياسيّ يجب على الفنّ أن يجيب، وليس ممكنًا أن يفضل صامتًا، هذا شرعيّ وموجود، الإشكاليّة تكمن بأن يبقى إنتاجك هو رد فعلّ على أشياء أكبر منك وما من إمكانية لديك لأن تقول: لحظة، ماذا عن الذي أرغب بقوله؟ ماذا تريد الحركة الثقافيّة؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ ما هو الوضع الذي أريده بعد 3 سنوات؟ لا شك بأننا نعيش في دولة احتلال، والأحداث السياسيّة تؤثر علينا، لكن السؤال هو ما هو المكان الذي نرغب بأن نكون فيه؟ هل نرغب بأن نكون حاضرين كرد فعل أم أن نخلق فعلًا ينتج عنه ردود فعل وله تأثير أكبر؟ أؤمن أن تأثير الثقافة والفنّ أكبر عندما يكونان فعلًا، عندما نختار القصّة ومضمونها. لا أجزم، كل شيء صحيح وممكن، لكن دائرة الفعل ورد الفعل فيها إشكاليّة ما، وهي قضاء الوقت بردود الأفعال وخسارة هذا الوقت الذي يمكن استثماره بالتحكم بالمقولة والفعل، مما سيكون له تأثير أكبر. نحن من نخلق المضمون، وهذا مختلف تمامًا، وهذا ما يحدث في حيفا سواء في مسرح خشبة أو غيره من المؤسّسات؛ خلق حوارات في الفضاءات العامّة حول ما نختاره من مضامين، بدون أن نترك مسؤوليتنا السياسيّة بالطبع، وضرورة رد الفعل عندما يحدث فعل، لكن من المهم أن نأخذ فرصة لنقرر ما نرغب بفعله، نحن أصحاب العمل، وبالتأكيد لذلك تأثير كبير على المجتمع والواقع.

استقلاليّة المؤسّسات

الثقافيّة الفلسطينيّة

(*) هل معادلة التحكم بالأفعال، بكتابة المضمون، وبكل ما ذكرته أعلاه لها علاقة بمبدأ استقلاليّة المؤسّسات الثقافيّة الفلسطينيّة؟

- بصورة كبيرة نعم، وأحيانًا غير مرتبطة. إن ارتباطها ليس فقط مع الاستقلال الثقافيّ عن دولة الاحتلال، إنما أيضًا مع أسلوب الإنتاج، بمعنى أنه في اللحظة التي نقول فيها بأننا مستقلون، فهذا يغيّر نقطة بداية المشروع. تصبح الحاجة الأولى هي أن تعرف ماذا تريد أن تفعله، ومن ثم تبحث عن شركاء داعمين لمضمونك وتنتجه، وتتغيّر المعادلة عندها. وللأسف فإن الكثير من المؤسّسات تفكر بماهية إنهاء العام بسبب الميزانية كي تحصل على المزيد في العام المقبل، وعندها لا يكون المشروع الفنّي أساس المؤسّسة، ويصبح هناك فصل بين حاجة المؤسسة لمواصلة عملها وبين الحاجة لأن تكون الأعمال الفنيّة هي الأساس. ممكن أن تكون المؤسّسة ناجحة جدًا لكن أعمالها الفنيّة سيئة، وهذا موجود في كل مكان، وهذا هو الفرق بين المسرح الجيّد وغير الجيّد. فنقطة انطلاق المؤسّسات المستقلّة هو العمل الفنّي الذي تريد إنتاجه ومن ثم تبحث عن شركاء، فنقطة الانطلاق مختلفة تمامًا، وهذا ما تفعله الاستقلاليّة، وحتى إن عشتُ في دولة ثانيّة وليس فقط تحت الاحتلال، وأحبّ أن أصنع مسرحًا مستقلًا لنفس السبب.

(*) منذ لحظة تأسيس "انسمبل خشبة" في عام 2011، مرورًا بقرار تأسيس المسرح، والبحث عن مكان وإيجاده وترميمه وافتتاحه في عام 2015، والتحديات اليوميّة التي يمرّ بها للاستدامة، كما المخاوف والقلق، ما هو الشيء الذي يواصل منحك على المستوى الشخصيّ الشغف لمواصلة الإنتاج؟

- بدأ مسرح خشبة كمشروع مبني على دراسة على مدار سنوات، لكن في أساسه جاء من مكان عاطفيّ، من حبّ المسرح وحبّ أسلوب عمل معيّن، رؤية معينة في قلب العمل المسرحيّ، وخلق بيت مستقلّ لنا كمجموعة فنيّة ومجموعات فنيّة أخرى، وهذا موجود الآن على أرض الواقع. وبالرغم من الصعوبات أعتقد أن الشيء الوحيد الذي يجعلني أستمر على مستوى شخصيّ، هو هذا الحلم الذي نجحت مجازفته وتواصل النجاح، وهو أكبر بكثير من مبنى مسرح. أن تنجح معناه توفير احتمالات لبناء مؤسسات أخرى، مؤسّسات تلعب أدوارًا مختلفة. الفكرة نجحت كما مبنى العمل هذا، وله تأثير على الأرض، وإن أردنا أن نعدّد المؤسسات التي افتتحت بعد خشبة وتتبع أساليب مشابهة، فهي كثيرة. لا أستطيع القول إن لافتتاح خشبة تأثيرًا مباشرًا، لكن هناك تأثير ما لواقع أن المحاولة نجحت. وما يعطيني شغفًا للمواصلة هو أن المشروع استطاع أن ينجح ويجب أن يواصل نجاحه، وبالنسبة لي نجاحه يتسبّب بتغيير منطق كامل يتعلّق بوضعنا كفلسطينيّين/ات تحت الاحتلال.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.