}

القاص المصري أحمد الخميسي: الدولة تعادي المثقفين

إيهاب محمود 28 نوفمبر 2018
حوارات القاص المصري أحمد الخميسي: الدولة تعادي المثقفين
أحمد الخميسي

بإخلاص وتفانٍ قضى القاص المصري أحمد الخميسي ما يقارب النصف قرن يكتب القصة القصيرة فقط، لم تغوه الرواية، ولم يسعَ إليها، وهو يرى أن طبيعته النفسية هي ما تلائم القصة القصيرة، معتبرًا إياها طبيعة ذاتية لم يخترها المرء لكنه يولد بها.

يؤمن الخميسي أيضًا بأن الوسط الثقافي هو أكثر الأطراف ادعاء بأنه المدافع عن الحقيقة، وحامل آمال التغيير، والمعبر عن الحقيقة، بينما يمثل، في حقيقته، رديفا لكل الأنظمة السياسية القائمة، وعاملا من عوامل ترسيخ الأوضاع القائمة.

وعلى الرغم من سنوات طوال قضاها في كتابة القصة، إلا أنه لم ينتج سوى خمس مجموعات فقط، مبررًا: "أضعت سنوات طويلة لأجد نفسي، ولكي أعلم أن الكتابة الأدبية هي الوسيلة الأقوى للتعبير عن نفسي بالكامل. لم يكن لديّ في يوم من الأيام حلم بأن أصبح كاتبا يصدر كل عام كتابا، كانت أمنيتي أن أجد نفسي حتى لو عبرت عن نفسي بقطرة صغيرة وليس بحرا". 

هنا حوار معه:

القصة القصيرة

هي طبيعتي النفسية

(*) بداية: ما سر هذا الإخلاص للقصة القصيرة؟

- لم أكتب سوى القصة القصيرة ولم أتجه إلى كتابة الرواية قطّ، ويتصور الكثيرون أن ذلك إخلاص عن عمد ووعي للقصة القصيرة. والحقيقة غير ذلك، بالطبع أنا مخلص للقصة القصيرة، لكن هذا ليس باختياري. وللتوضيح سأضرب مثالا. هل يعد الشخص ذو العينين العسليتين مخلصا للون العسلي؟ أم أن هذا اللون طبيعته التي ولد بها؟ القصة القصيرة طبيعة شخصية وفنية، هي طريقة عقلية ونفسية في استقبال العالم والتفاعل معه، هي مثل لون العينين ليست اختيارا تخلص له، هي طبيعتك الذاتية التي لم تخترها لكنك ولدت بها. في القصة القصيرة ترى التاريخ كله في لحظة، هذه طبيعة استقبالك للعالم، الرواية تحتاج طبيعة عقلية ونفسية أخرى لا تتوفر لي. المسألة ليست إخلاصًا من عدمه، المسألة أن القصة القصيرة هي طبيعتي النفسية. أذكر أنني سألت الكاتب العظيم يوسف إدريس ذات يوم لماذا لا تكتب رواية؟ فقال لي: "هناك سباح بطل مئة متر، وسباح بطل ألف متر. الأول نفسه قصير والثاني نفسه طويل. الفرق في النفس". أعتقد أنه نفس تفسيري لالتزام البعض وأنا منهم بالقصة القصيرة: نفس. طبيعة.   

(*) ألم تغوِك الرواية حتى الآن بكتابتها؟

- لا. لم تغوني الرواية بكتابتها. وقد طالبني عدد من الكتاب الأصدقاء بكتابة رواية، بل واقترحوا موضوعها، لكني ما إن أفكر في رواية حتى أشعر أني أقف أمام حائط منيع، لأن لدي، غير طبيعة استقبالي للعالم، مشكلة أخرى متعلقة باللغة، وبعبارة أدق بالتجويد، والتنقيح والبحث عن الكلمة المناسبة الدقيقة طويلا جدا، والبحث عن إيقاع الجمل في علاقاتها بالايقاع العام للنص، لهذا أحيانا أكتب القصة الواحدة التي لا تزيد عن صفحتين أو ثلاث، أكثر من خمس وعشرين مرة، وبعد نشرها في الصحف أنتبه إلى كلمات لا تعبر بالدقة عما أريده، فأعود إلى تنقيحها، ثم بعد أن تصدر القصص في كتاب أرجع وأنقحها من جديد! لهذا حين تطرح فكرة كتابة رواية فإنني أتخيل لو أنني سأكتب رواية من مئتي صفحة فأي مجهود ومراجعة شبه مستحيلة وأي زمن أحتاجه لإنهائها؟! 

(*) فزت بجائزة ساويرس الثقافية عن مجموعتك "أنا وأنتِ".. هل يمكن اختزال قيمة الجوائز الأدبية في المردود المادي فقط؟

- لا يمكن بالطبع اختزال قيمة الجوائز في المردود المادي فقط، ولو أن هذا المردود مهم جدا في زمن لم تعد فيه المجلات والصحف تدفع شيئا للكاتب، لكن الفلوس ليست كل قيمة الجوائز. هناك قيمة معنوية وأدبية حين تلفت الجوائز النظر إلى العمل الأدبي وإلى كاتبه، وهذه قيمة مهمة جدا لأن الإنسان يحتاج بشدة إلى التقدير المعنوي حاجته إلى الخبز.

الوسط الثقافي الأقل

ارتباطا بهموم الناس

(*) في قصة "أحب ساراماغو" بمجموعتك الأخيرة "ليل بلا قمر" تسخر من حذلقة المتثاقفين.. ما مشكلة الوسط الثقافي المصري الكبرى في نظرك؟

- الوسط الثقافي، المصري وغيره، له سمة غريبة، فهو أكثر الأطراف ادعاء بأنه المدافع عن الحقيقة، وحامل آمال التغيير، والمعبر عن الحقيقة، بينما يمثل القطاع الأوسع منه رديفا لكل الأنظمة السياسية القائمة، وعاملا من عوامل ترسيخ الأوضاع القائمة. الوسط الثقافي هو الأعلى صوتا حين يدور الحديث عن التغيير والتجديد، وهو الأقل ارتباطا بهموم الناس والأقل استعدادا لبذل جهد حقيقي. الأطباء مثلا لا يدعون أنهم حملة رايات التغيير، ولا المهندسون، لكن "المثقفين" يكسبون خبزهم اليومي من تلك الادعاءات. المشكلة أنك لممارسة الطب تحتاج إلى شهادة محددة تثبت أنك اجتزت امتحانات معينة في علوم معروفة، والوسط الثقافي لا يحتاج إلى أي شهادة، يدخله كل من يبحث عن دور، أو وجاهة، لأن دخوله لا يحتاج إلى أي شيء سوى اللغة، الآن بوسع من يشاء أن يدعي أنه شاعر، أو روائي، أو ناقد، وما من معيار للتيقن من كل ذلك. أقول ما قاله أنطون تشيخوف ذات يوم "إنني لا أثق في المثقفين، أثق في بعضهم فقط"، ولكن كل ما سبق لا يعني غياب الأسماء التي تمثل قيمة حقيقية في وسط ذلك الزحام الرهيب. 

(*) لديك 5 مجموعات قصصية، فضلًا عن مجموعة مشتركة مع أحمد هاشم الشريف، ألا ترى أنك مقل ربما في إنتاجك الأدبي؟ (6 كتب في 50 عامًا تقريبًا قليل نسبيًا بالنسبة لموهبتك وإبداعك).

- طبعا خمس مجموعات قصصية تعد إنتاجا قليلا بالنسبة للعمر، لكني أضعت وقتا كثيرا جدا، بل سنوات طويلة، لأتيقن من أن الكتابة الأدبية طريقي، وبعبارة أخرى أضعت سنوات طويلة لأجد نفسي، ولكي أعلم أن الكتابة الأدبية هي الوسيلة الأقوى للتعبير عن نفسي بالكامل. لم يكن لدي في يوم من الأيام حلم بأن أصبح كاتبا يصدر كل عام كتابا، كانت أمنيتي أن أجد نفسي حتى لو عبرت عن نفسي بقطرة صغيرة وليس بحرا. 

(*) هل أنت مع فكرة إلغاء وزارة الثقافة؟ وما البديل؟

- لست مع فكرة إلغاء وزارة الثقافة مطلقا. لقد برزت هذه الفكرة في سياق الخصخصة العام، في سياق وقف دعم الدولة للثقافة والمجلات، وخصخصة كل شيء، وتحويل الثقافة من خدمة إلى سلعة. بالطبع وزارة الثقافة عندنا كانت وما زالت عاجزة، ومشوهة، ووزراؤها كانوا عديمي الخيال، لكن إلغاء الوزارة يعني أولا وقبل كل شيء إلغاء دعم الثقافة من قبل الدولة، بينما الدولة ملزمة بذلك، وهو أمر يشبه ما يجري الآن من محاولة خصخصة التعليم وتحويله إلى سلعة. إذا كانت للوزارة أخطاء فعلينا أن نتفاداها ونقوم بإصلاحها لا أن نهدم الوزارة. 

سر تراجع مقروئية

القصة القصيرة

(*) ما سر تراجع مقروئية القصة القصيرة أمام الرواية؟

- هناك أسباب كثيرة وراء تراجع مقروئية القصة القصيرة، في مقدمتها أن الصحف لم تعد تخصص مساحة لذلك النوع من الفن، وثانيا ظهور سوق واسعة للكتب تضع في اعتبارها أولا وقبل كل شيء ذوق المستهلك ورغباته وتستجيب له، لأن شعارها "الزبون على حق" كما أنها ترسخ مفهوم الكتب الأكثر مبيعا، ومعظمها رديء، وثالثا هناك سبب آخر معقد، أننا نحيا في مرحلة تاريخية تغيم فيها الرؤى لما حولنا، سواء داخل بلادنا أو على مستوى العالم. ما الذي يجري حولنا؟ إلى أين نمضي؟ هل نستطيع حقا خلق مستقبل أفضل؟ أظن أن حالة القلق هذه تدفع القارئ للبحث عن الرواية التي تتيح لها أدواتها محاولة الإجابة عن أسئلة كهذه.  

(*) هل أنت مع فكرة تصنيف القصة القصيرة، والقصيرة جدًا، والومضة، والقصة الشاعرة....

- طبعا التصنيف قائم. ومن زمن بعيد صنفت القصة على أنها "قصة قصيرة"، ثم "قصة قصيرة طويلة"، والآن جدت علينا القصة القصيرة جدا، والقصة الومضة، والشاعرة. والمشكلة ليست في ذلك التصنيف، المشكلة في عدم الدقة، والمبالغة، وأحيانا الجهل. على سبيل المثال هم يرددون، أو يعتبرون، أن القصة القصيرة جدا حدث فني جديد، مع أن أنطون تشيخوف أحد مؤسسي القصة في العالم، كتب بذلك الأسلوب، وله فيه أعمال مدهشة، وأيضا كافكا وهمنغواي. أما عن القصة الومضة، فأعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه القصة الومضة، لكنه باب مفتوح لكل من يريد تسطير كلمتين أو ثلاث كلمات خارج إطار القصة الفني. أما القصة الشاعرة فهو مصطلح غريب، لأن كل قصة جيدة هي في اعتقادي، بالضرورة، قصة شاعرة. تتداخل كل هذه المصطلحات بدون تحديد للفارق أو طبيعة الأسلوب وغير ذلك. لهذا أقول إن المشكلة ليست في التصنيف، بل في عدم الدقة والمبالغات والجهل أحيانا.   

فكرة الكتابة المشتركة

(*) نشرت أول مجموعة لك "الأحلام، الطيور، الكرنفال" عام 1967 بالتعاون مع أحمد هاشم الشريف، ومؤخرًا صدر كتاب بعنوان "وبيننا حديقة" لسارة عابدين ومروة أبو ضيف.. هل أنت مع فكرة الكتابة المشتركة؟

- المجموعة التي نشرتها عام 1967 مع أحمد هاشم الشريف كانت تضم قصصا لي وأخرى له، أي أنها كانت كتابا مشتركا يضم أعمالا منفصلة لكاتبين منفصلين، وليس تأليفا مشتركا. أيضا كتاب سارة عابدين ومروة أبو ضيف هو رسائل متبادلة يدخل في باب النصوص الأدبية، لكن لا يدخل في باب الأشكال الأدبية، فهو ليس قصة، ولا رواية، لكنه رسائل تمت صياغتها بأسلوب أدبي. أما فكرة الكتابة المشتركة بشكل عام، فإنها قد حدثت في تاريخ الكتابة الأدبية مرات قليلة جدا، ولم تسفر عن الكثير في تلك المرات. وفي اعتقادي أن الأدب هو التقاء ذات محددة هي ذات الكاتب بالعالم الموضوعي، ولهذا يظل في الأدب عنصر ذاتي وشخصي لا يمكن اقتسامه مع آخرين. لهذا لا أفهم كيف يمكن الحديث عن كتابة مشتركة؟ إنها في اعتقادي أمر مستحيل استحالة التنفس المشترك! 

(*) تعمل بالصحافة والترجمة وتكتب أدبًا.. هل الصحافة هي المهنة الأنسب للكاتب؟

- الصحافة ليست المهنة الأنسب للكاتب. المهنة الأنسب للكاتب هي الكتابة الأدبية، لكن ما دام هذا مستحيلا في ظل ضرورات الحصول على مستلزمات الحياة، فإن الصحافة تبقى المهنة الأقرب لمجال الكتابة، لكن الأنسب أن يتفرغ للعمل الأدبي.

(*) في تقديرك: هل السياسة هي من تدير الثقافة أم العكس؟

- هناك علاقة تفاعل بين السياسة والثقافة. السياسة تسعى لتوجيه الثقافة ولخلق ثقافة تعبر عنها وللتحكم في الثقافة، وعلى الجانب الآخر تظهر دائما ثقافة مضادة، تجبر الدولة أو النظام على المدى البعيد على بعض التنازلات. هي عملية تفاعل مشتركة، وشد وجذب.

(*) هل الدولة تعادي الثقافة والمثقفين أم أن المثقفين، في الغالب، هم الخانعون، المتواطئون، اليائسون والمستسلمون على نحو لا تجد معه الأنظمة الحاكمة صعوبة تذكر في تجريف الوسط الثقافي؟

- الدولة تعادي المثقفين إلى أقصى درجة، لأنها تعلم أنه حيثما كانت الكتب والأقلام برزت الأحلام بواقع جديد أفضل، وتعمل الدولة على اعتقال أي مثقف شريف، أو تشريده، وعندما تكون الدولة ديمقراطية فإنها تكتفي بتجاهل ذلك المثقف تماما، كأنما لا وجود له، والمثقفون الحقيقيون حلم بالتغيير، والدولة حلم بالاستقرار، والصراع بينهما محتوم. من ناحية أخرى فإن المثقفين في الغالب الأعم غير قادرين على إظهار المقاومة الكافية لتجريف القيم الثقافية، لأن عملهم الكلمة والتعبير وليس الصراع بكل ما قد ينجم عنه من عواقب وخيمة.  

(*) ماذا تكتب الآن؟

- أنهيت مجموعة قصصية باسم "ورد الجليد" وأنتظر صدورها، وحاليا مشغول بالعمل في كتاب حول ملاحظاتي على كتابة القصة القصيرة، لأن هناك عددا كبيرا من الشباب من كتاب القصة لديهم الكثير من الأسئلة في هذا المجال.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.