}

التشكيلي المغربي إبراهيم بولمينات: الفنان الحقيقي يعانق رحابة الكوني

أشرف الحساني 8 ديسمبر 2018

 يعتبر الفنان التشكيلي المغربي المقيم ببلجيكا إبراهيم بولمينات أحد الأسماء المهمة والمتفردة في سماء الفن العربي اليوم، الذين جعلوا من الفن المعاصر سندا فنيا وفلسفيا عن طريق الموضوعات والسندات فاتحين للفن العربي تخوما جمالية غير مفكر فيها. لذا فتجربة إبراهيم بولمينات تجربة مهمة اليوم داخل كارتوغرافية الفن العربي المعاصر، لا أحد يستطيع أن ينكر غنائيته وطرائق تشكيله للمادة، وهو يمزجها بأشكال وحشية متموجة ومتماهية إلى حد كبير مع المسند. وقد أقام بولمينات العديد من المعارض الفنية المتميزة بدول عربية وعالمية مختلفة تبوأ من خلالها مكانة رصينة داخل أقرانه من الفنانين المغاربة ممن وجدوا إمكانات هائلة في الضفة الأخرى، سواء في أميركا أو ألمانيا أو فرنسا أو السويد وغيرها من الدول، التي استقبلت الفنانين والأدباء العرب منذ شمس الربيع العربي إلى اليوم.

هنا حوار معه:

علاقتي بالفن وجودية

(*) سؤال البدايات، هو سؤال لا يخلو من الفتنة المدفوعة بهاجس معرفي. ماذا يمكن أن تقول لنا عن بداياتك أستاذ إبراهيم بولمينات؟

- حصولي على شهادة الباكالوريا شعبة آداب عصرية بمدينة الدار البيضاء حدث في فترة كان جلّ الشباب المجايلين لي تتملكهم رغبة الهجرة إلى خارج الوطن من أجل التخصص في المجال الفني، نظرا لضعف أو الغياب التام للمدارس والأكاديميات الفنية التي تعنى بالتدريس الفني نظريا وتطبيقيا وبيداغوجيا، وقد امتد الأمر الى حدود اليوم، إذ إن المغرب لا يتوفر على كليات الفن، التي تتماشى مع تطلعات الشباب في الزمن المعاصر وما يفرضه من متغيرات وتطورات تواصلية حديثة. لذلك اخترت بروكسيل كوجهة وعزلة فنية تساعدني على تحقيق حلمي الفني كشاب آنذاك يطمح إلى تغيير نفسه ووضعيته الاجتماعية. وفي هجرتي هذه استفدت من الكثير من التكوينات الفنية رفقة أساتذة متخصصين في الفن، الشيء الذي نفتقده كثيرا في المغرب نتيجة غياب مؤسسات متخصصة في ميادين تتعلق بالشأن الفني وفي مجالات مختلفة من صباغة وغرافيك وديكور. والحقيقة أنه من خلال هذه التكوينات بدأت معالم تجربتي الفنية تتضح شيئا فشيئا. استطعت أن أطور نفسي على مدى 20 سنة بفضل المزج بين هذه التكوينات المختلفة والغنية، التي تمكن الفنان من اكتساب تجربة فنية مغايرة ومتفردة لا نرى فيها أي صدى لتجارب أخرى، لأنها لا تؤمن إلا بالمختلف والمزج بين جميع هذه التقنيات الممكنة، التي تشكل في نظري مستقبل التشكيل فاتحة له آفاقا متميزة وتخوما غير مستكشفة بعد. وتكمن علاقتي بالفن في كونها علاقة وجودية، أي أنها عملية تختزل مساري الفني والجمالي لكوني أقضي معظم أوقاتي في البحث والتجريب عن أساليب وتقنيات جديدة تمنحني إمكانية الغوص في المادة والبحث عن طرائق مغايرة تخدم مفهومي للفن.

(*) هنالك اشتغال كثيف على المادة واللون في أعمالك، التي تمزجها بتصور وحشي وحيواني غرائبي، كيف يتعامل الفنان إبراهيم بولمينات مع المادة؟ وكيف يتصور فلسفتها في أعماله الفنية مقارنة مع العناصر الأخرى المشكلة للعمل الفني كاللون مثلا؟

- نظرا لتكويني الأول المتعلق بالغرافيك والسيريغرافي الذي منحني تجربة مهمة من حيث فهم ألغاز ورموز وميكانزمات العمل الفني استطعت أن أنتقل إلى عالم الصباغة بحمولات تقنية أتاحت لي إمكانية البحث في المادة والغوص في عالم الصباغة وقواعدها بطريقة مختلفة تتماشى مع رؤيتي الشخصية للفن الهادف. آنذاك تشكلت لي فكرة أن الصباغة لا تمثل ذاتها إلا بالألوان والمواد الكفيلة للتعبير عن الموضوع المطروق. فكل تقنية لها مسارب وحدود في آن واحد. كما أن للألوان دلالات متعددة أكاديمية يجب احترامها والسعي لاستعمالها في مجالاتها الخاصة بها كما هو الشأن للمادة، إذ إن استخدامها ليس رهينا بالضرورة بالموضوع المقصود، ولكن كإمكانية لفتح مواطن اشتغال أخرى. فاستعمالي للنار أو الماء مثلا، قد لا يعني التطهير أو المحو بالضرورة. فإذا كنا ندعي أننا نمارس الصباغة فيجب استعمالها كركيزة أساسية في تشكيل العمل، لأنها ببساطة تمثل جوهر العمل الفني.

في رأيي الشخصي واستنادا لتجربتي أؤكد أن مستقبل التشكيل أساسا في اكتساب ما أمكن من techniques mixtes فقيمة التقنيات كقيمة رصيد الكلمات والمفردات للنص بشتى أنواعه (رواية كان أم شعرا)، زيادة على نمط استعمالها في اللحظة المناسبة والمحيط المتناسق والمنسجم معها. فالفن "الراقي" لا يكون راقيا إن لم يخرج من الأحشاء ومن أعماق الفكر. فاللوحة أو العمل الفني الحقيقي هو من ينجح في القدرة على ازدواجية الفكرة والتقنية المصاحبة له في آن واحد (مثال: لا يكفي أن تكون شخصا مثقفا لتصبح رساما متفردا). لذلك فالسؤال الذي يتوجب طرحه في كل عمل هو: ماذا أضفت من جديد وما هي بصمتك الشخصية في الموضوع واللوحة؟

 كما أن الوجوه التي اشتغلت عليها مؤخرا كانت وليدة مراحل سابقة أسست لوجودها تطورات بحثت فيها عن كينونة الإنسان المعقدة والمركبة، تلخص فلسفة الوجود البشري في كونها فلسفة تقوم على الصراع بين قوى الخير وقوى الشر (زردشت). فتجربتي الفنية تقوم على فكرة مفادها تبسيط الأشياء والرموز لا استسهالها ولكن للوصول إلى المعاني الحقيقية لها. فبيكاسو مثلا، لم تتغير فكرته للفن إلا حين التقى بالفن الأفريقي فعمل على تجديد مشروعه الفني من خلال الإقامة بثورات فنية تخص الأشكال والمواضيع المصاحبة لها. ولا يتوقف الأمر عند بيكاسو فقط، بل حتى يشمل نحاتًا من حجم برانكوسي، الذي دفع بمفهوم النحت إلى اتجاهات لم يدرك معاصروه قيمتها الفنية والفلسفية إلا بعد مرور سنوات طويلة. وهو يقول "البساطة ليست هدفا في الفن، لكننا نصل إليها بالرغم منا وبالاقتراب من المعاني الحقيقية للأشياء".

محاولة استكناه جوهر

العالم من جوانبه البشعة

(*) تعتبر البشاعة والقبح إحدى السمات المميزة لتجربة الفن المعاصر وليس لإبراهيم بولمينات فقط، وقد عملت تجارب عربية كبيرة على فتح مسارب فنية جديد في هذا الشأن وأحيل هنا على تجربتي كل من العراقي سيروان باران والمغربي يوسف الكهفعي وغيرهما من التجارب العربية، التي جعلت من مفهوم القبيح مفهوما جماليا خالصا.. ما الذي تعنيه هذه البشاعة لإبراهيم بولمينات؟

- ليس الاشتغال على البشاعة والقبح وليد اليوم أو الأمس، بل هو وليد أجيال سبقت لتعكس صورة الإنسان في لحظات الألم والعنف الذي مورس عليه، والذي يمثل جوهر الحياة في بعدها الأنطولوجي. كما أن ظهور مفهوم القبيح في التشكيل العالمي يعود أصلا إلى كتابات الشاعر الفرنسي شارل بودلير، والذي سيقوم بالتنظير لمراحل تطوره، أحد طلبة هيغل النجباء وهو الفيلسوف الألماني Karl Rosenkranz مانحا فضاء رحبا وخصبا للغوص في عوالمه ممثلا بذلك ثورة حقيقية في الجماليات ثائرا بذلك على قواعد الفن الكلاسيكي، التي كان قد وضع أسسها كانط وهيغل. كما أن استخدام البشاعة في أعمالي، يشكل دعوة صريحة إلى إعادة التفكير في موضوعات جديدة أكثر معاصرة، بل يمكن أن أقول إنها دعوة ومحاولة لاستكناه جوهر وماهية العالم من جوانبه البشعة.

(*) هل أنت راض على ما يكتبه النقاد العرب حول أعمالك الفنية؟ ثم كيف تتأمل تجربة "النقد الفني العربي" اليوم مقارنة مع الناقد الغربي؟

- حقيقة لم أر ناقدًا كتب عن أعمالي بسوء، وهذا مرده إلى الاستحسان الذي لقيته أعمالي لدى هؤلاء النقاد، لكوني قمت بفك بعض من شفرات عملي الملغزة بغية تحقيق تواصل واضح ما أمكن. والحقيقة أنه لا يمكن مقارنة النقد العربي مع النقد الغربي، لكون هذا الأخير له تاريخ فني كبير يمتد إلى عصور سحيقة أتاحت له إمكانية خلق أرضية حقيقية لمزاولة الفنون وتداولها بين مختلف شرائح المجتمع بعد أن كانت حكرا على فئة معينة وهي الطبقة البرجوازية. كما أن ضعف النقد الفني بعالمنا العربي يعود بالأساس إلى غياب تكوينات ومعاهد وكليات الفنون الخاصة به. لكن مع ذلك برزت تجارب نقدية شابة تعمل على تحرير النقد الفني من المركزية الغربية التي بزغ فيها، ومحاولة تبيئته مع خصوصيات عربية تتماشى مع المتغيرات التكنولوجية والجمالية، التي طاولت الساحة الفنية العربية في السنوات الأخيرة.

(*) المتأمل جيدا في أعمالك سيلحظ أنها لا تتماشى أبدا مع ما يشتغل عليه فنانون عرب كثر، وهي تجربة تروم إلى الانخراط في العالمية نظريا وممارسة، إذ إن أعمالك تنضح بقوة بالتأثير بالفن الغربي، لكنك أضفت إليها أشياء كثيرة تخصك. كيف في نظرك يستطيع الفنان العربي أن ينتقل إلى العالمية، خصوصا الفنان المغربي؟

- هذا ببساطة لأني لا أؤمن بمنطق الهوياتي في الفن. فالفنان الحقيقي هو من يعانق رحابة الكوني ويتحرر من ضيق الهوياتي. حين أشتغل لا أضع حدودا أو سياجات في كوني فنانا عربيا، لأنه في الفن دائما ما تختفي الحواجز وتنتفي الحدود والانتماء السياسي أو العقائدي، الذي قد يعرقل مسيرة الإبداع الحقيقي، فيصبح العمل الفني هو المعيار الأساس. فأن تعرض أعمالك في باريس أو موسكو لا يعني أنك منخرط في العالمية، بل لأن طبيعة عملك وما تشي به من خصوصيات فنية وجمالية متفردة، فضلا عن تلقيه من الجمهور، هي التي تمنحه وتسمه في كونه عالميا أو لا. لكن في السنوات الأخيرة برز عدد هائل من المعارض والإقامات الفنية، الأمر الذي يدفعنا لأن نكون متفائلين من جهة ومتخوفين من جهة أخرى، سيما في ما يخص المستوى الفني والإستيطيقي المقترح في غياب تام لنقد بناء ومحايد يتبع هذه المعارض عن قرب ويسلط الضوء على العمل الذي يستحق المتابعة والتشجيع. وهذا يعكس أيضا مباشرة مكانة الناقد في المجتمع الذي لا يعتمد إلا على نفسه ومجهوداته الشخصية للتكوين الذي تتطلبه مسايرة الساحة الفنية العالمية بما أننا نعطي لهذه التظاهرات والشعارات صبغة العالمية أيضا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.