}

محمد ساري:مجتمعنا لا يقبل كتابات موغلة في الحميميات

حميد عبد القادر 24 يناير 2018
حوارات محمد ساري:مجتمعنا لا يقبل كتابات موغلة في الحميميات
محمد ساري

يرى الروائي الجزائري محمد ساري أن الكاتب ليس مستعداً لقول كل الحقائق التي عاشها أو حلم بها أو يرغب في عيشها، معتبراً أن مثل هذه الروايات الذاتية تحتاج إلى جرأة من المؤلف، ورحابة صدر القراء لتلقي مثل هذه الكتابات التي تخترق المألوف.

هنا حوار معه:

هويتي الأولى أمازيغية

(*) عاد الحديث هذه الأيام، وبشكل يكون متشنجاً كما العادة، بين رافض ومرحب حيال المعطى الأمازيعي كجزء مهم في الهوية الوطنية الجزائرية، كيف تعاملت روائياً مع هذه المسألة؟

- هويتي الأولى أمازيغية، بحكم أنني مولود في منطقة ناطقة بالقبائلية، وهي منطقة جبل شَنْوَة وغرب ولاية تيبازة، من شرشال إلى بني حوّة في ولاية الشلف، ولم أتعلّم العربية إلا في المدرسة جنباً إلى جنب مع الفرنسية. ولم أشعر يوماً بانفصام في شخصيتي، بل كانت العربية امتداداً غنياً في عمق الحضارة العربية الإسلامية، والفرنسية جسراً رحباً نحو الثقافة الغربية بما تحمله من اكتشافات معاصرة، بدون أن أتخلى عن هويتي الأمازيغية أو أشعر بأنّ العربية أو الفرنسية تشكلان خطراً عليها. الصراع القائم هذه الأيام أيديولوجي سياسي يخضع لصراعات آنية تحرّكها تيارات متطرّفة. كانت أحداث روايتي الأولى "على جبال الظهرة" تدور في منطقة جبلية ناطقة بالقبائلية وبها مثلاً ظاهرة التويزة المستخدمة في حصاد القمح والشعير، ترافقها أغنيات بلحن "ديْنَنان" المنتشر في هذا الإقليم القبائلي. كتبت الرواية باللغتين، الجزء الأول بالفرنسية ثم ترجمته إلى العربية، والثاني بالعربية مباشرة، وأتذكّر أنّني كنت أتخيّل الشخصيات وهي تتكلّم بالقبائلية، ثم أترجمها إلى العربية أو الفرنسية. لا أعرف إنْ كانت هذه الترجمة الفورية تركت آثاراً لنظام اللغة القبائلية في النظامين العربي والفرنسي. المؤكّد أنّ أوصاف المنازل والمناظر والألبسة ونمط الحياة توحي بأنّ المنطقة أمازيغية. كنت دوماً أتنقل بين هذه اللغات الثلاث بأريحية كبيرة، أقرأ وأكتب بالعربية والفرنسية، وأعود إلى الأجواء الأمازيغية كل صائفة، حيث أزور أهلي، أحضر الأعراس والمأتم، وأتحدّث غالباً بالقبائلية، وأستمع أكثر مما أتحدّث. في السنة الماضية، كتبت سيرة طفولتي (وهي تحت الطبع عند ناشر)، في السنوات الأخيرة لحرب التحرير، فاسترشدت بحكايات أمّي وأبي وعدد من أفراد الأسرة والمنطقة، فخاطبني الكبار بالقبائلية، فعدت إلى عملية الترجمة من جديد لتدوين قصصهم. أترى أنّ الأمازيغية (القبائلية) تبقى رافداً أساسياً في ثقافتي وكتابتي الأدبية.

(*) أنت من الروائيين الجزائريين القلائل الذين يزاوجون بين الكتابة بالعربية والكتابة بالفرنسية، كيف تعيش هذه المزاوجة، وهل الفضاء الأدبي الجزائري محكوم بهذه الثنائية؟

- إن ظروف جيلي من الذين دخلوا المدرسة مباشرة بعد الاستقلال ودرسوا سنوات تعليمهم الابتدائية والثانوية بالفرنسية قبل أن يشملهم التعريب في منتصف السبعينيات، محكوم عليهم بهذه الازدواجية في القراءة والكتابة معاً. إن العربية تبقينا لاصقين بجذور الأدب العربي الذي ننهل منه أروع النصوص قديماً وحديثاً، بينما تفتح لنا الفرنسية آفاق الآداب العالمية، لأنني مثلاً أقرأ بالفرنسية لكتاب غير فرنسيين مترجمين إلى الفرنسية أكثر مما أقرأ للكتاب الفرنسيين والفرانكوفونيين، باستثناء الجزائريين الذين أصرّ على قراءة كل ما يكتبونه تقريباً، لأسباب عاطفية وفضولية أكثر منها أدبية. بدأت الكتابة بالفرنسية، ونشرت أشعاراً وأنا بالثانوية، ثم تعرّبت وكتبت بالعربية، وعدت بعد سنوات إلى الفرنسية. في منتصف التسعينيات حينما كانت الجزائر تشتعل بنار الإرهاب، كتبت رواية "الورم" وعرضتها على دور نشر جزائرية وعربية ورفضت نشرها بسبب حساسية الموضوع. وكانت في تلك الفترة دور نشر فرنسية تتهافت على نشر روايات حول الإرهاب، فأعدت كتابتها بالفرنسية وغيرت لها العنوان إلى "المتاهة"، ونشرت في عام 2000، قبل النسخة العربية التي لم ترَ النور إلا في عام 2002. وقد حققت لي رواجاً لم أعرفه من قبل، واشتركت في دعوة فرنسية زرت من خلالها مجموعة من المدن للقاء القراء والبيع بالتوقيع. بينما لم تعرف العربية نفس الرواج. مثلاً بيعت الطبعة الأولى بالفرنسية وأعيد طبعها في الجزائر ونفدت في أقل من عام. بينما بقيت الطبعة العربية في المكتبات لسنوات طويلة قبل أن تباع كلياً. وهذا واقع مرير لكتاب العربية في الجزائر، إلى حدّ أنك لا تجد الآن ناشراً يتحمس لنشر روايات بالعربية، ولجأت بعض دور نشر جديدة إلى طلب مساهمة مالية من المؤلف، وأمام رغبة النشر، لجأ كثير منهم إلى هذه الطريقة لإخراج نصوصهم من الأدراج والنسيان. لا أعرف إن كانت هذه الثنائية في الكتابة هي الطريق الصحيح بالنسبة لي. أحياناً أفكّر في وضع حدّ لها، باختيار لغة كتابة واحدة، لتكن العربية. ولكن بعد نيل روايتي بالفرنسية "أمطار من تبر" Pluies d’or جائزة "الإسكال" الأدبية في عام 2016، كبرت شهيتي إلى الكتابة بالفرنسية وأتممت سيرة طفولتي الأولى وأنتظر صدورها. ولكنني الآن أكتب رواية بالعربية، وإنني في فصولها الأخيرة. أترى أنني لم أخرج بعد من عنق الزجاجة.

ظاهرة المثقف المفرنس

(*) لكن ألا ترى أن المثقف المفرنس يصر على رفض التخلي عن تعاليه واعتقاد تفوقه على المثقف المعرب، الأمر الذي يرهن جسور التواصل بينهما؟

- للأسف إنّها ظاهرة متفشية، خاصة لدى المبدعين الذين نشروا واشتهروا بفرنسا أمثال صنصال وكمال داود، وهم ينساقون خلف وسائل الإعلام التي توجه أسئلتها باتجاه قضايا الهوية واللغة والإسلام أكثر من الحديث عن الأدب وقضاياه. إن ثمن الشهرة في فرنسا بالنسبة للجزائريين يتمثل في القدح في بلدهم ولغتهم ودينهم، إنه عربون الانتماء إلى الفرانكوفونية التي لا ترى من لغة إلا الفرنسية. لهذا انتفضت في عام 2007 مجموعة من الكتاب، أمثال أمين معلوف والطاهر بن جلون، رافضين لفظة الأدب الفرانكوفوني واقترحوا "أدب - العالم" بالفرنسية. فلا نلحظ هذا التعالي مثلاً عند الكتاب المفرنسين الذين ينشرون في الجزائر، ولا عند المثقفين الآخرين من غير الأدباء، من التخصصات الأخرى في الفلسفة وعلم الاجتماع والفنون الأخرى الذين يتفهمون أكثر الوضع اللغوي المعقد للجزائر. وهي فعلاً ظاهرة تعيق التواصل بين المعربين والمفرنسين عموماً.

(*) تعيش ثنائية أخرى هي ثنائية الروائي والناقد في الوقت ذاته، كيف توفق بينهما؟

- هذه ثنائية تتكامل وكثير من الأدباء كتبوا نقداً وقدموا قراءات لأعمال غيرهم بكثير من الموضوعية مثلما فعل فارغاس يوسا في كتابه: "الحقيقة عن طريق الكذب"، حيث قدّم قراءات وتحليلاً لأهم روايات القرن العشرين، أو هنري ميلر في كتابه "الكتب في حياتي". أرى أن النقد الأدبي ونظرية الأدب ضروريان للمبدع، يساعدانه على إدراك أوسع وأعمق لعملية الإبداع. ولكن الشيء المعيق حينما يبحث المبدع عن تقنيات الكتابة في كتب النقد الأدبي ويتصورها مكتملة نهائية، فهذا يعيق من حريته، ويكبح خياله ويحدّ من إمكانية التجريب والمغامرة في العملية الإبداعية.

أظن أنني لو لم أمتهن الأستاذية في الجامعة لما كتبت النقد الأدبي. إن مهنة أستاذ الأدب في تخصصاته الكثيرة والمشاركة في ملتقيات أدبية هي التي جرّتني من دراستي في الليسانس إلى كتابة المقالات النقدية والدراسات الأكاديمية. ذلك أنني بدأت مبدعاً، بكتابة الشعر ثم الرواية، حتى قبل دخول الجامعة وأنا في القسم الرياضي بالثانوية. ولكن هذه التجربة لها وجهان، الإيجابي منه يتمثل في المعلومات الغنية التي اكتسبتها، والجانب السلبي هو أنّ الكتابات النقدية حينما تتعلق بقراءات روائية مثلاً تخلق لك عداوة وخصومات مع الكتاب حينما تقدّم انتقادات وتتحدث عما تراه أنت عيوباً في العمل الأدبي. وأول خصومة حدثت لي مع الطاهر وطار حينما تناولت روايته "العشق والموت في الزمن الحراشي" بالنقد. وأخرى مع إسماعيل غموقات وآخرها مع رشيد بوجدرة. ولا أحدثك عن آخرين أقل شهرة، بعضهم قاطعني لسنوات. الكاتب المبدع يحب الإطراء والمدح، ويمقت النقد والقدح في أعماله. إنها نرجسية تاريخية تطبع نفسية المبدعين عموماً. لهذه الأسباب وأخرى توقفت عن كتابة النقد إلا في حالات نادرة. 

(*) لا تزال ثيمة "العشرية السوداء" تسيطر على عوالم أعمالك الروائية، حيث نجدها حاضرة بقوة في روايتك الأخيرة "القلاع المتآكلة". لماذا تمارس هذه الثيمة كل هذا الحضور؟

- أعتقد صادقاً أنّ ما عاشته الجزائر في هذه العشرية من مجازر واغتيالات ارتكبت في حق الجزائريين باسم الإسلام لا يمكن وضعه جانباً كما لو أن لا شيء حدث. عاشت الجزائر وضعاً سياسياً صعباً ابتداءً من مظاهرات أكتوبر 1988، وتجربة التعدد السياسي التي سمحت بظهور أحزاب سياسية متطرفة مارست الديمقراطية لوَأدها، وكيف تشكلت جماعات مسلحة نشرت الرعب والدمار باسم الدين والخلافة الإسلامية، وانتشار العمليات الإرهابية واغتيال المثقفين والصحافيين والناس البسطاء الأبرياء وسبي النساء، فكيف لا نتحدث عن هذه الجرائم البشعة التي تذكرنا بالعهود الهمجية البائدة. حاولت في روايتي "الورم" طرح أسئلة حول هذه الظاهرة عبر حكاية وشخصيات مفردة وأعطيت المجال واسعاً لكل شخصية مهما كان انتماؤها لأن تبرر موقفها، فكرياً ونفسياص. وعدت إلى الموضوع في رواية "القلاع المتآكلة" لرصد الأصول الاقتصادية والسياسية وحتى النفسية والفكرية التي ساهمت في انتشار هذا العنف. إن الشعوب تمر بمراحل شاقة، ينبغي دراستها والحديث عنها لاستخلاص الدروس، مثلما حدث مع الحرب العالمية الثانية مع النازية وأحزاب اليمين المتطرف، وإلى يومنا هذا ما زلنا نقرأ روايات وكتباً تاريخية وفكرية عن تلك السنوات المرعبة. بل هناك كاتب فرنسي هو باتريك موديانو الذي نال جائزة نوبل منذ عامين بنى مجده الأدبي على التأريخ لبشاعة هذه الحرب التي دمرت أوروبا. إذًا أظن أنّ من واجب الكتاب الجزائريين أن يعودوا إلى تلك العشرية السوداء ويرووا أحداثها كي تبقى راسخة في أذهان الأجيال، ولا تقع الجزائر، ومعها البلدان العربية والإسلامية، في مثل ذلك المأزق مستقبلاً. 

الرواية ديوان

المجتمعات الحديثة

(*) لماذا لا نجد النرجسية التي طغت على الرواية الجزائرية خلال السنوات الأخيرة، بل نجد نزعة واقعية في أعمالك؟

- قد نكتب رواية واحدة عن حياتنا الخاصة، ولكن لا يمكن بناء روايات عديدة عن نرجسية الكاتب. لا أظن حياتي بالثراء الذي يمكنها إلهام موهبتي لكتابة نصوص كثيرة. ربما يرجع هذا أيضا إلى تكويني في سوسيولوجيا الأدب الذي لا يرى الإبداع إلا متجاوزاً الذاتية وإن كانت متضمنة دوماً داخل العمل الأدبي. فلقد تكونت عبر الرواية الواقعية للقرن التاسع عشر مع بلزاك وزولا وتولستوي وشارلز ديكنز، وكذلك عبر الرواية العربية للخمسينيات والستينيات مع نجيب محفوظ في شقه الواقعي وحنا مينه وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن منيف، وتشكّلت عندي قناعة أن الرواية هي ديوان المجتمعات الحديثة، كما كان الشعر ديوان العرب قديماً. لذا تجدني أتتبع خلجات المجتمع ونموه الاجتماعي وتغيراته على مستوى الأفراد والجماعات وأستمع إلى حكايات الناس وخيباتهم وأحلامهم. ولكنني كتبت قصصاً ذاتية عن طفولتي ورحلاتي ونشرتها في "حكاية أسفار"، 2016. كذلك كتبت سيرة طفولتي الأولى في السنوات الأخيرة لحرب التحرير وهي قيد الطبع. 

(*) لكن الرواية حالياً أصبحت رواية "السيرة الذاتية"... لماذا ابتعدت عن هذا الطرح؟ 

- هل يمكن للروائي العربي أن يعرض سيرته الذاتية بكل أسرارها أمام القارئ مثلما فعل مثلاً فيليب روث في "عقدة بورتنوي؟"، المجتمع العربي والقارئ لا يقبلان كثيراً من الحميميات التي يمكن للكاتب أن يسردها عن نفسه. لهذا تأتي السيَر باهتة ولا تغوص في النفس المتقلبة الآثمة الراغبة في اختراق التابوات مثلاً، مثلما فعل سهيل إدريس في مذكراته حينما تحدث عن أبيه وعلاقاته الشاذة مع الأطفال. إنها فعلاً جرأة وخروج عن المألوف في الكتابات الأدبية. وهناك ذاتية أخرى، وهي الذاتية الخيالية auto-fiction وهي الطريقة التي ابتدعها بول أوستير وفيليب روث من أميركا، حيث يتخيل الروائيون حكايات ويدخلون ذواتهم ككتاب كما لو أنهم عاشوا فعلاً تلك الأحداث. إنها طريقة انتشرت، وهي لعبة ذكية مع القارئ الذي قد يصدّق فعلاً بأن ما يرويه الكاتب هي حقائق وليس خيالاً. إلى أي مدى استطاعت هذه الطريقة خلق نوع روائي متميّز؟ رأيي أن المجتمع العربي عموما لا يقبل الكتابات الذاتية الموغلة في حميميات جنسية، والكاتب ليس مستعداً لقول كل الحقائق التي عاشها أو حلم بها أو يرغب في عيشها. إن مثل هذه الروايات الذاتية تحتاج إلى جرأة من المؤلف، ورحابة صدر القراء لتلقي مثل هذه الكتابات التي تخترق المألوف.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.