}

هاتف جنابي: الكتابة ملاكمة في حلبة مجهولة

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 12 يونيو 2017

 

يتّسم الحوار مع الشاعر والمترجم العراقي هاتف جنابي بنوع من التعدديَّة، وذلك على خلفيَّة التعدّد في شخصيته، لذا يصعب الوقوف عند نقطة معيَّنة دون فحصها وشرحها، أو التنقل بين أجناس الكتابة والدراسات العميقة في الأدب.

ومن خلال ما كتبه الشاعر طوال مسيرته يُنظر إليه على أنّه شاعر ذو نبرة خاصة ومُتفردة، يكتب –إلى جانب اللغة العربيَّة- باللغة البولنديَّة، ويعتبر حالياً من أهمّ مترجمي الأدب البولندي إلى اللغة العربيَّة وأحد ممثلي الثقافة العربيَّة في البلدان الأوروبيَّة.

في هذا الحوار مع هاتف جنابي، ثمّة نقاط عدّة رئيسة يكثر فيها الحديث حول راهن الثقافة العربية، كما أنّ للشعر وإشكاليته، والمكان وعلاقته بالكتابة والحروب ومآلات الشعر واضطراباته أكثر من وقفة:

 

دور النشر العربيّة غير محترفة

* نبدأ من عملك الشِعري الأخير "وليمة الأسماك"، والذي صدر مؤخراً في بغداد؛ برأيك ما السبب الرئيس لعزوف معظم دور النشر العربيّة عن طباعة الأعمال الشِعرية؟

الشعر في كل البلدان لا يدرّ ربحا إلا من خلال الأسماء المعروفة جداً، ناهيك عن كثرة دعاة الشعر. من خلال متابعاتي لاحظتُ أن قسما من دور النشر العالمية المحترفة تعمل ليس على نشر الشعر والرواية والدراسات والترجمات وحسب، إنما على "صناعة" المؤلف المقروء أيضا. طبعا بعد توفر شروط الموهبة وطزاجة وحرفية ما هو مكتوب، بعدها يأتي دور الناشر والمؤسسات الثقافية في الرعاية والتشجيع. تقوم كذلك صناديق دعم الثقافة والفنون والفكر بترويج المبدعين وأعمالهم. لا توجد دار تحترم نفسها في العالم تهتم بالأدب والإنسانيات بدون أن تفرد للشعر حيزا في برنامجها السنوي. مثلا، دار (Buchet Chastel) الباريسية، كانت تنشر سلسلة شعرية/ لأربعة شعراء سنويا/. كنت في عام 2007 أحدهم، أعطوني 45 نسخة وخصما محترما في حالة شراء نسخ إضافية وألف يورو مكافأة بعد اعتذارهم!!

دور النشر العربية في جلّها غير محترفة، تفتقد إلى دور الاستشاري للنظر في أهمية الأعمال الأدبية، سواء أكانتْ شعرية أم من حقول أخرى. النشر رسالةٌ وفلسفة وحرفة. الناشر العربي غير دقيق عموما، يبتغي الكسب السريع، أصيب بعدوى الرواية والعناوين المثيرة، وأيضا بالإخوانيات القاتلة للإبداع المسممة للوسط الثقافي. نعم، الرواية والسيرة وكتب الحب والسياسة والمطبوعات الدينية قدحا أو ذما، لها سوق أوسع في المنطقة العربية من الشعر، لكن يبقى الشعر فنا راقيا، وطبيعته وخصوصيته تتطلبان تلقيا مختلفا إلى حد ما عن النثر، وهذا يعني في أحد أوجهه محدودية نشره وتوزيعه، وهذه حقيقة. هكذا هو الشعر شأنه شأن الموسيقى واللوحة الجادة، والإنتاج الفكري الرصين. هناك مهن نادرة لكنها مهمة في حياة الناس. الشعر، رغم كثرة المتطفلين والأدعياء، ما زال ذلك الفن الرفيع- مُغني المخيال، والبراءة، مجدد اللغة وسادنها الأمين. وطالما أن بني البشر لن يتحولوا إلى لغة الإيماءة فهو سيبقى حاضرا وسيجد لنفسه شكل العصر الذي ينخلق فيه ولربما سيبتكر إيماءاته المتفردة.

 

* تمّ اختيارك كأفضل كتاب الإنترنت، يدفعنا الأمر إلى التساؤل، تُرى هل يمكن ضبط الكمّ الهائل الوارد عبر الإنترنت من الكتابات في هذا الوقت الذي يتّسم بالفوضويَّة إلى حدٍّ ما؟

- لم أعلمْ بذلك إلا بعد مضي سنة على أقل تقدير. تبقى الأحكام أيا كانتْ طبيعتها نسبية. يبدو لي أن إمكانية الضبط الصارم غير معقولة، لكن يمكن التوصل إلى حل وسط من خلال تحديد موضوع وميدان ما يُنشر وطبيعته وبلده والفترة التي نشر فيها وأخذ عينة من المواقع وفحصها، إلا أننا في كل الأحوال لا يمكننا بلوغ الهدف المرجو مائة في المائة، بحيث نكون منصفين تماما. بيد أن قضية التشجيع ولفت الانتباه أمرٌ حيوي في وقتٍ يتسم بالتعصب "القبيلي" وبالفوضوية الشاملة، كما لفتّ أنتَ إلى ذلك في سؤالك.

 

فقدان الثقة في الشِعر

*يُلاحظ في الآونة الأخيرة تحوّل العديد من الشعراء إلى كتابة الرواية، كشاعر كيف تنظر إلى هذه الظاهرة؟

- لا غرابة في ممارسة كهذه. هناك كتّاب- شعراء، وشعراء- كتّاب معروفون على الصعيد العالمي. خذْ على سبيل المثال لا الحصر، غُنتر غراس الروائي الشاعر، وتشيسواف ميووش الشاعر الروائي، وزبيغنيف هربرت الشاعر القاص، وريشارد كابوشتشينسكي الكاتب- الشاعر، والشاعر والقاص إيفان بونين، والشاعر والقاص بوريس باسترناك، وت. إس. إليوت الشاعر والكاتب المسرحي، وآخرون كثر. القضية إذا لا تكمن في نوع ما يكتبه الشاعر إنما في مستواه، وهل الغلبة للشعر فيما يكتب أم للنثر؟ علينا الاعتراف بغربلة الزمن والقارئ لما يكتب وينشر وعليه فكل شاعر وكاتب من حقهما أن يكتبا ما شاءا. نظرا للأمية الثقافية التي تعاني منها المنطقة العربية تراهم يستغربون وقد يستهجنون هكذا ممارسة وكأن كتابة لون أدبي هو احتكار لهذا وذاك، متجاهلين بأن هذا أمر طبيعي ومعتاد في آداب الآخرين ممن سبقونا في هذا المضمار. لكنْ، لو نظرنا إلى هذا "التحول" الوارد في السؤال، لألفينا ذلك نابعا من بحث جماعة من الشعراء عن وسائل تعبير أخرى أكثر رحابة من الشعر، أو أن بعضهم أخذ يفقد ثقته في الشعر (شعره) مثلا فيجهد في البقاء على قيد الحياة أدبيا. على أنني أرى تلك المحفزات والدوافع ثانوية أكثر منها مهمة.

 

ثقة القارئ

* هل يحقق الديوان الشعري نسبة مهمة من المقروئية في العالم العربي، أم أن الغلبة للرواية؟

 يبدو أن ناشري الشعر أكثر منا دراية في هذا الموضوع، لأنهم يعرفون كم يبيعون من النسخ من الديوان الفلاني وكم من الرواية أو من المطبوع الفلاني. أعتقد أن القضية متعلقة أيضا بثقة القارئ بهذا الشاعر او ذاك، وبالجو التجهيلي الخانق في البلدان العربية، وكذلك بمكانة دار النشر. كلما ازدادت تلك الثقة صار تسويق الديوان أفضل من سواه. يعمد قسم من الشعراء في الدول الأخرى لإلقاء أشعارهم بأنفسهم أو كأن ينشدها ممثل ما بمصاحبة الموسيقى سعيا منهم لترويج شعرهم. لا يمكن للشعر من حيث البيع والشراء أن يتسابق مع النثر. "نثر الحياة" والقول للشاعر فرلنغيتي، أكثر انتشارا وملامسة للواقع والأحداث وسيولتها وسرديتها من الشعر، الشعر عمل لغوي- روحي- عقلي فيه من قبس المفاجأة والبروق والرعود والبراءة، وهو يحتاج إلى جهد وجو كي يقرأ ويسمع في وقت سطوة التسطيح في مختلف مجالات الحياة الإنسانية. الشعر بسبب طبيعته يحتاج من الجميع: قرّاءً، ناشرين، إعلاميين، ومثقفين وأكاديميين، دعما وتفهما أكثر مما يحتاجه النثر.

 

محبّة الطبيعة والجمال

* ثمّة استعداد روحي في كتابتك كما قيل عنها، ما معنى أن يكون الشاعر مستعدّاً روحيَّاً لتلقّي إملاءات الكتابة من الغيب؟

- لطالما توقفتُ، قراءةً، وتأملا، وسعيا متواصلا لفهم ميلي للجانب الروحاني أكثر من سواه (هذه الروحانية لا علاقة لها بالدين والآيديولوجيا). أن تكون منشغلا في ما هو باطني، لا يعني أن تعطي ظهرك للأحداث، وإلا فسيكون ذلك نوعا من الخيانة، في ضوء نزيف يومي، استقبلته على أنه جرح داخلي ولا بد من البحث عن مواجهته والبحث عن خلاص ما. في خضم تلكم الوقائع العاصفة، كنتُ انشغلتُ لسنوات في قراءة الفلسفة، خاصة المغايرة، مركزا على أرسطو، فالفلسفة العربية-الإسلامية، فالغربية ومن بينها الماركسية، بيد أنني سرعان ما أخذت أبحث عن شيء آخر، بصراحة وجدتُ نفسي أكثر في الحدس، في نتاج المتصوفة والعرفانيين، والكتب المقدسة، وسير المتمردين، والزهاد، والشخصيات ذات الطبيعة الأسطورية، وسِفر الطبيعة المفتوح، والوديان والمرتفعات، والتحديق طويلا في ما هو أبعد من إطار اللوحة: في الجانب الخفي، اللامرئي، المرهون للغيب، والبراءة الأولى، للطبيعة وسحرها، لكل ما له صلة بالفطرة، بالطقس والشعيرة والابتهال. ثمة مضاد حيوي، يتجدد داخلي، للأدلجة المادية أو الروحية (الحزبية والدينية)، سمح لي بالنجاة رغم السير على الحافة، على شفير الهاوية.

ثمة أصوات تناديني من الأعماق منذ نشأتي الأولى قرب النهر، وبعد انتقالي وأنا غرٌّ إلى مدن الطقوس والمتناقضات العراقية. انتقالةٌ جعلتني أتبصرُ في متناقضات الواقع التي دفعت الناس إلى ممارسة حياتين: سرية، وظاهرية. من آثام بعضهم هو النظر إلى الواقع والعالم من منظور واحد، من مستوى واحد.

    هذا الجانب من الاندفاع الروحي، وعدم الخنوع لزيف المظاهر والمادة، أنقذني مرارا من براثن الآيديولوجيا والتعصب الأعمى التي كادت في السبعينيات أن تمسكني بكماشتها الجهنمية. أنا إنسانٌ عاطفي، مهووسٌ بمحبة الطبيعة والجمال والبحث عن تجارب جديدة.

   لا يمكن قراءة ما أكتب وما أقول خارج هذا الاستعداد الروحي، حتى إن مقولة "أؤمن ولا أؤمن في الوقت ذاته" للفيلسوف والمتصوف السويدي (أمانويل سويدنبرغ 1688-1772) في كتابه "يوميات الأحلام"، تكاد تلائمني أحيانا. عمليا، لم أقصد التماهي مع هذا المنحى عن وعي تام، لكنني أشعر أنني غنوصي، قباليٌّ وصوفيٌّ من جهة، وأرضيٌّ من جهة أخرى. على أن ذلك لا يعني أن الغيب يُمْلي عليّ، لكنه يُلْهمني. هناك بونٌ شاسعٌ بين أن تستشرف اللامرئي وبين أن تخضع له. بيد أنّ الشك يأخذ منحى مني، لأن مقولة الشاعر تشيسواف ميووش "وإذا لم تكنْ هناك بطانة" ترنّ في أذنيّ وتقلقني.

  تمَعّنْ مليّا فيما قاله محي الدين بن عربي (1164- 1240) وستُدرك حجمَ ما أعوّلُ عليه، قال: " كُلُّ مواصلةٍ لا تُشْهَدُ في عين البُعْد لا يُعَوَّلُ عليها"، و"الزمان مكانٌ سائل والمكانُ زمانٌ متجمدٌ".

 

نجاح الكاتب باللغة المكتسبة والصراع الداخلي

*الكتابة بلغة مغايرة للغة الأمّ تعتبر إشكاليَّة، وأنت تكتب باللغتين العربيَّة والبولندية وترجمت من وإلى اللغتين، تُرى كيف يمكن شرح هذه الإشكاليَّة؟

- حقاً، هي إشكالية، خاصة للكاتب العربي. بيدَ أنني لستُ الوحيد في هذا المجال. هناك أمثلة متعددة من مختلف الأجناس والثقافات والأعمار، على مَنْ مارسوا ويمارسون الكتابة بلغات مكتسبة. هناك جوزيف كونراد البولندي الأصل، وجوزف برودسكي الروسي الأصل، ونابوكوف، وكونديرا التشيكي الأصل، وأدوارد سعيد الفلسطيني الأصل، والطاهر بن جلون المغربي الأصل، وهشام مطر الليبي الأصل، ورفيق شامي السوري الأصل، وعباس خضر العراقي الأصل، وخالد مطاوع الليبي الأصل، والعبد الضعيف هاتف جنابي الذي يرى أنه امتداد لامرئ القيس وطرفة بن العبد!

على أن نجاح الكاتب الفلاني وهو يكتب بلغة مكتسبة لا يعفيه من الصراع الداخلي الذي يمكن أن يقلقه ويعتريه، ولا يُخلّصه أيضا، من ازدواجية اللغة والحلم، والهوية، وكونه معرضا دائما لغواية ولا عدالة النقد المحلي في تحجيم دوره، من خلال محدودية الترويج لنتاجه، مثلا، وتعرضه لأسئلة استفزازية حتى من قبل زملائه وأصدقائه المكتسبين في الخارج.

فرق كبير في أن تكون سويديا أو إيطاليا يكتب بلغة أجنبية أو عربيا ملاحقا بعواقب إرث وتصرفات العرب والمسلمين الدونية التي تجعلك دائما في دور المدافع عن النفس. الكتابة نوع من الملاكمة في حلبة مجهولة، وما عليك سوى تحمل عواقبها. هذا الضغط النفسي عليّ دفعني في السنوات الأخيرة لتقليل حجم كتاباتي المباشرة باللغة البولندية، رغم الاحترام الملموس الذي تحظى به كتاباتي بهذه اللغة. قبل سنوات صدرتْ لي مجموعة شعرية "مراسيم الأرض والسماء" تضم قصائدي المكتوبة باللغة البولندية، لكن كتابي الذي سيصدر هذه السنة، سيكون باللغتين: البولندية والعربية، والذي يليه سيكون مترجما من العربية!

يبدو لي أحيانا أن الكتابة بلغة أخرى هو بمثابة حراثة وزراعة وحصاد متواصل وأي انفصام لحلقة من تلك الحلقات سيعني إسدال الستارة عليك كما يحدث عادة بعد نهاية العرض المسرحي. معظم الكتاب العرب ممن يكتبون بلغات أخرى وبروحية وعقلية مغايرة للسائد يعانون من تسويق نتاجهم. بعد ذلك، فالبونُ شاسع بين ما تكتبه بلغة مستعمر، يفهم منطقتك الأم وأصولك واعتاد على ذلك الاحتكاك، فيحاول انْ يكسبك إلى لغته ورصيده ثقافيا، بمنحك حيزا ولو محدودا من الاهتمام والأضواء، وبين أن تكتب بلغة كاللغة البولندية التي ستنظر إليك دخيلا. سأعطيك مثالا بسيطا ومؤلما، كان صديقي الشاعر والناثر والمترجم (نيكوس حاجينيكولاو) قد هجرَ بلاده اليونان بعد استيلاء العقداء "السود" على الحكم، وهو ابن الخمسة عشر عاما، كتب كل نتاجه باللغة البولندية وخدم الثقافة البولندية كثيرا في مجاله، لاحظْ، حتى موته كانوا يذكرونه على أنه "نيكوس الإغريقي"! أظنّ، لو كان ربْعُ نتاجي الأدبي والأكاديمي ونشاطي الثقافي والإعلامي باللغة الإنكليزية، مثلا، لكنتُ أحد المعروفين جدا في العالم. أصولنا العربية تكبلنا في الخارج بأصفاد الآخرين وهي تبحث عن مذنبين، وما أكثرهم في أيامنا.

 

الشِعر العربي حافل بالأمكنة

*
الانتقال عبر الأمكنة، هل يؤثّر ذلك في توجّه الشاعر وكيف يمكن ذلك؟ بمعنى أوضح، كيف يؤثِّر المكان في كتابة الشاعر وفهمه لذاته؟

- يستأثر المكانُ في حياتي ونتاجي الأدبي بقسطٍ مهم. فهو الفضاء الحاضر في تشكيل النص، وهو الحيّزُ الذي تحركتُ-أتحرك وتنفستُ فيه وعبره، إنه جغرافيا كائنة داخل النص وخارجه ذات حضور مادي ملموس وروحي، وأيضا ثقافي-ميثولوجي. المكان ذو علاقة بزمنه. المكان حاضر في كل دواويني الشعرية، وفي مخيلتي. أرى وأكتب، أتطلع حولي وفي داخلي وأرسم. الشعرُ العربي حافل بالأمكنة، وتبقى القضية المركزية في كيفية حضوره في العمل الإبداعي. المكان يمكنه أن يظل ساكنا "متجمدا"- حسب تشخيص ابن عربي، ولكنْ بإمكانه أن يجعلك ذا جناحين. هناك أماكن تخنق المرء، والمبدع تُسْكته، أو تُحجّم دوره. على أنني أرى في المكان أحيانا علاقة ضرورية قد تكون حميمية أو ندية، كالعلاقة مع جسد المرأة أو الوردة، أو مع حدث مثير.

لا يمكن تصور أي حدث دون صلته بالمكان، شأنه في ذلك شأن الجنين. علمتني الأماكن وأثّرَتْ فيّ أحيانا لأتفه الأسباب، غير أنني أعاني من مرض عبّرَ عنه (جلال الدين الرومي) بجمالية دراماتيكية مقاربا ما بين اللغة والمكان باعتبارهما صنوين يتبادلان الفعل. لنترك مغزى الانسلاخ عن مناخ الهوية الأولى، ولنركّزْ على الجوهر، قال: "إن رَحَلتَ عنْ مَنْ يتحدث لغتك صرتَ بلا لسان ولو كان لديك ألفُ صوت" (أعتقد أنه من ترجمة طويبي). فأنت إنْ رحلتَ إنما عن مكان تعيش فيه روحا وجسدا فلغة. اللغة ليست وعاء فارغا، بله حركات وأنفاس وبشر وهموم وحضور حضاري- ثقافي وروحي، وطقوس وعادات، وهلمّ جرا. في هذا الإطار، منذ رحيلي الأول منتصف السبعينيات، لم تَعدْ علاقتي بالمكان كالسرة في سطح البطن، طالما أنها محطات، ولذا فحضوره لدي قد يأخذ في بعض الأحيان صفة البعثة الأركولوجية، على أنه في أغلب الأحيان حضور معرفي، إبداعي، فكري، وطبعا حياتي. وعليه تجد المكان في شعري ليس بالضرورة باستحضاره بالاسم، إنما عبر رائحته، ولوحته، وطبيعته، وعمارته، ومقاهيه وحاناته، وأفراد عاشوا فيه أو مازالوا... غالبا ما يكون المكان مرآة الشاعر، أو ظله أو نقاطه الهاربة من حروف أبجديته، أو قناعه، أو وجهه الآخر، لكنه يمكن أن يصيرَ كابوسا ونفقا مظلما وقدرا لا فكاك منه. هذه الأضداد التي تنخلق جراء الاحتكاك المباشر بالمكان- الأمكنة تحفز على الفعل الإبداعي. لاحظْ أن سرفانتس صاحب "دون كيخوت" قد وظف فترة سجنه في الجزائر في نتاجه. السجن مكان أيضا. موضوع المكان في الأدب واسع للغاية. حضوره في الشعر العربي يبدأ فنيا بامريء القيس (وما الطللية في شعر ما قبل الإسلام سوى إحدى صنائع المكان والشاعر). كما لم يكنْ أبو نواس الذي نعرفه بدون بغداد، والأمثلة على أهمية المكان وأثره لا تُحصى.

  يرى نقاد الأدب أن هناك أمكنة سعيدة- محظوظة بعضها من صنع المخيلة، وأخرى كارثية-مأساوية. عادة ما يوظف الفنان المبدع المكان ليجعله يتحرك خارج إطاره، خذْ على سبيل المثال لا الحصر، رواية "أهل دبلن" (الدبلنيون) لجيمس جويس، ورواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، وخذْ، ما دام الحديث معي، قصيدتي المركبة الطويلة "الطريق الملكي" (تشرين الثاني/نوفمبر 2014-نيسان/إبريل 2015). هذا الطريق-مجاز ملوك بولندا سابقا- يخترق جسد وارسو وجرى استحضاره بمثابة كونه موشورا زمكانيا- فنيا. وبما أن "منحوتة المتشائل اللغوية" لأميل حبيبي تُعجبني، تراني لا أثق بالتصنيف المحض للمكان: أسود وأبيض. كنتُ ومازلت أحب الأماكن البريئة المستحضرة عبر الذاكرة والحلم والمخيلة التي لم أحظ بها أو أنني فقدتها، وأغلب ما فقدته من أمكنة يعود إلى فترة الطفولة الحاضرة في نتاجي حضور الشجرة في الغابة. لكنني لا أضخم ثيمة الفقد هذه كما فعل ملتون في "الفردوس المفقود". كل ذلك يدفعني للبحث عنه عبر الإبداع. المكان ببشره، ولكن أيضا باكتفائه بنفسه كما الحجر، والزهرة، والطائر. يبقى المكان ذا أهمية في تشكيل شعرية وهوية وخصوصية الشاعر والكاتب والرسام، ومهما امتدحناه أو قرفنا منه يبقى فضاءً مؤثرا فيما نكتب حتى لو لم نقصده أو نشعر به، ويكفي أن تتصفح قصائدي لترى ذلك.

 

التنبؤ بدمار العراق والمنطقة

* الحرب، المفردة الأقسى في وقتنا الرّاهن، كيف أثّرت أو تؤثّر الحرب في كتابات هاتف جنابي بشكلٍ عامّ؟

الحربُ مفردة تُلاحقني على كافة المستويات، بحيث انتقلت ثيمتها لتصبح صراعا بين عناصر الطبيعة، وأعضاء الجسد الواحد في نتاجي الشعري وحتى القصصي غير المعروف، وهي التي دفعتني بتعجيل ما، كي أغور أكثرَ في اهتماماتي الروحية. من بين أوائل قصائدي أذكر قصيدة "حرب الأيام"، تعود ربما لسنة 1969! كان عنوانها الأولي هو "حرب الأيام الستة" والعنوان واضح المغزى والبواعث، لكن الشاعر يوسف الصائغ الذي التقيته ربيع تلك السنة في طريقي من كلية الآداب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، سألني، ما هو جديدك؟ فقلت: هذه القصيدة، كنت أحفظ معظم شعري ليس كما هو حالي اليوم، فقال: أقترحُ عليك حذف الصفة، فحذفتها، فكان ذلك أول درس تعلمته في حياتي الشعرية. فيما بعد، مررتُ بحالة مشابهة مع أدونيس. أتذكر، في 2011 قضيتُ وأدونيس أياما في ضيافة مهرجان ميووش الشعري العالمي، لم يكنْ لدي ما أهديه إليه سوى نسخة من ديواني الشعري "رغبة بين غيمتين" (بيروت 2009)، راح يقرأه وحينئذ قال لي: جميل، رائع، ولكن حاولْ أن تقلل من الصفات! قررتُ بعدها التخلص، قدر المستطاع، من غالبية الصفات وتحويلها إلى أفعال أو حذفها، فكان ذلك الدرس الشعري الثاني في حياتي.

قصيدة "الحرب - الحلقة المفقودة" نشأت بعد حرب أكتوبر 1973، ونشرت في مجلة "الموقف الأدبي" السورية في 1974 فكانت أول قصيدة تنشر لي خارج العراق. هناك عديدٌ من قصائدي التي نشأت في السبعينيات والثمانينيات، لتتنبأ بدمار العراق والمنطقة، خذْ مثلا قصيدة "القارات المتوحشة" (1983)، نشرت في مطلع التسعينيات في ديوان شعري مزدوج اللغة في وارسو يحمل اسمها، وقبلها "تداعيات رجل ميت" (1974)، وقصيدة "العودة" (1980) وسواها كثير كثير. لا تظهر الحرب في شعري مباشرة لكنها تتمظهر في أشكال وأقنعة ومتاهات ورؤى وعذابات ورعب وقلق وأحلام وكوابيس مختلفة. كيف يمكننا تناسي كوابيسنا. إنها بعض أعمارنا العربية، تلاحقنا في كل مكان!

   علينا أن نواجه أنفسنا ببسالة الفارس الكلاسيكي، أن نعري الأمكنة المعتمة فيها، أن نقوم بفعل تطهيري كما كان يُفهم في الدراما الإغريقية. هناك حرب كونية، بمساهمة داخلية قوية من الجهلة ومحبي التسلط سياسيا ودينيا، ضد جوهر المنطقة العربية تدور رَحاها منذ البدايات الأولى لاستعمار المنطقة، ومنذ تلكم الأوقات ومخيلاتنا وكلماتنا، تخرج منقوعة بدماء الهواء والأبرياء والخسران والخذلان، وهي تُعلل نفسَها ببصيص أمل ما، وهي في حالة دفاع، أمل يتضاءل كل لحظة حتى تماهى والعدم.

   لا يمكننا- مهما كنا طيبين، مسالمين، باطنيين، منهمكين في خصوصيتنا وهمومنا اليومية والفكرية والروحية في صياغة الكلام- أن ننجو من سطوة الحرب ومقالبها وعواقبها النفسية والواقعية، لا يمكن أنْ تكونَ في منأى عن هذا الذبح اليومي الممنهج. لستُ مؤرخا ولا موثقا ولا سينمائيا يتناول ثيمة الحرب والصراعات، بيد أنني اعتدتُ في نتاجي الأدبي على الابتعاد عن تسمية الحرب كواقعة، بأسمائها وشخوصها وبواعثها، مكتفيا بعبثتيها وضبابية الدمار، متشبثا ببسالة حلم يتعقلنُ بتقادم العمر.

 

الشِعر لا تحده أشكال

*كتبتَ مختلف أنواع الشعر، بدءاً من العمودي ومروراً بالتفعيلة وصولاً إلى النثر، هل يمكن لشكل الشعر ونوعه أن يحدّد ذات الإنسان الشاعر؟

الشكل ربما يقابله المكان إلى حد ما. مثلما يؤثر الفضاء على المبدع يكاد الشكل أنْ يُجاريه. يرتبط الشكل الشعري بقوانين ومناخات فنية- ثقافية لمرحلة أو مراحل قد تطول أو تقصر. كلما كان الشكل تقليديا جعل المرء مرتبطا بماضيه أكثر من سواه، بموروثه الشعري والأدبي. الشكل ابن عصره، وفضائه، وتطلعات مريديه ومتلقيه. بيدَ أنه ومن زاوية مختلفة يمكن أن يكون تمرينا لغويا وإيقاعيا وتحديا كان ينبغي على الشاعر من فصيلتي أن يمرّ به، لصقل مهاراته وتجنب جهله في تقنية الشعر ثانيا. ثمة جانب مظلم للشكل، كثيرا ما قتل الشعرُ العمودي جمعا لا بأس به من الموهوبين، فقط لكونهم أصروا على البقاء في حدوده. الشعر العمودي قضى نحبه منذ زمان ولا معنى لإحيائه، لكنه يظل مُلهِبا لحماسة الأوساط المحافظة والتقليدية التي تتشبث بعجلة زمن كان يجب تجاوزه مبكرا؟ هناك قصائد عمودية رغم شكلها التقليدي إلا أنها تحتفظ بوهج الشعر. الشعر الأصيل لا تحده أشكال ولا رؤى. فقد علمنا تاريخ الفنون والآداب أن الشكل لا يمكنه أن يكون أزليا. لكثرة قلقي وشكوكي الفنية أراني أجرب كافة الأشكال الشعرية، لعلي أعثر على قصيدة "لا هي بالشعر ولا بالنثر" حسب تعبير الشاعر تشيسواف ميووش. أؤمن إلى حد ما بأن فعل وقوة الخلق الشعري يخترق كل المسميات والأشكال، الأشكال الشعرية ليست أصناما تُعْبد. أنا بهذه الروحية أواصل قول الشعر.

 

شهيّة الاكتشاف

*ما الذي تود أن تضيفه في نهاية حوارنا معك؟

 أودُّ أنْ أرى، في حياتي، تحقيق أحد أحلامي ذات الطابع الجمعي، يعني تلك التي ستدفعني والكثيرين إلى إعادة كتابة أنفسنا من جديد، بزخم الانطلاقات وشهية الاكتشافات الأولى. شكرا جزيلا لكم على منحي فرصة التحاور معكم ومع القراء من خلالكم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.