}

محمد فطومي: الرواية ملحمة طروادة والقصة كعب أخيل

عيسى جابلي 16 يونيو 2017

محمد فطومي صوت أدبي مميز من الأصوات السردية التونسية الجديدة، لمع نجمه في القصة القصيرة. نشرت له مجموعة قصصيّة أولى عنوانها :"زبَدٌ ورخام". حائز على جائزة نادي القصّة (الورديّة) في دورة 2015. وله أيضاً مجموعة قصصية بعنوان "جلّ ما تحتاجه زهرة قمريّة"، التي حازت مؤخّراً جائزة معرض تونس الدولي للكتاب في دورته 33 لسنة 2017. وله مخطوط كجموعة ثالثة جاهزة للطبع عنوانها "تهيّؤات في المتناول".


 

* حصلت مجموعتك القصصية "جل ما تحتاجه زهرة قمرية"، على جائزة معرض تونس الدولي للكتاب لفرع القصة القصيرة 2017. كيف قرأت فوز نص قصصي لكاتب شاب بعيد عن الأضواء، خصوصاً أن أسماء راسخة قد ترشحت ضمن الجائزة نفسها؟

 في الواقع ما حصل معي في جائزة معرض الكتاب هذه السّنة، لم يكن سابقة في ما يتعلّق بإنصاف النصّ مُجرّداً من اسم صاحبه أو تجربته الرّاسخة في المُدوّنة الأدبيّة العربيّة أو ظهوره الإعلاميّ الغاشي للأبصار، فقد كان قبلي لمُحاوري عيسى الجابلي في مناسبتين لا تقلّان أهمّيّة، وفي وسط مشحون بالتّهافت حظوة تحويل الجيّد إلى سلطة في حدّ ذاتها، سلطة نافذة بسحر العمق والإدهاش والفتنة وحدها، سلطة وجد المُحكّم نفسه إزاءها مصروفاً عن إنكار المنجز المُتفوّق لمجرّد أنّ اسم صاحبه غير متداوَل، مزدرياً الاستمرار في تكريس السّائد داخل حلقة مفرغة لا طائل من ورائها سوى تكرار الأمس، توّاقاً في الآن نفسه إلى خوض مغامرة الانطلاق صوب آفاق إبداعيّة أرحب وممكنات فنّيّة بكر. كانت سابقة جعلت الحالمين بثقافة تونسيّة نزيهة يعترفون أنّهم حقّاً أمام نقلة جريئة ونهائيّة من سطوة الاسم إلى سلطة النصّ. من هذه النّاحية أعتبر أنّي تنعّمتُ هذه النّقلة وأنّي وجدت الأرضيّة ممهّدة إن جاز القول. لكن وحتّى لا يبدو كأنّ انتصار النصّ هو محض صحوة أو ثورة نقديّة لا غير، تجدر الإشارة إلى أنّ القانون الأعلى والأكثر نفاذاً في تنزيل النّصوص المرتبة الأفضل بالنّظر فقط إلى ما أُنفق عليها من جهد و براعة ومرارة وصبر، هو أنّ الكاتب الذي لا يقبل أن يُردّ عليه كتابه خائباً، ليس عليه أن يترقّب نتيجة التّحكيم ليعبّر عن ذلك بل أن يعبّر عن ذلك في قطعته الفنّيّة سلفاً بأن ينفخ فيها من روحه ثقة تجعلها قادرة على الإقناع وافتكاك الحيّز، إيماناً منه أنّ التّعب الكامل لا يملك الحقّ في أن يُفضي بصاحبه إلى غير النّتيجة الكاملة.

* ما رأيك في من يحاول التأكيد على فكرة التجييل والتحقيب من بعض النقاد الذين يرون أن هناك جيلاً جديداً من النصوص القصصية ينتج حالياً في تونس، هل تجد لهذا التصنيف مبررات؟

 للأسف هذا صحيح، فبعض دارسي الرّاهن السّرديّ في تونس يُصرّون على إدراج المشروع القصصيّ الآخذ بالتّشكّل إن أردنا التماس الدقّة في العبارة، بنفس الصورة النّمطيّة المُسطّحة التي تناولت القصّة القصيرة بالبحث منذ ظهورها مطلع الثّلاثينيات وذلك بإدراج النصّ وكاتبه ضمن خانة زمنيّة معيّنة حفّت بها ظروف سياسيّة واجتماعيّة خاصّة في محاولة لمقاربته مع بيئته، تماماً كما تُحفظ الوثائق في ملفّات يُكتب على ظهرها تاريخ الإنجاز. أقول: للأسف، لأنّ مثل هذا المنهج النّقديّ الأدنى إلى عمليّة "إخصاء" إبداعيّة، يتعامل مع النّصوص الأدبيّة على نحو يشبه في ضيق تعاطيه مع الأدب وضع شفاف عليه الإجابات الصّحيحة فوق النصّ الإبداعيّ قبل منحه تأشيرة العبور إلى النّور. مؤدّياً بالضّرورة إلى قتل النصّ أو عزله تاريخيّاً في أفضل الأحوال وحرمانه من تجاوز مرحلته وممارسة حقّه في قراءة إنسانيّة مجرّدة من سببيّة فعل الكتابة والسّياق بوصفه أثراً حاملاً لفلسفة ولخطاب لا يُقصِي الّلاحقين من القرّاء.

ما يفسّر الّلجوء إلى تكوين قاعدة البيانات هذه من قبل بعض النقّاد هو أنّها ببساطة المدخل الأسهل والأكثر كسلاً لقراءة النّصوص الجديدة وسبكها، هي التي بات يُعتَقد خطأ ومن دون تعميم أنّها ما تنفكّ تقدّم نفسها بديلاً يُلغي ما قبله، دون حاجة إلى إضاءة تصوّراتها وفهم طموحها والجانب المتجاوز فيها وخوض مغامرتها البنيويّة والدّلاليّة. كما أنّها في نظري السّبيل الأيسر لتقييم ما استجدّ في المُدوّنة القصصيّة كما لو أنّ المسألة باختصار لا تكمن في البحث بل في كيفيّة الانتهاء منه. في المقابل هناك لحسن الحظّ نقّاد سلّطوا على المجاميع القصصيّة الجديدة رؤية عميقة تتكلّم الّلغة التي كُتبت بها النّصوص وتحفر بأدوات حديثة، مُبرهنين بذلك على أنّ النّقد ليس تلك المؤسّسة التي تقف على الحياد لتسند - بمنطق الذّهب - تقريراً يصنّف العمّال حسب الأعمار بل ذاك الصائغيّ الذي يخرج الذّهب للنّاس في أبدع الحلل.

كيف تقيم المنتج القصصي التونسي الجديد؟ هل استطاعت القصة القصيرة فرض ذاتها جنساً أدبياً يحتاجه الواقع كما يحتاج إلى الرواية والشعر؟

 كَمًّا، لم تتراجع كتابة القصّة مقارنة بما تمّ إنتاجه خلال العقود السابقة. بل إنّ هناك اجتهاداً على مستوى الابتكار والخروج عن المألوف شكلاً ومضموناً. بوضوح أيضاً أصبح في وسعنا أن نلمس محاولات جادّة لتخليص النصّ التونسي من الانضباط المفرط والغنائيّة والنّزوع إلى الأناقة البلاغيّة والّلغويّة والابتعاد عن المواضيع ذات الصبغة الاجتماعيّة الممجوجة، وإن استدعيت فمن زوايا طريفة وأكثر تأثيراً. استطاع هؤلاء دون شكّ أن يجمعوا بين الإمتاع وبين إحداث الوقع. المشكلة أنّ الكتّاب الذين بيدهم هذه الملكة إمّا مُقلّون من النوع الذي يُطلق مجموعتين أو ثلاثاً ثمّ يختفي، أو من غير المخلصين لجنس القصّة القصيرة إذ ما يلبث الواحد منهم أن يهجرها إلى الرواية أو المقال..الخ. بالتالي ليس متاحاً إلى حدّ الساعة على الأقلّ أن نتحدّث عن قاصّ بمعنى الكلمة يسخّر جهده ومشروعه لهذا الجنس الأدبي دون سواه، قاصّاً يُذكّر بيوسف إدريس في مصر وزكريا تامر في سورية وأحمد بوزفور في المغرب مثلًا، إلّا أنّنا هنا لا ينبغي أن نلقي بالّلوم على المبدع وحده باعتبار أنّ "سوق" القصّة في تونس غير مُشجّع على الاستمرار رغم أنّها قد تتساوى حظّاً مع الرّواية في جائزة كبرى أو اثنتين. ذاك أنّ واقع النشر لا يمنح القصّة القصيرة من حقّها في الوصول بين أيدي القرّاء سوى ما يبقيها على قيد الحياة على نحو يشبه الحفاظ على موروث ثقافيّ مهدّد بالزّوال. من خلال تجربتي الخاصّة أضرب لك مثلاً: لديّ مجموعة قصصيّة جاهزة. اختبرتُ حظّها في النّشر مع دور كثيرة لعلّ إحداهنّ تراهن عليها وتتبنّى تكاليفها. فكانت النّتيجة جملة من الاعتذارات أو الأرقام الخرافيّة أو السّكوت الأبديّ. بحجّة التّعامل حصراً مع الكتّاب العرب أو الاقتصار على نشر الرّواية دون سواها. زد على ذلك أنّ المجاميع القصصيّة ممنوعة من الدّعاية في المعارض وسوق الكتاب عموماً. كلّ هذه عوامل تحبط القاصّ وتهزّ ثقته في منجزه وتجعله يعيد التفكير في ما ينوي التخصص فيه إلى أن يصل في الأخير إلى مرحلة يدرك معها أنّ مجال إبداعه لا - ولن - يتخطّى مجرّد التسلية وأنّ مجتمعه يقرأ القصّة لكنّه غير مهيّإٍ لقبول فكرة قاصّ.

نصوص كثيرة عَدَتْ خلف الأحداث وجعلت من "الثورة" مدار نصوص قصصية عديدة كثيراً ما انتهت بمسخ مزدوج: مسخ الثورة والنص في آن، غير أنك ظللت بعيداً عن ملاحقة الأحداث التي تحضر في نصك، إن حضرت أطيافاً لا يتبينها إلا القارئ المتعمق، هل هذا اختيار أم هو خوف من "المِسْخَيْنِ" أم إن لك رأياً آخر؟

 في ما قرأتُ لتشيخوف وماركيز مثلاً لم أتابع مجريات الثّورة البلشفيّة عند الأوّل، ولم أسجّل لدى الثّاني ما يدلّ على أنّه حوّل جمله إلى منصّة دعائيّة للشّيوعيّة. ربّما لو رصدت ذرة مما أسلفت لكنتُ صرفتُ النّظر عن كتابتيهما برمّتها. ألم نتّفق أنّ القصّة ليست إشاعة الشّائع؟ فكيف إذًا نكرّر على مسامع النّاس ما يشاهدونه صوتاً وصورة في وسائل الإعلام إن لم يكونوا قد عاشوا أدهى منه بأنفسهم؟ ثمّ إنّ الكاتب الذي يعي جيّداً أنّ القارئ جاء إلى القصّة ليبتعد بمخيّلته لا لينغرس في مكانه أعمق، سرعان ما سينتبه إلى أنّ النّقلة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي حدثت مع "الحريق الكبير"، أو ما يُسمّى بالثّورة، تمثّل بالنّسبة إليه امتحاناً في الصّبر على الحماس الذي تولّد عنها. فأن نقدّم إلى القارئ مادّة وثائقيّة عمّا يجري أمام عينيه هي وصاية يمكن تمثيلها بالقول للتونسيّ: "عليك أن تهتمّ بواقع بلادك" ولغير التونسيين: "المعذرة نحن الآن مهتمّون بشؤوننا". شخصيّاً اعتملت في داخلي كلّ هذه التّصوّرات وحدّثتُ نفسي مبكّراً بأنّ أكبر مطبّ قد يسقط فيه الكاتب هو أن يلقّن عارفاً، أو أن يعيد على النّاس بضاعتهم. وأنّ المخرج الوحيد من هذا المطبّ هو أن تتناول مواضيعك الإنسانيّة والمحلّيّة مستبطناً أنّ أفظع ما قد يحدث للقصّة القصيرة هو أن تتحوّل إلى منبر خطاب أو ورقة إخباريّة، وأنّ ما حدث هو حقيقتنا في راهنها الجديد المُسلّم به جماعيّاً مع مواصلة الاشتغال على القصّة بوصفها وجهةَ تفكير مختلفة تدعو إليها القارئ لا احتمالاً آخر لرواية الأحداث.

* تقول في حوار سابق "إنّ القصّة أسئلة واقتحام لمعان حارقة ما نزال نتهرب من مواجهتها"، ما المعاني التي يتهرب منها محمد فطومي في قصصه؟ ولِمَ هذا التهرب؟

 المُثقّف العربي عموماً، ناهيك عن الكاتب، مازال مُضطرّاً إلى مسايرة "العاطفة العامّة" والسّكوت عن الأخطاء الجماعيّة إن صحّ التعبير، مُساهماً بذلك في تعميق أزمة ما يُسمّى بدكتاتوريّة الشّعب. الشّعوب في نظري ليست فوق النّقد والمساءلة التّاريخيّة والأدبيّة. فالشّعب ليس قيمة بل مجموعة يجب أن تجمعها قيمة، فإذا اهتزّت هذه القيمة فقد قداسته فوراً. والثّورة في رأيي ستظلّ مُعطّلة ما لم يُبدِ المُثقّف رأيه في شعبه بصراحة وبكلّ الطّرق المُتاحة. من هذه الزاوية أعتبر أنّي حذر نوعاً ما ولا أقِلّ تنصّلاً من مسؤوليّتي عمن ذكرت، رغم يقيني بأنّ التّردّي الأخلاقي والتهافت والأنانيّة ووصاية الكلّ على الكلّ ومصادرة الكل لحريّة الكل والمطلبيات الأشبه بالبدع وغش الكل للكل و"المكيافيلية" الجديدة التي لم تعد حكراً على الأمير، بل صار يمارسها الكل على الكل، جميعها مآزق اجتماعيّة وليست سياسيّة. مثل كثيرين مازلتُ أؤجّل الخوض في هذه المآزق مباشرة خشية السّقوط في التّحامل الذي لن يؤدّي بي في نهاية المطاف سوى إلى نعتي بالتّعالي على أبناء جلدتي وربما نقص في الوطنيّة أصلاً. لذا تراني أكتفي بنسبها إمّا إلى الفرد أو إلى القلّة مُتوسّلاً التّلميح والصّراخ المكتوم.

* إذا أثرنا إشكالية الشكل والبنية في القصة القصيرة، هل ترى أن القصة القصيرة ببنيتها المعروفة ما زالت قادرة على استيعاب ما يطرحه واقعنا المعقد من مضامين وثيمات مربكة؟

 لو قابلت القصّة القصيرة بالأغنية لبدا لك أنّ الموضوع هو الكلمة وأنّ البنية هي الّلحن. بهذا المثل أردتُ القول إنّ القصّة ككلّ عمل فنّي لا تشذّ عن قاعدة تكامل العناصر وانسجامها وتلازمها. وبما أنّ طبيعة الواقع في ظلّ المتغيّرات والعلاقات المُتشعّبة التي باتت تحكمه صارت أكثر تطلّباً لفتحٍ على مستوى المواضيع والشّكل، فإنّ على المحمل (البنية) أن يتسع ويستجيب. في فترة الستينات لمّا ضاقت الآلات بثورة الألحان على الأدوار التقليديّة كان لا بدّ آنذاك من استدعاء آلات وأنماط أخرى لم تعرفها الموسيقى العربيّة من قبل. القصّة في راهنها تعيش الوضع نفسه، لذا أعتقد أنّ الشّكل معني بثورة على الخطّ الحكائي المتعارف، هذا الإطار الذي ساد طويلاً والذي تمّ توريثه جيلاً بعد جيل كما لو كان وحدة قيس يحتاج الآن إلى زعزعة مفاهيمه القديمة وتخليصها من الحضر الذي أحاط بها عمراً طويلاً. الحلّ طبعاً لا يكمن في استيراد حساسيّات من كلّ أصقاع الأرض أو  في وضع "قانون جديد لتنظيم القطاع" كما يُقال، أو في صياغة قائمة مُحيّنة بدعائم القصّة ومحاذيرها. بل في أن يحرص القاصّ برويّة على الإفادة من كلّ الفنون وأشكال الوثيقة الأخرى بحذر وذكاء، حريصاً على أن لا يسحب من القصّة فتنتها الحكائيّة، ويكون شديد الاحتفاء بها كملكة لغير المُتوَقّع بين كلّ الأجناس الأدبيّة الأخرى، وأن يُلبس كائنه الحيّ الصّدفة التي تلائمه، بجرأة ودون محاكمة لنفسه نيابة عن القارئ حتّى لا يحرم وجهة نظره من بنيتها الحكائيّة الأمثل مهما بدت مجنونة وغريبة، مع مراعاة مفهوميّتها وقابليّتها للتلقّي طبعاً.

كثيراً ما نتحدث عن التجريب بوصفه بديلاً للقصة التقليدية رغم عجزه هو الآخر عن ملاحقة ما يطمح الكاتب إلى قوله، برأيك كيف تكون القصة ابنة لحظتها التاريخية لا ابنة لعصور سابقة؟

 خوض غمار التّجريب في رأيي ينبع من حاجة القصّة المُلحّة أكثر من أي وقت مضى إلى إخراج النصّ من القمقم، وإضفاء شخصيّة جديدة عليها تنقذها من الرّتابة والأحاديّة التي لاحقتها طويلاً والتي حدّت من الإقبال عليها. فأوّلاً وقبل كلّ شيء، التّجريب هو دعوة من الكاتب إلى القارئ كي يعيد اكتشاف هذا الفنّ ويغيّر فكرته عنه. إذ لا ننسى أنّ القصّة ما زالت إلى اليوم مرتبطة في أذهان الأغلبيّة من النّاس بالحكاية التي يُرجى من ورائها عبرة أو مغزى. لذا لا أقول إنّ التّجريب ضروريّ بل أقول إنّ في التّجريب وحده بقاء القصّة القصيرة لا سيّما في عصر التّخمة المعلوماتيّة هذا الذي بات فيه من الصّعب تحريك الشّعور أو صنع الدّهشة. بوصفه نوعاً من تحسيس الآخر بأنّ القصّة بنت الإيقاع لا تحيد عنه ولا تتخلّف وأنّها ذات تتكلّم لغة "الآن" لها مدارك تنمو وتتّسع وتواكب مستجدّات الفنون ونسق العالم.

عندما يكتب محمد فطومي، ما الرهانات التي يضعها نصب عينيه: القارئ؟ الذات؟ الواقع؟ القصة نفسها؟ أم إن له رهانات أبعد؟

 أقسّم النّاس إلى صنفين: صنف يُعبّر بطريقة فنّيّة تشاركيّة كلّما طرأت في خاطره فكرة أو وجهة نظر أو احتجاج. هو مُتأمّل إيجابي يملك في علاقته بوجوده ضميراً مُتّقداً يجعله غير قادر على إهدار الانفعالات والمفارقات التي تجعل من الإنسان إنساناً. وفئة تعبّر بالتّلقّي مُكتفية بملاحقة الآراء والمواقف والمنجزات الأدبيّة التي تشفي غليلها وتضع إصبعها على العلّة نيابة عنهم. بالنّسبة إلي أزعم أنّي من الصّنف الأوّل. حيث لا أفهم ما معنى أن يجيش صدرك بالأفكار دون أن تمسك بالقلم وتخبر بها ورقة. في البداية كانت الكتابة مجرّد وسيلة أنفّس بها عن عقلي، ثمّ رويداً لمّا اكتشفت أنّي مُركّب لا يستهويني معه سوى إذاعة خلاصة تفكيري في شكل حكايات تناظر ما أقصده بطريقة التّلميح والإيحاء والكلام بالصّمت والفراغات البيضاء، كتبتُ القصّة القصيرة. عندها لم أكن قد أدركتُ بعد أنّ التّعبير ليس فعل شفاء بالمعنى الأنانيّ للمُصطلح بل لا بدّ من تقاسمه من الآخرين. في ذلك الوقت كنتُ منغلقاً على نفسي لا أكاد أحدّث أحداً أنّي أكتب نصوصاً تصلح للقراءة. ظننتُ حقّا أنّي لا أطلب المزيد لكنّي كنتُ واهماً، فسرعان ما اكتشفت متعة أن تخرج كتاباتك للنّاس، والسّعادة التي يمنحها شعورك بأنّك غذّيتَ المكتبة الكونيّة بذرّة تعيدك إلى الحياة بطريقة أو بأخرى كلّما رقصت في قلب أحدهم. وهكذا تدرّجت معي الحاجة إلى الكتابة من عمل منفرد مُسلٍّ لا أفق له أبعد من درج مكتبي إلى سبب للوجود.

عادة ما تكون القصة طريقاً إلى الرواية – مع استثناءات قليلة مثل زكريا تامر الذي يعتبرها "فن الثرثرة" – ما العلاقة التي يراها فطومي بين جنسي الرواية والقصة؟ وهل إن القصة هي طريقك إلى الرواية؟

 إذا كانت الرّواية هي ملحمة طروادة فإنّ القصّة هي كعب أخيل. وإذا كانت الرّواية هي رسم الجوكندا فإنّ القصّة هي الّلمسة الدّقيقة التي أضفت الغموض والسّحر على ابتسامتها. فرغم القرابة التي تجمع الرّواية بالقصّة يظلّ  لكلتيهما خصوصيّتها ومجال نفوذها الذي يمنحها استقلاليّتها الفنّيّة، فالقصّة بعيداً عن التّنظير هي تشبيه طويل. هي عبارة عن عمليّة بيضاء يرسمها الكاتب بالكلمات لقرّائه كي ينتبهوا إلى خطورة أمر ما قبل وقوعه أو أصله أو ليتبيّنوا جانباً مُهملاً من الإنسان كأنّه يقول لهم: هذا أيضا الإنسان. والحديث عن القصّة تكبير بالعدسة لجزء معتم من علاقة الإنسان بوجوده وليس تكبيراً على غرار بناء قبّة من حبّة. إنّها فنّ الإشارة إلى الحقيقة بكذبة. هي تقويض للمفاهيم والمسلّمات والعادات وسخرية منها جميعاً. هي محاولة للحفاظ على النّوع البشري الذي لو تُرك دون تذكير مستمرّ بأسراره المتناهية في الصّغير لاتّجه نحو المكننة والتّلف. أمّا الرّواية فهي فنّ تقصّي أثر الزّمن على الشّخصيّات والأحداث. وتبنى على ثلاث دعائم: حدث لن تعود الأمور كما كانت قبله. زمن يمرّ. شخصيّات تضطرب في الحياة.

بالتّالي كلّ جنس أدبي منهما له متطلّباته ودواعيه رغم ميزة السّرد الحكائي المُشتركة بينهما. لكن رغم ذلك نسمع كثيراً أنّ القصّة طريق إلى الرّواية. كأنّ المسألة تدرّج في النّطق. صحيح أنّ القاصّ لا يجد معنى لبقائه وفيّاً إلى هذا الجنس الأدبي الذي لا يكاد كتّابه يجدون من يقرؤهم غير بعضهم بعضاً. وصحيح كذلك أنّ التّعبير في القصّة ضيق ومرهق وأنّها التّمرين الأمثل على الكتابة السّرديّة، إلاّ أنّها ليس بالمرّة درجة في سلّم الرّواية. وإن صحّ فهذا يعني أنّ اختلاف الأدوات في حياتنا اليوميّة وأحجامها لا غاية منه وأنّ تقني صيانة الهواتف الجوّالة كلّما ازداد مهارة في عمله كلّما كان عليه أن يزيد في حجم أدواته الدّقيقة. وأنّ الجرّاح بعد مراس محترم سيصل بالتّأكيد في فترة متقدّمة إلى استخدام السكّين عوض المشرط. شخصيّا قد أكتب الرّواية يوماً لكن ليس من باب أنّي أتممت مرحلة تعليميّة اسمها القصّة بل لحاجة ألحّت عليّ بأن أتابع فعل الزّمن على شخصيّات تتحرّك في اتّجاه يسمح بتقديم إضافة إنسانيّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.