}

عزالدين بوركة: تاريخ الأدب هو تاريخ التلاقح والتأثر والتأثير

أشرف الحساني 15 يونيو 2017

عزالدين بوركة شاعر وناقد مغربي من مواليد مدينة الدار البيضاء. حاصل على إجازة في الفيزياء الإلكترونية وإجازة في الصحافة في موضوع "الصورة عند ريجيس دوبريه". صدر له في الشعر: "بعيدًا عن العالم"، "حزين بسعادة"، "ولاعة ديوجين". وسيصدر له هذه السنة كتابان نقديان عن الفن التشكيلي "الفن التشكيلي بالمغرب من البدء إلى الحساسية"، "مدخل إلى الخطاب والفن التشكيلي المغربي".


* حدثنا عن رعشاتك الأولى مع الشعر. كيف كانت؟ ولماذا وقع قلبك بالضبط على كتابة الشعر؟ وما هي الخلفيات المعرفية والأدبية التي ساهمت في تحديد هذا الاختيار؟


جميل أن تصف العلاقة البَدْئية بالشعر بالرعشة، إنها رعشة إن لم نقل وخز بالإبر الصينية أو قشعريرة بفعل ريح ربيعية. عدا تلك النصوص التي درسناها في السنوات الابتدائية، كان أول ديوان أمسكه بين يدي هو "أوراق في الريح" لأدونيس، كنت أحاول في سن 11 أو 12 أن أقلده، أمحو كلمة وأترك التعبير كما هو أو أبني تعبيرًا مشابهًا، أخذني الديوان إلى استكشاف عوالم الشعر بعيدًا عن نصوص المقرر المختارة بجفاف وعدم إبداع أو ربط الشعر بالغنائية بعيدًا عن جوهر الشعر وصوره عبر تلقين التلاميذ تلك النصوص الهزلية.
لماذا الشعر؟ لا أعلم بالتحديد، لكن هناك اعتقاداً رائجاً بكون جل الكتاب في بداياتهم حاولوا مع الشعر، كتبوا قصائدهم لحبيباتهم، والعكس، أو عن آلامهم وعقدهم الصبيانية، وهم على أعتاب المراهقة، وأيضًا في عالمنا العربي تكون البدايات متأثرة بنصوص نُصرة القضية الفلسطينية، فنحاول تقليديها والكتابة على منوال محمود درويش وغيره. هكذا ولجت الشعر، أكتب قصائد لفتاة وأكتب لفلسطين وأكتب عقدي.
أما عن الشق الثالث من سؤالك، فلا أعتقد أن أي أحد يلج في بداياته إلى عالم جنس أدبي يفكر أو لديه خلفيات معرفية، إننا نكتب متأثرين بما قرأناه أو ما سمعناه، غير آبهين بأي شيء يدعى "خلفية معرفية"، ولا أعلم شخصيًا ما هي تلك الخلفيات التي دفعتني لكتابة الشعر، إلا أنني كتبته وحسب وما زلت أفعل، وسأبقى أكتبه. فكتابة الشعر كما قلت "رعشة" والرعشة تولد لذة مؤقتة داخل الجسد، وعند إدمانها نظل مطاردين لها باحثين عنها وتلك الدغدغة المتولدة عنها لتلبية لذة الجسد، ورعشة الشعر هي دغدغة للروح من حيث هي العاقل الأسمى للإنسان، إلا أنها إدمان جميل لا يؤدي إلى الفتك بالجسد ولا الروح، لهذا حينما نكتب الشعر فنحن نصنع لذة ما.


* في سنة 2016 حصلت على جائزة الشاعرة شيماء الصباغ، التي تمنحها دار ابن رشد للنشر بمصر، عن ديوانك "حزين بسعادة". ماذا تمثل لك هذه الجائزة؟ وماذا قدمت لمسارك الشعري؟


سعدت بأن أحصل على جائزة تحمل اسم هذه المناضلة. وإن كانت جائزة مثلها مثل باقي الجوائز التي تقدم داخل عالمنا العربي، إلا أن رمزيتها كبيرة. وتعد أول جائزة أحصل عليها في مساري الثقافي، بالتالي لها قيمة كبيرة باعتبارها محفزًا على إكمال ما أنوي التخطيط له وما أبتغيه من طرح داخل الحقل الثقافي والأدبي العربي. فالجوائز الأدبية مهما بلغت قيمتها المادية، فالأهم منها هي تلك الدفعة المعنوية التي تعطيها للمبدع الحاصل عليها، إذ تقلّده وتلزمه على المواصلة والبحث عن التجدد، وتغيير أدواته وأساليبه وطرق اشتغاله وتطويرها إلى الأجود والأحسن.

الآن يمكن أن أقول إنني بعد الحصول على هذه الجائزة صرت ملزما بتطوير آليات الاشتغال والبحث عن أساليب تعبيرية جديدة داخل الشعر وكما الاتجاهات الأدبية التي أكتب فيها.


*هل يمكننا القول إذن، إن الجوائز تلعب دورًا مهمًا في المسار الأدبي للمبدع؟


سؤالك هذا يحتمل وجهين في الإجابة عنه، أولهما يبدأ بـ"نعم"، نعم فالجوائز تلعب دورًا مهمًا في مسار المبدع، إذ تقدم للقارئ الذي لم يتعرف عنه بعد وتسلّط الضوء على أعماله لمزيد من المطالعة والقراءة والنقد، وتجعله أمام ضرورة التطور والتحسن، ليس نية في مطاردة الجوائز كما يفعل بعض، إذ يكتبون في كل المجالات وكل الميادين طمعا في الجوائز غير آبهين بالبحث العلمي والإبداع وهنا أتذكر مقولة لأحدهم كتب ذات يوم "كل شيء جائز في الجوائز"، هذا تلخيص لهذه الموجة من المتلهفين على اقتناص الجوائز الأدبية.

أما الوجه الثاني من الإجابة فهو "لا"، لا تلعب الجوائز أي دور في حياة المثقف والمبدع، قد يكون هذا الكلام معارضًا لما قلناها في الشق الأول من الإجابة والسؤال السابق، لكن يمكن الاستشهاد عبر التاريخ بأسماء لم تحصل على أية جائزة محلية كانت أو عالمية، في أي صنف أدبي، ولم تهتم بذلك، ولم تبحث عنها كما لم تطاردها وتتربص بها، وكان لهذه الأسماء أثرها البليغ على المسار الإبداعي والثقافي والفكري والأدبي، نقيس الأمر حتى على المجال العلمي، ففي أحايين كثيرة تكون للجوائز خلفية سياسية أو عرقية، وهذا يؤثر على موضوعيتها ولا تجعلها انتصارًا لمثقف على آخر.

وأذهب للقول إنه لا يمكن إحداث تفاضل بين المثقفين والأدباء، لأن لكل شروطه البدئية التي تتغير من مثقف ومبدع إلى آخر، مما يجعل المنجزات تتنوع وتتعدد، وهذا ما يخدم التاريخ الثقافي أكثر من الجوائز.


* في ديوانك الأخير "ولاعة ديوجين"، نلمح تأثرًا واضحًا بكتابات الشاعر المغربي عبد الله زريقة على مستوى غرائبية الصور وبنية النص الشعري، خصوصا في دواوينه الأخيرة "سلالم الميتافيزيقا" و"حشرة اللامنتهى". كيف يستطيع الشاعر إذن، أن يبني حدودًا ويقيم سياجات بين ذاته وبين ما يكتبه الآخرون؟


أولاً وقبل الخوص في سؤالك، عبد الله زريقة شاعر كبير وتعد تجربته مدرسة في الشعر العربي وليس المغربي فقط. وثانيًا لا بد من التأكيد على أن تاريخ الأدب هو تاريخ التلاقح والتأثر والتأثير بمعنى من المعاني، إذ ليس هناك مثقف ولد بصفحة ممتلئة، فنحن نأتي إلى عالم الأدب بصفحة بيضاء نملأها من هنا وهناك، ونراكم ونمحي ونزيل ونغض التفكير عما لم نعد نهتم به. فلكل مبدع آباء وأجداد يعود إليهم ويستمد منهم روحه، إلا أنه لا بد أن يثور عليهم وألا يبقى في جلابيبهم. فلا يمكن الحديث عن إمكانية إقامة حدود أو سياجات بين ما ننتج وما أنتجه الآخرون، فالآخرون دائمًا حاضرون في ما نكتب ونبدع، هنا أتذكر ما قاله الروائي المكسيكي الكبير غابرييل غارسيا مركيز حينما قرأ رواية "التحول" للألماني فرانتز كافكا: "ندمًا أنهيت قراءة المسخ، شعرت بشوقٍ لا يقاوم للعيش في ذلك الفردوس الغريب. يومها حملت الآلة الكاتبة المحمولة محاولاً كتابة شيء من شأنه أن يشبه بطل كافكا المسكين يتحول إلى صرصار ضخم"، ماذا يعني هذا الكلام؟ ليس أكثر من أن كافكا حاضر في ذهن ماركيز وهو يبدع رواياته العالمية أهمها "مائة عام من العزلة" التي استقى غرائبيتها الواقعية من رواية "التحول". فأن تكون غرائبية الصورة داخل عملي الشعري "ولاعة ديوجين" حاضرة كما هو الحال في ما ذكرته من مؤلفات للشاعر عبد الله زريقة، فهذا يؤكد ما ذهبت إليه من عدم وجود مخرج يبعدنا عن التلاقح بين الأعمال، فأنت لا تكتب إلا وأنت تفكر في ما قرأت، وما تقوم به هو إعادة صياغتها وتركيبها، إنها عملية تشبه عملية الهضم فنحصل على البروتين مركبًا تركيبًا طبيعيًا في النباتات مثلاً ونعيد تركيبها عبر مجموعة من الأنزيمات ليصير صالحًا لنا، أي ملكنا. فهذه هي الكتابة أي "سماع صوت الآخرين بصوتك".

إلا أن هذا الكلام لا يعني ولا يجب أن يفهم على أنه دعوة إلى عدم الإبداع ومجاراة الاتباع عن ما أنجزه السابقون، بل إن المبدع محكوم عليه بأن يطور ما توصل إليه الآخرون وأن يستدرجه ثم يدمجه.


* جدلية الذات والآخر، تحيلنا مباشرة إلى الحديث عن إشكالية "الإبداع" و"الإنتاج". هل الشاعر عزالدين بوركة حين يكتب يبدع أم ينتج، وذلك على الخلفية المعرفية لجوليا كريستيفا، والتي ترى أنه لا وجود لشيء اسمه إبداع لأننا نكتب انطلاقًا من لغة مترسبة في ذواتنا، لذلك ففعل الكتابة هنا بالنسبة إليها هو إنتاج وليس إبداعًا؟


قد لا يهمنا ما قالت هذه الفيلسوفة الكبيرة، وكما لا يهمنا ما قاله رولان بارت أو جاك دريدا أو غيرهم بخصوص الإبداع والإنتاج والكتابة، بقدر ما يهمنا هنا، هل نحن ننتج أدبًا؟ هذا هو السؤال الأهم. لماذا البحث عن الفرق بين الإبداع والإنتاج؟ هل للأمر علاقة بمعنى "فنان" artiste و"صانع / حرفي" artisan، إذ يأتيان من جذر لاتيني واحد؟ في اللغة العربية للمبدع والمنتج جذور لغوية مختلفة بالتالي هما لا يرتبطان بتاتًا. أليس علينا التفكير بهذه الطريقة؟ فالناقد الأدبي الغربي محكوم بجذوره اللغوية اللاتينية، يستقصي إسقاطاته التحليلية عنها ومنها، فأكون أمام سؤال مجبرًا على أن أذهب أبعد عما تحاول الحصول عنه من إجابة، فأقول إن الناقد العربي ملزم بأن يعود إلى الجذور اللغوية وأن يتبع أصولها اللسانية وأيضًا السيميائية، أن يفكك اللغة ويميز بين الأصل والفرع، وألا يبقى رهين وسجين ما أنتجه الغرب من مفاهيم ومصطلحات، ويأتي بها كما هي "جافة" ويبدأ بنبش القبور بمعاولها. وهنا أحيلك إلى الناقد والمفكر المغربي عبد اللطيف كيليطو الذي تمكن من أن استدراج آليات غربية ويبحث في الجذور وهو يحلل النصوص التراثية، ويتبعه في المناول المفكر المغربي الآخر عبد السلام بنعبد العالي، وحري بالنقاد أن يسلكوا ذات الاتجاه أو ينهلوا منه ويحاولوا بناء نقد عربي خالص لا يتغيا شروطه البدئية من أحد، فلنا من التاريخ الأدبي ما يكفي لذلك.

لذلك فأنا لا يهمني أن أبدع أو أنتج، أو سمي الأمر كما تشاء، بل الأهم هو أن أكتب، ففعل الكتابة هو الأصعب، أن تكتب أي أنك تنتج شيئًا وتبدع شيئًا، أي أنك تهدم شيئًا وتبني شيئًا، وبمعنى آخر إنك مسكون بجني الأوائل وتكنولوجيا العصر. فالأهم أنك تتلذذ بالكتابة كما يخبرنا بارت أو أنك تغيب وتنمحي فيها كما الحال عند ألبير كامو أو أنك تتبع سليقتك والبيان كما الحال عند الجاحظ، الأهم أن تكتب أي أن تطلق نار الرحمة على ما ومن يسكنك لتحيي آخر هو أنت.


* كثر الحديث وكثرت الطروحات عن أفول زمن الشعر وصعود زمن الرواية والصورة كديوانين للعرب. هل في نظرك أصبح ذلك واقعًا حقيقيًا في عالمنا العربي؟

أحيلك هنا على ما قاله ريجيس دوبريه في كتابه "موت الصورة وحياتها" أن الجديد لا يقتل دائمًا القديم، بل يحثه على التجدد وتغيير أساليبه، كما الحال مع الراديو والتلفاز والجرائد والتلفاز وغيرها من الأمثلة. فأن نقول إتنا نعيش زمن الصورة والرواية، فما العيب في ذلك؟ المشكلة أن نعتقد بهذا وننكر باقي الأساليب الجمالية ونحاول طمسها ودفنها والانتصار لشكل آخر من أشكال التعبير، وهذا ما قد يخلق نوعًا من عدم إمكانية التعدد الذي يؤدي إلى إحداث الاختلاف والتفرد الذي يعد سمة رئيسة من سمات الحداثة وما بعد الحداثة.

إننا في زمن الصورة، هذا التعبير يقود إلى القول إننا بتنا جزءًا من عصر جديد، حدده ريجيس دوبريه بعصر الصورة والأهم فيها الافتراضية، فهذه التسمية هي صفة للعصر وليست دعوة لطمس كل التعابير الجمالية والأشكال الثقافية الأخرى مقابل الانتصار "للصورة". وألسنا نتحدث اليوم عن "الصورة الشعرية"؟ هي تلك الصورة الذهنية التي تخلقها لنا التعابير الشعرية.

فالشعر جزء لا يتجزأ من تطور الحضارة والإنسان، إنه جزء من لا وعيه، فالشعر ليس تعبيرًا جماليًا فقط، بل إنه كائن يسكن الإنسان، إذ إنه وليد اللغة التي تسكننا كما يذهب هايدغر لطرحه. أما عن زمن الرواية، فهذه الأخيرة هي شكل تعبير حديث نسبيًا بالمقارنة مع الشعر، فهي تعيش شبابها وانتعاشها، ويساهم الإعلام في إبرازها، ولأن الشعر قد اضطر لتطوير أساليبه واتباع طرق غير سابقة الطرح، وحينما ابتعد عن القول الأيديولوجي والمعنى الواضح، وبما أن القارئ العادي أكثر عددًا من القارئ النخبوي فذلك الأول يبحث دائمًا على المعنى المتاح الذي لا يستلزم منه تحريك عضالات تفكيره، لهذا يتجه إلى الرواية، خاصة تلك التي يدعمها الإعلام.

الخوف الأكبر في نظري ليس من وسائل الإعلام لوحدها، بل حتى دور النشر التي صارت تنحاز لجنس أدبي دون آخر، فتمتنع عن طبع ونشر الأعمال الشعرية والانتصار للرواية.


* اتصالاً بموضوع الصورة. أنت كشاعر، كيف وجدت نفسك أمام غواية الكتابة التشكيلة؟

الشاعر ملزم بربط علاقة بعالم الفن والتشكيل، لما للفنون من ترابط، كما سبق وذهب الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه الفلسفي الكبير "مدخل لعلم الجمال". فأن يكتب فنان (رسام مثلاً) الشعر فالأمر بديهي، فما قد تغيّر مجرد أداة التعبير أما المعبّر عنه فواحد، إلا أنه (الفنان) ملزم بإتقان آليات وأساليب التعبير المتعلق بالمعبر به. والعكس أيضًا. وفي حالتي اتجهت إلى الكتابة عن التشكيلي ونقد مجموعة من التجارب الفنية والمدارس التشكيلية، قادمًا من عالم الشعر والكتابة الأدبية، هذا الأمر قدم لي دفعة مهمة من حيث إمكانية التعاطي مع اللغة الناقدة والتفاعل مع الأعمال الجمالية.

ففي المغرب يعد جيل كامل من المهتمين بالنقد التشكيلي أدباء قادمين من عالم الشعر أو الرواية والسرد، ما اصطبغ على الكتابة النقدية داخل حقل الفن التشكيلي نوعًا من اللغة الشاعرية وأيضًا الابتعاد عن اللغة الأكاديمية الجافة، ما خلق تعددًا داخل المدرسة النقدية المغربية من حيث أساليب الكتابة الناقدة. وعلى نفس المنوال تسير مجموعة من النقاد الجدد في صف موازٍ للنقاد القادمين من عالم المرسم واللوحة والصباغة والتشكيل وكذلك القادمين من الأطروحات الأكاديمية والفلسفية وغيرها، ما يقوي الخطاب النقدي المغربي ويعطيه لحمة متماسكة وشساعة طرح.


* في نظرك، ما الجديد الذي أضافته الأعمال التشكيلية المغربية بخصوصياتها الفنية الجمالية المتفردة إلى التشكيل العربي ككل؟


 لقد جاء في سؤالك مصطلح "متفردة"، فالأعمال هي متفردة وليست فريدة، أي هي نتاج للشخص الواحد وليست إنتاجًا ثوريًا، وهذا هو ما لا بد من طرحه قبل الخوض في أية إجابة عن سؤالك، فالفنان المغربي (كما المشرقي)، ينتج أعماله في الغالب من رؤية فردية، إذ لم ينتج العالم العربي سوى مدرسة فنية واحدة (الحروفية) أو مدرستين إن ذهبنا أبعد في طرحنا، وكلامي هذا ليس انتقاصًا من القيمة الفنية، بل إنها حقيقة تاريخية لا بد من عدم الخجل من قولها.

ما قدمه الفنان المغربي للوحة العربية يقاس بما قدمه الفنان العراقي، إلى وقت قريب كانت المدرسة العربية الرائدة هي المدرسة العراقية التي خرجت من جلبابها "مدرسة البعد الواحد" التي تولد عنها تيار الحروفية كمدرسة إستيتيقية (جمالية) تتمتع بتفردها وفرادتها. وقد حذا حذوهم فنانون مغاربة آخذين عنهم الرؤية ومطورين الأساليب داخل قالب مغربي، كما أن الفنان المغربي قد حاول أن يدمج بين التراث العربي - الإسلامي والأمازيغية والتراث الأندلسي وبين الفنون المعاصرة الغربية، وهذا ما قدم رؤية فنية تلائم بين المعاصر والأصيل، بين المحلي والعالمي، فأدرج الصباغ الطبيعية من الحناء وغيرها، والأشكال الثقافية المحلية.
 
إلا أنني لا أرى أي تفاضل بين الفنان المغربي أو أي فنان آخر بالعالم العربي، إذ إن هذه الجغرافيا منذ النشأة يتأثر المنتمون إليها ببعضهم البعض، وتحدث عدوى سريعة الانتشار بينهم، فكل ما ينتج في بلاد عربية ينتشر بشكل من الأشكال في الدول الأخرى، ما يخلق تعددًا وتنوعًا، لا يمكن إحداث أي تفاضل بين الفنانين المنتمين لهذه الجغرافية.


* سيصدر لك قريبًا كتاب "التشكيل المغربي من البدء إلى الحساسية". فعن أي حساسية تتحدث؟

أي حديث اليوم عن الفن التشكيلي المغربي المعاصر، يتوجّب بالضرورة الحديث عن "الحساسية الجديدة" داخل هذا الفن. هذه الحساسية ليست فكرة شكلية؛ إنها كما يقول إدوارد الخراط، مرتبطة بالتطور الاجتماعي والتاريخي.

ما يميّز هذه المرحلة الممتدة إلى يومنا هذا، منذ أربعة عقود وما يزيد، في المغرب هو انفتاحها على تجارب عالمية ومتغيّرات العالم سياسيًا ومعلوماتيًا وتكنولوجيًا، وأيضًا تعدد زوايا اشتغالها الفني (الصوفي، الذاكرة، الجسد، الروية الاجتماعية - السياسية، الأرض والحدود، الرؤية الحضارية، الهوية...). وهنا تكمن "الحساسية الجديدة"، أي إمكانية الفنان المعاصر التفاعل مع كل الأساليب والتعابير الفنية الأخرى والثقافية والحضارية، مما يقدم للفنان امكانية الانفتاح الأوسع على كل التجارب، فالأمر شبيه بالإصابة بحساسية معدية إلا أنها حساسية نافعة، بمعنى من المعاني.


* هذا الكلام يقودنا إلى الحديث عن وجود حساسية جديدة وأخرى مقابلتها؟ فأين نلمس الاختلاف؟

أي نعم فنحن حينما نقول حساسية جديدة، فبالضرورة نحن نشير بشكل ضمني، أو نتبنى وجود حساسية قديمة، هذه الحساسية التي يُمكن أن نصطلح عليها بالتقليدية أو التقليدانية، إن أردنا أن نذهب إلى حد أبعد في الوصف. تقليدية أو تقليدانية لأنها لم تستطع الخروج عن نسقيتها الأكاديمية ومن تبعيتها للمدرسة التي تدعي الانتماء إليها. تقليدية لأنها تعتمد قواعد مجرّبة وموصوفة، وسائدة، في الإحالة على الواقع بشقيه الذاتي والاجتماعي، هي قواعد المحاكاة الأرسطية العريقة، ولأنها ظلت حبيسة محاولة يائسة في نقل هذا الواقع، لا الانتصار عليه. فما غاية الفن اليوم، سوى التغلّب على هذا الواقع. التغلب عليه أي جعله ينساق داخل قالب يضعه الفنان لعمله، قالب بقدر ما يشتغل داخله، يتمرد عليه. هنا يكمن الحديث عن الحساسية الجديدة، فهي بقدر ما تقفز على القديمة، لا تتجاوزها أو تتنكر لها. فهي اتجاه فلسفي وفكري وفني يبحث عن التجدد المستمر مستدرجًا الماضي داخله، محاولاً إعادة قولبته وتدويره وتغليفه. فالفنان ليس ابن جيل عرضي، فهو منتسب إلى الصيرورة التاريخية.

والحساسية الجديدة ظاهرة مظلية شاملة تتحدد بسمات عامة. لكنها تتنوع في داخلها إلى تيارات ومدارس متعددة. هي تتميز على كل حال في أنها انقلابية على قواعد الإحالة إلى الواقع. إن الحساسية التقليدية رافد من روافد السلطة في "الواقع"، بينما تشير الحساسية الجديدة إلى عكس ذلك، ولذلك فهي تحمل استشرافًا لنظام جديد اجتماعيًا وثقافيًا على السواء. وبهذا المعنى فإن الحساسية الجديدة هي أيضًا نظام جديد في الفن. كما أنها تستشرف نظامًا جديدًا للمجتمع. بالمختصر فالحساسية الجديدة هي تحطيم الترتيب العقلي المنطقي للعمل الفني.


* بهذا المعنى ألا يمكننا القول بأن "الحساسية الجديدة" قد تشكل قطيعة مع الحداثة؟

الحساسية الجديدة ليست بعكس الحداثة أو قطعًا معها أو شيئًا من هذا القبيل، بل هي استمرار لها، بكونها هي ما بعد الحداثة والمعاصرة، عندي، في آن، إنها استمرار للحداثة واستقراء لها، وتطبيق لما بعد الحداثة، وانتماء للمعاصرة، إنها بهذا المعنى ليست قطعًا ولا تجاوزًا بل هي خلق جديد، واستدماج واستدراج عقلاني وفني. إنها بمعنى آخر إعادة كتابة الحداثة وترتيب أفكارها داخل النسق المعاصر للعالم وأفكاره. إنها استثمار لمستجدات الفلسفة والتقنية وتوظيف للأصيل ضمن المعاصر.

فالحساسية الجديدة دعوة إلى الابتعاد القطعي عن المحكيات الكبرى، والبحث الدائم والمستدام على أساليب جديدة ومتجددة فاتحة النوافذ على تعدد التأويل وتعدد القراءة باعتبار التأويل وتعدده هو ما يخلق للعمل الفني روحه وحياته، فبدون إمكانية التأويل المتعدد لا وجود للعمل الفن إذ يصير مجرد غرض ديكوراتي لا غير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.