}

حمادي بن جاء بالله: مهددون بالخروج من التاريخ

عيسى جابلي 20 يونيو 2017

حمادي بن جاء بالله مفكر تونسي وأستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، وهو أستاذ مبرز في الفلسفة، وحاصل على دكتوراه في تاريخ الفلسفة الحديثة، ودكتوراه الدولة في إيبستمولوجيا العلوم الفيزيائية الحديثة. له مساهمات علمية منشورة في مجلات ودوريات عربية وأوروبية، منها الموسوعة العالمية للتربية والموسوعة الفلسفية العربية، وله مشاركات في ندوات وملتقيات علمية في شتى بلدان العالم كفرنسا وإسبانيا وكندا وأميركا. من مؤلفاته: "تحولات العلم الفيزيائي ومولد العصر الحديث"، و"العلم في الفلسفة"، و"الزمن المطلق في الميكانيكا النيوتونية" و"تكون مفهوم القوة في الفيزياء الحديثة".

الدكتور بن جاء بالله واحد من الوجوه الفكرية التونسية المعاصرة، التي أعلنت مؤخراً بعث "معهد البحوث في الأديان". التقيناه فكان لنا معه الحوار التالي عن المعهد وأهدافه، وعلاقته بالراهن العربي الإسلامي المتشعب وأدواره المنتظرة في ظل مستقبل غامض.


* أعلنتم منذ أيام عن تأسيس معهد البحوث في الأديان، عرفنا بهذا المشروع وأبرز أهدافه.

  معهد الدراسات الدينية الذي بعثناه كان عندي استجابة عملية قانونية لمستحث نظري ذاتي، ولداع خارجي موضوعي. وقد سعدت بالتقائي في هذا الاتجاه مع ثلة من أعلام بلادي، في مقدمتهم الأساتذة الصادق بلعيد وعمار المحجوبي وحمادي صمود ووحيد السعفي... ولا أحب أن أتحدث عن المعهد إلا من وجهة نظري التي لا تلزم إلا شخصي.

أما في ما يتعلق بالمستحث الذاتي، فقد راودني منذ عهد بعيد حلم الحرية وهو يرهقني حتى اليوم، إذ إني أعتقد مخلصاً أني لم أتجاوز في فهمه "صبح الأعشى" رغم معاودة الجهد يومياً، ورغم جدية ما تخيرت لنفسي من مرجع فلسفي، أعني كانط. في لقائي الأول بكانط ختمت أطروحتي عنه أي "الدكتوراه الصغرى" كما كنا نقول باقتراح ''مقالة'' هي موقف فكري وأخلاقي وسياسي معاً: إن الحرية والحقيقة من جهة ما، هما مبدآن مطلقان وإنجازان تاريخيان من خير ما يمكن للمجتهد أن ينذر لهما الحياة كلها. وهو ما بقيت وفياً له إلى يوم الناس هذا. البحث في الحقيقة قادني إلى البحث في نشأة العلم الفيزيائى الحديث في سياق "الثورة الفلكية الكوبرنيكية"، وكان ذلك موضوع دكتوراه الدولة. بقي علي أن أواصل البحث في الحرية. وقد قادني ذلك إلى النظر في النصوص المؤسسة عامة "الفلسفية وغير الفلسفية"، ومنها النصوص "الدينية" السماوي منها وغير السماوي. لذلك صادف تأسيس المعهد هوى في نفسي وحاجة ذاتية وطيدة.

أما الداعي الخارجي فيتمثل بالخصوص في ما تشهده أوضاعنا الراهنة، تونسيين ومغاربيين، وعرباً ومسلمين، من وهن حضاري شامل لعب في تكريسه ''الإسلام السياسي'' الدور الأكبر. وأخطر ما يتهددنا بسببه خروجنا من التاريخ حتى من موقع المنفعل به فضلاً عن موقع الفاعل فيه.


* لماذا التركيز تحديداً على المسألة الدينية وكل ما يتصل بها من إشكاليات ثقافية ومعرفية وسياسية؟


 يحسن في ظني التمييز بين موضع الاختيار وموضع الاضطرار عند مؤسسي المعهد. فمن جهة الاختيار فإن جميعنا من المهتمين منذ عهود بتأمل الإسلام كل حسب اختصاصه. أذكر أن أول عمل قمت به في هذا الاتجاه كان محاضرة ألقيتها سنة 2005 ببيت الحكمة موضوعها "خلق آدم" ومعاني التكريم الإلهي، وانتهيت فيها إلى أن قدر الله في البشر أنه خلقهم أحراراً، وأن كل وصاية على البشر إن هي إلا خرق للإرادة الربانية. ولا نية لي في تغيير قبلتي. الأستاذ عمار المحجوبي من خيرة مؤرخي العصور القديمة، ويكفي قراءة دراسته الأخيرة عن وضع "سدرة المنتهى" في النصوص القديمة لندرك ما تنظره منه الدراسات الدينية من أنوار غير مألوفة. الأستاذ بلعيد وضع كتابه في "القرآن والتشريع" منذ 1999، فضلاً عن أن الإسلام كان دائماً مما يستضاء به في التشريع العالمي. اعتناء الأستاذ صمود بالقرآن لازمه منذ حياته الطالبية، فلا يمكن التعمق في علم البلاغة دون أن تتخذ القرآن لك كتاباً. الأستاذة حياة عمامو مختصة في التاريخ الإسلامي وهي - في رأيي - أقدرنا على تصحيح رؤية العربي تاريخَه العام وتاريخه الديني. ولكني أخص بالذكر الأستاذ وحيد السعفي الذي يمكن اعتباره في تونس وخارجها عن جدارة من الفاتحين لآفاق جديدة في فهم الأديان، ظواهر ومعتقدات.

أما موضع الاضطرار عندنا جميعاً، فهو موضوعي. ويبدو لي شخصياً أنه يمكن التعبير عنه كما يلي: كيف نفسر أن المطلب الاجتماعي - السياسي لا يعبر عنه في الغالب في البلاد العربية إلا دينيا؟ وكيف نفسر أن الاحتجاجات الاجتماعية-السياسية المتسربلة ''بالإسلام السياسي'' انتهت اليوم إلى تدمير الأوطان، شعوباً ودولاً وإنجازات على نحو ما نشهد ذلك في أراضينا المنكوبة، في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان.. كيف لعقيدة التوحيد أن تنتهي - حين تصبح سياسة – إلى فتنة؟

خذ، على سبيل المثال، عندما نسجل مدى انقدار فكرة "العصبية'' الخلدونية على الكثير من الأوضاع في البلاد العربية، لنا أن نتساءل عما إذا كان ذلك دالاً على كونية صدقية المقالة الخلدونية، أم على تأخر أوضاعنا تأخراً شدنا إلى "وجود –"قبل –سياسي" حزين"؟ وهل من قبيل الصدف أن البلاد العربية التي حلمت طويلاً بالوحدة من "المحيط إلى الخليج" استيقظت ذات يوم فإذا هي شظايا، قبائل، وجهات، وعرقيات، وانتماءات عقدية وحزبية حزينة؟ كيف لحلم الوحدة، وهو أزكى أحلامنا وأنفعها، أن ينتهي بنا إلى الدرك الأسفل من الوجود التاريخي؟ فالأمر يدعو فعلاً إلى التفكير، أي إلى محاولة ربط الآثار بالعلل أملاً في أن نهتدي إلى سبيل الخلاص. وما ذلك بعزيز على المثقف التونسي عامة والجامعي خاصة.


* من خلال ما أعلنتموه في الندوة الصحافية من برامج بحثية قادمة ستكون محور اهتمام المعهد، نلاحظ أن المعهد يريد المحافظة على صلته الوثيقة بالجامعة بالتأكيد على "الموضوعية" و"الحياد" و"صرامة المنهج"، ألا ترون أن المعهد بهذه الصيغة سيكون أكاديمياً نخبوياً يتوجه إلى فئة بعينها وسيخسر معركته أمام "الداعية"؟


 ربط العلاقات بمواضع البحث الأكاديمي في تونس وخارجها ومع منظمات المجتمع المدني ذات الهم المعرفي، كما مع المنظمات الدولية والإقليمية، وارد في برامجنا. ولا ريب في أن التعاون سيكون أوثق مع الجامعة التونسية والمؤسسات الثقافية المختصة، على أن يكون العمل مع الجميع وفقاً للتقاليد الأكاديمية العالمية. هذا معيار نحن من أشد الناس حرصاً عليه.
هل سيفضي بنا ذلك إلى ما سميته "النخبوية"؟ أعتقد أنه آن أوان المقاربة الجادة لثقافتنا في جميع أبعادها. ويبدو لي أن مقارباتنا حتى اليوم توزعت بين أصناف ثلاثة:

1/ صنف "ما تحت العقلاني"L’infra-rationnel ، وأعني بذلك المقاربات التي تخاطب فينا الغريزة والنرجسية وجميع مركبات النقص ونتائج الإحباط الشخصي والجمعي وذكرى الإهانة الاستعمارية، وما ينشأ عن هذا وذاك من عنتريات كثيراً ما تتزين بالتقوى لتتحول إلى خطر على الذات وإلى حرب على الإنسانية. وهذا منزع زادته الفضائيات ودجل بعض "المتفلسفة" و"المتفيقهة" استفحالاً.

2/ الصنف الثاني هو المقاربة العقلانية: وهي أنواع تدور جميعها على إشكال الحقيقة والخطأ والموضوعية والدقة إلخ.. كأن نميز بين حقيقة الدين وانزياح الشعور الديني أو صحة العقيدة وفساد التاريخ. المهم هنا أن المقاربة تجتهد في بيان وجوه الارتباط السببي بين وقائع التاريخ المعيشة وانسياب آثارها في الوعي وما تحت الوعي الجمعي Le subconscient، وفي الأبنية الثقافية حتى يفضي تراكمها إلى التفريط في المبادئ السامية إلخ.. المبدأ هنا هو رد "اللامعقول" الاجتماعي والسياسي إلى "المعقول" الديني المتعالي اللاهوتي أو الفلسفي. وهذا الضرب من المقاربة يفضي بطرق شتى إلى تأثيم الحاضر وإدانة التاريخ لتبرئة الدين والدعوة إلى العود إلى "منابعه الصافية".. إلخ. وينتهي بالمجتهد إلى وضع الواعظ العاجز.

3/ الصنف الثالث من المقاربات أقترح أن أسميه المقاربة "فوق العقلانية"Sur- rationnelle، وهي المقاربة التي تبدو لي مؤهلة لفهم الظواهر الثقافية عامة بما في ذلك المسألة الدينية.

ومبدأ هذه المقاربة يقوم على "قيمة" أو "فكرة" لا يمكن البرهنة عليها بحال من الأحوال لأنها ''فوق -عقلانية ''دون أن تكون لا عقلية Irrationnel. وصورة ذلك أن مجرد محاولة البرهنة عليها هو نفي صريح لها. وفي المقابل، متى سلمنا بها أمكنت البرهنة على معانٍ لا تحصى في الوجود البشري. هي شرط إمكان البرهنة دون أن تخضع هي ذاتها إلى البرهنة. وبالتالي فلا يمكن ردّها لا إلى مجرد "العقلاني"، أي ما كان قابلاً للبرهنة، ولا إلى ''ما تحت- العقلاني'' أي إلى ما كان تعبيراً عن الوجود الغريزي ، بل وجب الارتقاء بها إلى ما سميته "فوق-العقلاني". إنها فكرة "الحرية". فإذا ما وضعناها منطلقاً مطلقاً بان لنا مثلاً إمكان التوفيق بين فكرة "الخلق الرباني الحر"، يوم كان الإنسان "نسياً منسياً"، "مجندلاً بين ماء وطين"، و"الوجود البشري الحر" بما فيه من صخب وصمت وانتصارات وانكسارات، بين "الماهية" و"الوجود"، بين صرامة "الجهمية" وأريحية "المعتزلة". أعظم بُشرى أننا نكتشف بعض معاني "القدر" و"المشيئة الإلهية": "قدر الله" في الإنسان و"مشيئته" فيه أنه خلقه حراً بإطلاق. إنه "النبأ العظيم" الذي يقودنا تلقائياً إلى الكشف عن بعض معاني مقالة القائل في اليهودية والمسيحية والإسلام: "إن الله خلق آدم على صورته". وإذا كان لنا ذلك تبين أنه لا ضرورة لما يسميه البعض ضرباً من "الإلحاد المنهجي" ضماناً لموضوعية البحث، كما لا وجاهة للمقابلة بين "المثل" و"التاريخ"، أو بين الإسلام ديناً سمحاً ورسالة متعالية وتاريخ المسلمين المليء ألماً ومرارة ...ولنا في ذلك كله ركن وثيق يمكن الاستناد إليه في بناء إنسانوية جديدة.


* هل من توضيح لهذا المبدأ بخاصيته المنطقية والمنهجية؛ الأولى أنه لا يقبل البرهان من ناحية ويجعل البرهنة عامة ممكنة، والثانية أنه يغني عن ثنائيات يظنها كثيرون من الضرورات المنهجية؟


 البرهنة على الحرية معناه أنك تجعلها ناتجة عن مبدأ سابق أو أكثر فتكون بذلك "نتيجة". ومجرد اعتبارها نتيجةً يُوقع المستدِل عليها في تناقض مع مفهومها، لأن كل نتيجة إنّما تستمد من سابق عليها، وبالتالي فهي تقال على جهتي الضرورة والإضافة، أو قل "الحتمية" و"النسبية"، والحال أن الحرية هي ما لا علة له. الحرية هي ما لا سبب له وهي بالتالي مطلقة. وعن هذا المبدأ الأول المطلق منطقياً وأنطولوجياً تنتج آثار لاحقة يتحدد بها ملكوت التاريخ. فلا وجود "للإنسان" ولا "للتاريخ" إلا بالحرية. فهي العلية الأولى أنطولوجياً، وهي قدرنا الأصلي أنتروبولوجيا. وبذلك يكتسب التاريخ معنى هو به موضع إنجاز الحرية. وبذلك يرتقي الوعي البشري إلى حقيقة الملة الإبراهيمية الواقعة بين الإعلان الرباني المتعلق "بجعل خليفة في الأرض" (البقرة 30) وتحميل آدم مسؤولية وجوده كاملة بخروجه رمزيا من" الجنة" (طه 121/122).

المنطلق "فوق العقلاني" الذي أقترحه يمكن الاستئناس بالرياضيات لفهمه. فقد بين في بداية ثلاثينيات القرن الماضي ك. قودال K. Gôdel ، خلافاً لطموحات لايبنينتز صاحب نظرية الامتداد المنطقي Panlogisme، ولما أنجزه جيل كامل من الرياضيين في ذاك الاتجاه، بينو Peano، وهيلبارت Healbert، وروسل Russell.. إلخ، أنه لا يمكن لأي نسق رياضي أن يكتمل أو "ينغلق" بحيث يمكن له أن يبرهن على جميع مبادئه المؤسسة دون اللجوء إلى مبدأ لا برهان عليه ضرورة (انظر مقالته الشهيرة المنشورة في Cahier pour l’analyse N 10 .La formalisation .Travaux du cercle d’épistémologie de l’Ecole Normale Supérieure, Paris, Seuil, 1969, p. 84-107). والحق أن المبدأ أقدم منه بكثير، إذ سبقه إليه الفيلسوف التونسي تارتولين Tertullien منذ القرن الثالث ميلادي وتبعه فيه لايبنينتز وباسكال ونيتشة وكياركيقارد وهيغل وحتى ديكارت وكانط وإن بصيغتين مختلفتين..


* هل تتصورون أن المعهد وما سينتجه من معرفة ودراسات وبحوث يمكن أن ينفذ إلى أذهان الناس البسطاء الذين يعمّر أذهانهم وقلوبهم "الداعية"؟ وعلامَ تعوّلون في تحقيق هدف كهذا؟


 لا شأن لنا بالدعاة ولئن وجب التصدي لهم فسنتصدى بوصفنا مواطنين. ولكننا لن ندعو باسم "العلمية" إلى "إلجام" أيّ كان عن الخوض في ما نتأوله من المسائل، بل يقتضي الأمر سماع الجميع سواء للاستفادة مما علموا، أو للوقوف على مصاعب التعلم والإعانة على تجاوزها. شعوبنا في أمسّ الحاجة إلى أصوات جديدة.


* رغم كثرة الدراسات والكتب والبحوث العلمية والأكاديمية التي أنتجتها الجامعة التونسية خلال الأربعين عاماً الماضية، إلا أن تونس ظلت الممول الأول للحركات الإرهابية. كيف تفسرون هذه المفارقة الصادمة؟


 مرة أخرى أجد نفسي مكرهاً على إدانة السياسة الخرقاء التي انتهجها بعض "قادة" الحزب الاشتراكي الدستوري في مواجهة خصومه منذ سبعينيات القرن الماضي، يوم غرسوا ما كان يسمى "الاتجاه الإسلامي"، الذي تحول رويداً رويداً من مجرد مقاوم لليسار، وهي المهمة الفعلية التي كلفه بها حمقى "الدساترة"، إلى عائق يحول موضوعياً دون تقدم التونسيين جميعاً. وقد بان ذلك جلياً في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي خاصة، ثم بداية من 1997، حتى انفجار الثورة الوطنية القائمة. كما تجلى بوضوح تام زمن حكم الترويكا. والأمل معقود اليوم في عهد ثورة شباب مدرسة الجمهورية في أن يعود "الإسلام السياسي" إلى رشده ليساهم في بناء الوطن بدل مواصلة تبديد قواه، والزج بشبابه في متاهات الضياع والجريمة، بما في ذلك تقتيل أبناء شعبنا في سورية والعراق وليبيا.


* هل ترون أن الإسلام السياسي – ممثلاً في حركة النهضة – قد آمنت (الحركة) فعلاً بالدولة المدنية وانصاعت لشروطها أم أنه مجرد "تكتيك" من أجل البقاء؟

 عودة "الإسلام السياسي" إلى أحضان الوطن وارد ومندوب إليه، ولا بقاء له إلا بها، وفيها خير كثير لتونس، والإسلام السياسي أيضاً. زمن الوهم والإيهام بلغ اليوم مداه الأقصى. منهج استغلال وضع "الضحية" لم يعد منتجاً. ما بلغه "الإسلام السياسي" من الانتشار النسبي في بعض الأوساط كان نتاج تيه طال أمده، لعب فيه "الإسلام السياسي" وجانب نافذ من "الحزب الاشتراكي الدستوري"، دور تخريب مكاسب دولة الاستقلال، وتعطيل شوق شباب تونس القديم إلى "الشغل والحرية والكرامة الوطنية". ومتأمل التاريخ الوطني الحي يدرك أن ما في أوضاعنا الراهنة من سوء لازم عن تحالف لم ينقطع بين الشق الفاسد من "الدساترة" وبين ما سمي "الاتجاه الإسلامي" منذ أكثر من أربعين سنة. قام هذا التحالف في إطار ما لقيته دولة الاستقلال الوطنية ذاتها من مصاعب في تلبية طموحات عالية ربت عليها شبابها في مدرسة الجمهورية. نجاح دولة الاستقلال في توعية الشباب وتحرير المرأة وتحديث الأبنية الفكرية وتثقيف الجمهور أنتج شعباً فشلت دولة الاستقلال ذاتها في الارتقاء إلى مستوى طموحاته، فكان نجاحها من أعمق أسباب مصاعبها وهو ما يجب أن يحسب لها ولبورقيبة خاصة.

الخطأ التاريخي الذي أضر بدولة الاستقلال وبالوطن أنها لم تعالج أسباب الفشل العلاج السليم، لأن ذلك كان يفترض تحولها إلى دولة وطنية ديمقراطية وهو ما لم تستطعه، فكان من "جهابذة الدساترة" من استعاض عن الحل الصحيح بالحل الفاسد وهو "الإسلام السياسي". لذلك كانت المساجد والجوامع ومطابع الحزب الحاكم ودور الثقافة ومصالح بعض الوزارات موضوعة تحت تصرف هذا "الإسلام السياسي"، وإن في "خفاء" يوجبه الظهور بمظهر "المعارض" للسلطة. لذلك كان على "الإسلام السياسي" أن يعود على ماض طويل من الأخطاء والأوهام والإيهام مع ما يجب من اليقظة الدائمة لا سيما وهو اليوم - بشكل ما - الحاكم الفعلي في البلاد والسبب الرئيسي في فساد أوضاعنا.. ومع ذلك فلا يأس من أحد.. وهل العبقرية إلاّ صبر طويل؟


* بعد أكثر من قرن من الدعوات إلى "المراجعة" للتراث والتاريخ، ها إنكم تدعون أيضاً خلال الندوة الصحافية إلى تقديم المعهد إلى مراجعة الموروث والتاريخ، هل هذا اعتراف بفشل ما قدم سابقاً فشلاً يدعمه الواقع بعشرات الحركات الإسلامية التي توجت بـ"داعش"؟ أم هو مواصلة للطريق نفسها؟

  مجهودات التنوير اليوم تخترق ظلمات تراكمت على امتداد القرون. وبالتالي فلا بد من معاودة الجهد. أما ما ذكرت من قوى الردة فهي كما قلت نتاج ما فشلت دولة الاستقلال عامة في تحقيقه. وبالتالي فمغالبتها لا تكون إلا بتلبية أشواق التونسيين والإصغاء الجيد إلى مطالبهم. مقاومة الجهل لا تكون إلا بالعلم، ومقاومة الفكر المقفل لا تكون إلا بتكوين الفكر النقدي، ومقاومة انتشار ثقافة الحقد لا تكون إلا بنشر ثقافة الحرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.