}

جويس كارول أوتيس: اسألوا أجدادكم، كونوا قريبين منهم

1 نوفمبر 2017
حوارات جويس كارول أوتيس: اسألوا أجدادكم، كونوا قريبين منهم
جويس كارول أوتس (غيتي)

في كتابها الأخير "منظر مفقود" الذي صدر مؤخراً عن منشورات "فيليب راي"، تعيد الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتيس رسمَ طفولتها منذ سنوات الأربعينيات، هي المولودة عام 1938 في مزرعة ميلبورت بولاية نيويورك، حيثُ ترعرعت طفلةً "منعزلة وسرّية"، في أحضان والديها ووالديّ أمّها بالتبنّي، رفقة أخيها روبين وأختها لين المصابة بمرض التوحّد العميق، والتي خصّصت لها فصلاً مؤثّراً في الكتاب بعنوان "الأخت المفقودة: رثاء". هو "منظر مفقود" لأنّ كلّ شيء قد اختفى: "دُمّرت المزرعة وتوفي والداي"، تقول الكاتبة، مضيفةً أنّها كلّما توغّلت في هذا الماضي أحسّت بأنها تصير "شبحاً" قادماً من الحاضر. وقد جاء هذا الكتاب على شكل ثلاثين نصاً، عبارة عن مذكرات تطلّبت كتابتها عشرين عاماً، ومن وراء هذه الطفولة يكتشف القارئ أميركا الريفية والشعبية: 

 

*لماذا قرّرتِ جمعَ هذه النصوص؟

من بين جميع كُتبي، تطلّب منّي هذا الكتاب الوقت الأطول. هو الوحيد الذي استلزم مثل هذا الوقت، أقصد مدّة عشرين أو خمسة وعشرين عاماً. في العادة، حين تأتيني فكرةُ إنجاز كتاب، أبدأُ بسؤال نفسي عن مدى قُدرتي على كتابته، ثمّ بعدها أضعُ الخطوط العريضة والتصميم، وأكتبُه خلال أشهر، أو حتّى سنة. لكنْ حالةُ هذا الكتاب تختلف كثيراً، لقد وُلد من طلبات متعدّدة توصّلتُ بها خلال العشرين سنة الماضية. فمثلاً، طلب مني ناشر مجلة "نيويوركر" يوماً: لماذا لا تكتبين لنا نصاً عن الطفولة؟ وفي يوم آخر، طلب مني ناشر مجلة "نيويورك تايمز" أن أكتب عن أبي، بينما طلبت منّي "أوبرا وينفري" مساهمة عن أمّي. ثمّ هناك من طلب الكتابة عن الحيوانات - أنا أحبّ الحيوانات كثيراً-، وآخر طلب الكتابة عن صداقة الطفولة...

أيضاً تكرّرت أسئلة أخرى: ما هو أوّل كتاب قرأتُ؟ وأيّ نوع من الطالبات كنتُ؟ وما طبيعة العلاقة التي جمعت بيني وبين مدينة "ديترويت" (حيث عشتُ هناك طويلاً، وهي فضاء رواية "مياه" 1969)؟ لم أكن لأكتب نصاً واحداً من هذه النصوص لو لم يطلبوا منّي ذلك. فعلى سبيل المثال، عندما طلبت منّي مجلة أن أكتب عن أوّل رحلة لي بالطائرة كان ذلك دافعاً لي لكتابة نصّ عن أبي وحبّه للطيران، وهو نصّ موجود في الكتاب.

هكذا، تراكمت لديّ هذه المقالات الشّخصية، وفكّرت أن أجمعها وأنقّحها قليلاً حتّى تشكّل ما يُشبه قصّة حياتي، يمكنها أن تجيب بطريقتها الخاصّة على السّؤال الأكثر شيوعاً في الحقيقة: كيف أصبحتُ كاتبة؟  

 

*لا يتعلّق الأمر بسيرة ذاتية، بل بلحظات مُستعادة...؟

تناسيتُ في الكتاب أشياء كثيرة، ولم يكن لديّ دفتر يوميات أو مذكّرات يمكنني الرجوع إليها (بدأتُ كتابة يومياتي خلال سنوات السبعينيات). وعلى كلّ حال، فإنّ مبدأ كتابة المذكرات، هذا النّوع الأدبي الذي يحيل عليه الكتاب، هو الانتقاء. هل تريدين أن تكتبي عن أصدقاء المراهقة، أو عن الأشخاص الذين تعرّفتِ عليهم في الثانية؟ قد يكون عددهم عشرة أو عشرين شخصاً، لكنّك سوف تختارين واحداً أو واحدة، وسوف تركّزين فقط على هذا الشّخص. وعلى نفس المنوال، رافقتني حيوانات كثيرة خلال حياتي، القطط على الخصوص - أعيش حالياً مع قطّة أحبها جدّاً، وهي في الثالثة عشرة من عمرها-  لكن من أجل الحديث عن العلاقة مع الحيوانات خلال طفولتي، فقد اخترتُ حيواناً واحداً، ولم يكن قطّاً وإنّما دجاجة كنّا نلقّبها "سعيدة" وكنتُ متعلّقة بها كثيراً.

 فعلتُ نفس الشيء عند كتابة "شقراء"، وهي رواية توثيقية عن حياة مارلين مونرو. فمارلين حينما كانت طفلة تنقّلت بين عائلات كثيرة كانت توفّر لها الرعاية، ولكنّني لم أذكر منها سوى عائلة واحدة. وحينما صارت امرأة، تعرّضت لحالات إجهاض كثيرة، لم أذكر منها سوى واحدة. أختار عنصراً أو حدثاً يجسّد كلّ شيء، وإلّا ستكون القصة متكرّرة ومملّة.

 

*كتبتِ عن هذه الطفلة التي عاشت في ريف أميركا خلال سنوات الأربعينيات، ويضمّ الكتاب صورا فوتوغرافية كثيرة لها، لكنّها لا تشبهك في الحقيقة؟

حين نشاهد صورنا القديمة في الطفولة لا نصدّق أنّنا كنّا هكذا، أليس كذلك؟ وفي نفس الوقت، هذه الصور هي الدليل الوحيد الذي في حوزتي عمّا كنته سابقاً: طفلة بفستان لا أذكر منه شيئاً، وأشرطة في الشعر. ما نحتفظ به في الذّاكرة عن الطفولة التي عشناها ضئيلٌ جداً. نحتفظ بأشياء قليلة من كلّ ما عشناه...لم أكن لأعرف كيف كنتُ أبدو حين كان عمري أربع سنوات لولا صور تلك الفترة. من خلاها أيضاً عرفتُ أنّ أمّي كانت تضفر شعري، وبدون هذه الصور لم أكن لأتذكّر هذا التفصيل على الإطلاق.

 

*فضلاً عن الطفولة، يحضر والداك في الكتاب كشخصيتين رئيسيتين. أنتِ رسمتِ لهما بورتريهين مؤثّرين، وكشفتِ عن مشاعر الاعتراف نحوهما. أليس هذا الحنان تجاه العائلة واقعاً بالنسبة لجميع الكتّاب؟

لقد اكتشفتُ، متأخّرة جدّاً في الواقع، أنّ العديد من الناس - بينهم عددٌ من الكتّاب-  ينتقدون آباءهم وأمهاتهم، وأحياناً تصل الأمور إلى حرب مفتوحة.  شخصياً، لم أكن أبداً في صراع مع أمّي أو أبي، بل كنّا متواطئين جدّاً، لقد توفّي كلاهما، في بداية الألفية الحالية. يقول لي أصدقائي دوماً: كم تختلف والدتك عن والدتي، وكم أنتِ محظوظة لأنّ والديك لم يبخلا عليك بالتّشجيع لتصيري ما أنتِ عليه؟ لم أكن على وعي بذلك حينما كنتُ شابّة، لكن الصحيح أنّ والديّ كانا يدعمانني دائماً. هما كانا غير متعلِّمين، لكن نزولاً عند رغبتي الكبيرة في أن أصير معلّمة، قاما بتسجيلي لمتابعة الدروس. وحين شرعتُ في الكتابة، كانا سعيدين بذلك. في الواقع، كلّ ما كنت أقوم به كان يحظى بموافقتهما، وكنتُ سعيدة بهما.

 

*ما هو الشعور العام الذي بقي لديك عن الجوّ العائلي؟ حين نقرأك نشعر أنّ ثمّة حناناً حقيقيّاً؟

عشتُ طفولة سعيدة، بل يمكنني القول سعيدة بشكل غير طبيعيّ ! لم يكن لدينا الكثير من المال، لكن منزلنا كان يبدو لي دائماً بمثابة ملجأ.  قد يكون العام الخارجي عنيفاً، وكانت تحدث أحياناً أشياء مقلقة، فمثلاً أتحدّث في الكتاب خصوصاً عن تلك الصديقة التي كانت تسكن بالقرب منّا، وكان أبوها سكّيراً وعنيفاً جدّاً. لقد كان أبي هو الحامي. لو كنت قد نشأتُ في أسرة أخرى، لصرتُ شخصية مختلفة تماماً...

 

*ثمّة نوع من اللّازمنية ينبثق من الحكاية: تجري في سنوات الأربعينيات، لكن يمكن أن تعود إلى ما قبل خمسين سنة من ذلك. هل هي طفولة أميركية خارج الزمن تقريباً؟

صحيح، كان يمكن للحكاية أن تجري قبل قرنٍ من الزمان. منذ أن دخلَت الثورة الإلكترونية، صار الناس يعيشون بشكل مختلف. إنّهم على علمٍ بأشياء كثيرة، لا سيما وجود حيوات مختلفة عن حياتهم، ولهذا هم معرّضون دائماً للشعور بالغيرة أو الحقد. لكن قبل وصول التلفزيون إلى البيوت، كان الأفراد أكثر عزلة، ولم يكونوا يقارنون مصائرهم بمصائر الآخرين. قالت لي أمّي في أحد الأيام، وكنت قد بلغت سن الرشد:" أتخيّل أننا كنّا فقراء، لكنّنا لم نكن نعرف ذلك". اليومَ صار العالم أكثر وعياً بذاته. وصار من المفروض حيازة عدد كبير من الأشياء متفاوتة الفائدة، خصوصاً بالنّسبة للشباب. لا شيء من هذا كان موجوداً في السابق. وبهذا المعنى، كنّا أكثر حرّية.

 

*تحضر الحكاية الجماعية متشابكة مع الحكاية العائلية والحميمية في نفس الوقت. أفكر في موجات الهجرة المتتالية التي عرفتها الولايات المتحدة خلال القرن 19 والقرن 20 ، والتي تنحدرين منها، وأيضاً في وضعية النساء التي نشعر أنّها تتطوّر مع توالي الفصول؟

نعم، أردت أن تتموقع الحكاية هناك. بخصوص النساء، أنا أنتمي لنساء الجيل الأوّل اللّواتي كان بإمكانهنّ ولوج الدراسات الجامعية، وشُغل مناصب المسؤولية بعد ذلك. أمّا بالنسبة لنساء الجيل السابق، فقد كان  ذلك مستحيلاً.  لو كانت والدتي قد وُلدت بعد جيل أو جيلين لأصبحت ممرّضة ناجحة. كما أظنّ أنّه لو أتيح لوالدي أن يتلقى تعليماً، لكان قد أصبح معلّماً.

 

*هناك أيضاً، في محيطك خلال مرحلة الطفولة، جدّتك البيضاء، أمّ والدك. هل هي الّتي علّمتك القراءة؟

نعم، لقد أهدَتني أوّل كتاب وأوّل رمز للدخول إلى المكتبة البلدية. في الواقع، كانت تهديني كتباً في كلّ أعياد ميلادي وكلّ أعياد رأس السنة. وهذا لم يكن شائعاً في تلك الفترة. ويعود لها الفضل سنة 1947 - وكنتُ في التاسعة من عمري- في اكتشاف "أليس في بلاد العجائب"، وهو الكتاب الذي غيّر حياتي ووجّهني نحو الكتابة، لأنه غيّر نظرتي إلى العالم، ودفعني لرؤيته مثل مشهدٍ غريبٍ وغامض، ومع ذلك آسِر. كانت تجمعني بهذه الجدّة "البيضاء" علاقة خاصّة جدّاً. وبالمناسبة، لديّ فوق نافذة المكتب، في غرفتي حيث أشتغل، صورة لها حين كانت في سنّ العشرين، وهي صورة مستنسخة في هذا الكتاب. هناك أيضاً ذلك الكولاج الذي صمّمته وأنجزته صديقتي، غلوريا فوندربيلت، والذي تظهر فيه جدّتي ووالداي وأنا. قدر الكاتب أن يكون وحيداً في أغلب الأوقات، وعزاؤه أن تحيط به مثل هذه الصور.

 

*ما هي الصّلة بين هذه الطفولة وحرفتك ككاتبة؟

أودّ القول إنّ الأمر يتعلّق بشغفي بالحياة الخارقة للنّاس العاديين. حينما كنت طفلة، كنت أشعر بفضول كبير نحو الأشياء التي لا نتحدّث عنها،  وفضول نحو صمت البالغين، الإرادي أو لا، الذي يغلّف بعض الأحداث العائلية: انتحار جدّي من أبي، والد جدّتي "البيضاء"، الّذي كان شخصاً سكّيراً وعنيفاً، ومقتل جدّي من أمّي حينما كانت هي ما تزال رضيعة، والهجران الذي تعرّضت له، حيث أوكَلت أمّها رعايتها إلى أختها الشقيقة، وهي من تعهّدت بتربيتها وتبنّيها إن صحّ القول...حين كبرنا أنا وأخي اكتشفنا أشياء مثيرة للدّهشة عن عائلتنا. وحتّى بخصوص مسار أجدادي من أمّي، المهاجرين من هنغاريا إلى الولايات المتحدة، لم نكن نعلم أيّ شيء. اليومَ، أتأسّف كثيراً لأنني لم أطرح عليهم أسئلة أخرى.  ودائماً ما أنصح طلبتي:  اسألوا أجدادكم، كونوا قريبين منهم، لأنّه يوماً ما سوف يكون الأوانُ قد فات.

ربما كانت كتابة الروايات بالنسبة إليّ وسيلة لعيش هذه الأسرار والتفكير فيها. حين أسترجع طفولتي، لا أتذكّر سوى محادثات عائلية لا جدوى منها. كانت والدتي مصدومة بسبب هجرانها في طفولتها - وفعلاً، يجب أن أعترف بحضور العديد من الأطفال المصدومين نفسياً في رواياتي- وحين كبرتُ كانت لي معها محادثات شجيّة. أتذكّرها الآن، وقد كان عمرها ثمانين عاماً، حينما تشرع في البكاء كلّما تذكّرت أنّ أمّها لم تمنحها الحبّ - في الواقع، أظنّ أنّ جدّتي كانت فقيرة جدّاً، وأرملة، ولديها الكثير من الأطفال، بحيث أنّ وضع أمّي تحت رعاية خالتها كان هو أفضل قرار يمكنها اتخاذه، لأنه على الأقلّ منح أمّي فرصة العيش. لقد عانت أمّي من ذلك طوال ثمانية عقود، حتّى نهاية حياتها. ولكنني حين كنتُ طفلة، لم تكن أمّي تتحدّث عن ذلك، ولم تكن تبكي. لم يكن والداي يشتكيان أبداً، كانا من ذوي القلوب الشديدة. لديهما مرونة كبيرة وكانا إيجابيين على الدوام. ربّما اتّخذتُهما نموذجاً في سلوكي: أنا لا أشتكي أبداً. وحين لا تكون بعض الأشياء على ما يرام في حياتي، لا أتحدّث عنها، حتى مع أقرب أصدقائي، أحتفظ بها لنفسي.

 

 

*أجرت الحوار ناثالي كروم، ونُشر بمجلة تيليراما الفرنسية في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2015.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.