}

عادل صياد: أنا حزين، لأنني لا أقبل بسعادة سخيفة!

عيسى جابلي 5 أكتوبر 2017
عادل صياد، شاعر يحمل خطباً ثقيلاً كما حمله الأنبياء والصدّيقون. يحمله في رحيله وفي مقامه مبشّراً به حيناً، لاعناً متمرّداً حيناً آخر. ربما ركب في غفلة من الزمن بيت المتنبي "على قلق" فمشى "كأن الريح تحته" بعيداً عن الجنوب أو الشمال، متمرّداً شاهراً في وجه العدم سيفاً من الكلم، أو لاهياً معرضاً عن زمن صار عقيماً، أو لاهثاً خلف معنى لا هو بالغُهُ ولا هو تاركُه، أو راحلاً من صقع إلى صقع ساخراً من الأرض وما عليها. أمّا نحن، الباحثين عنه، فشأنه معنا السخرية والغضب كأنّما هو أناس في إنسان، أو هو إنسان كلّ يوم هو في شأن. طلّق الشاعرَ فيه حتى ردمه يوماً في جنازة رسمية تناقلتها الأخبار، وإذا هو طائر مينرفا يأبى إلا أن ينبعث من رماده لنكتشف أنه كان ميتاً "على قيد الفايسبوك" لا أكثر، وأنه ما زال يردد "أنا لست بخير" لأسباب باح لنا ببعضها في هذا الحوار.

* أقدمت منذ سنوات على إحراق جميع دواوينك الشعرية ونظمت جنازة حقيقية لعادل صياد الشاعر بعد ديوانك "أنا لست بخير"، كيف ينظر عادل صياد الآن إلى تلك التجربة؛ تجربة قتل الشاعر فيه ودفنه بعد أن صار على مسافة زمنية كافية لتأملها بالعقل؟

انتبه أولاً إلى أنّ الحادثة وقعت في 20/05/2010، أشهراً قليلة قبل انهيارات وتحولات كبرى في المنطقة العربية، وكانت مرّت على إصداري الموسوم بـ"أنا لست بخير" بضعة أشهر فقط، وكانت صرخة شعرية مدوّية أطلقتها في وجه الهباء الشامل: هوية مغتصبة، انسداد الآفاق، انتشار الفساد، تراجع قيم العقل، استفحال الانبطاح، تمكّن الأمراض الدينية، وغيرها من الهواجس التي تضمّنها نصّي الملحميّ ذاك، ومنعه من التوزيع والتسويق من قبل جهات مجهولة، دونما أن تأخذ المسألة الطابع الرسميّ. كان منسوب الاستهزاء والمكاشفة والفضح في كتابي غير مقبول ولا مرحّب به طالما أنّ السقف المسموح به للشاعر في بلادي، هو أن يبقى خارج الأسئلة الحقيقية، ينتشي بالتعبير عن المشاعر والبطولات الوهمية والبكاء على الأطلال وغيرها من المواضيع الشعرية من العصر الطباشيري، غير المزعجة وغير اللافتة للانتباه. لذلك قرّرت أن أدفن هذا الكتاب ودواوين ومخطوطات شعرية، فأقمت لها جنازة حقيقية بمسقط رأسي، لعلها تثير الأحياء الأموات من الشعراء والمشتغلين في حقل الأدب، وكانت النتيجة مخيبة جداً، غير أنّها جلبت لي راحة نفسية غير مسبوقة. وبعد كلّ هذا الوقت لا أعتقد أنّ ما قمت به كان عملاً متهوراً غير ذي جدوى، بل منحني تقديراً ذاتياً لنفسي، وكشف لي عن حالة الجبن الشاملة التي زجّ فيها بالكتاب والصحافيين. أستثني هنا بعض الكتابات النوعية عن الحادثة وعن عملي الشعريّ، من قبيل ما كتبه الروائي الجزائريّ أمين الزاوي في ركنه الأسبوعي بيومية ناطقة بالفرنسية واسعة الانتشار، وما كتبته الصحافية القديرة حدّة حزام بعمودها اليومي بيومية الفجر، وما خصّني به الصحافيّ الكبير محمد دامو والشاعر المرحوم مالك بوذيبة.

* بعد هذه التجربة هل وجدت إجابة قاطعة لسؤال "هل يمكن قتل الشاعر بأي شكل من الأشكال"؟

لا، مستحيل، لا يمكن أبدا قتل الشاعر، لا بشكل ولا بآخر. قد يتمّ التنكيل به، لكنه ينتصر في الأخير، وأنا هنا أقصد الشاعر الحقيقي وليس ملايين الكتبجية المتطاولين على الشعر والراقصين في مواخيره العمومية الرسمية. لاحظ مثلاً ما تعرّض له صديقي الشاعر التونسيّ المرحوم الكبير محمد الصغير أولاد أحمد من قبل نظام بورقيبة وبن علي بعده، وكيف تعرّض للتعذيب النفسي والتشريد والطرد من العمل والتجويع الممنهج؛ ولأنه شاعر حقيقيّ، لم يستسلم وكان مؤمناً بقضيته الشعرية التي شكّلت مضموناً خطيراً لثورة الياسمين، وضعت الشاعر بكل زخم كتاباته وانخراطه في اللحظة وأهوالها، في واجهة الحراك وفي قلب التغيير؛ وصار بذلك رقماً مهماً في هذه الثورة ونال احترام الخصوم كما الجبناء وغير المعنيين، وانتصر على الجميع. الشعر الحقيقي لا يموت، لأنّه ينبثق في الوجود وينفذ إلى قلبه، خلافاً لكتابات متطفلة على الشعر، لا يشكل وجودها من عدمه أيّ تأثير، لا على الأحداث ولا على هوامشها: ثمّ فرق جوهريّ بين معزوفة خالدة تتوارثها الأجيال وبين طقطوقة في عرس بمنطقة نائية، ينساها الناس بمجرّد انتهاء المناسبة.


* على ذكر الشاعر الراحل أولاد أحمد، حدثتني أكثر من مرة بأن علاقتك به استثنائية، هلّا حدثتنا عن ذلك، وما الذي بقي من أولاد أحمد اليوم في نظرك؟

 يُمكنُ القولُ إنّ الصديق الفقيد الشاعر محمّد الصغيّر أولاد أحمد، الذي جمعتني به صداقة ومحبة عميقتان منذ عقد من الزمن، نال عن جدارة واستحقاق اعتبارَه شاعرَ تونس الجديدة، وأيقونة من قبيل مثيلاتها في السياسة والفكر والمجتمع. فإذا كانت ضريبةُ البراهمي وشكري بلعيد، مؤلمةً، فإنّ توديع أولاد أحمد إلى مثواه الأخير، لحظةٌ بغاية التراجيديا، لمسار التحوّل في تونس. فالشاعر اختار خطّه منذ البداية، أن يغرّدَ خارج السرب، ولا يتبع أيَّ قطيع، ما كلّفه سنوات منَ السجن، وأخرى بقطع الرزق، فلم ييأس ولم يستسلم. وبانفجار ثورة الياسمين، التحق أولاد أحمد تلقائياً بمركز "القيادة الشعرية للثورة"، وظلّ لسانَ حالها، يؤرّخ لحظة بلحظة، لمجرياتها، وانحرافاتها؛ في ميادين الاحتجاجات اليومية، عبر بلاتوهات التلفزيون واستديوهات الإذاعة، ومن صفحات الجرائد المكتوبة، كما في مواقع التواصل الاجتماعية، والنشاطات الثقافية والأدبية في تونس وخارجها. وربما يكون ما أنتجه خلال السنوات الخمس الماضية، يفوق بكثير ما أنجزه طيلة مسيرته. ولعلَّ أكبرَ ما يميّزه عن أترابه من كبار شعراء تونس والمنطقة المغاربية والعربية عامة، هو اعتباره "الكتابةَ" مسألة حياة أو موت، ومنفذاً وحيداً للبقاء.

وهو يصارع المرضَ خلال الأشهر القليلة الماضية، استقبلني ببيته لأيام، وكان قد عاد تحت تأثير العلاج الكيميائيّ، لم ينقطع تماماً عن التدخين، ويقول إنَّ اهتراء رئتيه راجع لنزلات البرد، وليس لأمر آخر. بل وصل به الأمر إلى حدّ الاستخفاف بالمرض العضال واعتباره عارضاً غير مقيم. والحقّ الحقّ، صدّقته في هذا، فالمرضُ كان آخرَ موضوع يتحدّث فيه برغم المتاعب التي ألحقها به، فكتبتُ له من الغرفة المجاورة لمكتبه، رسالةً فيسبوكية، قلتُ له فيها ما معناه إنَّ أكبرَ خطيئة ارتكبها هذا المرض الخبيث، هو اختياره الإقامة والانتشار في أحشاء أولاد أحمد، باعتبارها مناطق خطيرة ومستعصية، وكنتُ مقتنعاً بما أقول، وليس فقط من باب الرفع من معنويات هي في الأصل مرتفعة. أعجبته الرسالة فقام بإعادة نشرها على جداره، وهو يقهقه في وجه الألم، غير مبالٍ بخيبته فيه.

في تلك الأثناء كان يحدّثني عن مشروع زيارته إلى الجزائر في إطار "قسنطينة عاصمةً للثقافة العربية"، وكانت رغبته كبيرة بأن يزور الغرب الجزائريّ، لأنَّ صديقه عزّ الدين ميهوبي، وزير الثقافة، تفهّم ظروف علاجه، ومنحه بطاقة خضراء لزيارتها متى سمحت الظروف، غير أنّه ظلّ يماطل بانتظار أن يقضي على المرض تماماً، حتى قضى عليه الأخير، وهو في قمّة الحرص على نشر هذا الكتاب، والردّ على رسائل ومكالمات، وإبداء رأي تجاه قضية أو تحليل لظاهرة. فلقد كان الموت مستبعداً تماماً أمام رغبته باستكمال ما تبقى من مشاريع الحياة، بما في ذلك مشروع انتقاله إلى البيت الجديد بنواحي مدينة "مرناق"، وجعله "خلوةً" يطلُّ منها على نصوصه الجديدة. فتزامن استلامها بمغادرةٍ أبدية، لم يصدّقها حتى أقرب المقربين إليه، بمن فيهم زوجته السيّدة زهور وابنته "كلمات" ومقرّبون آخرون، لم ينقطعوا أبداً عن دعم مشروع بقائه على قيد الحياة. فقبل حوالي أسبوع من التحاقه بالرفيق الأعلى، هاتفته من نابل التونسية للاطمئنان عليه، فبدا لي صوته متعباً جداً، وقال لي بالحرف الواحد "صار لي بالمشفى العسكريّ بباب عليوة، وسط العاصمة تونس، 17 يوماً، لقد تدهورت صحّتي بشكل مفاجئ، لكنني سأعود قريباً. علّق المكالمة فسوف أعيد بك الاتصال لاحقاً لضبط لقاء قبل عودتك إلى الجزائر". ومع عودتي، ارتأيت أنّه من واجبي نقل شعوري بصعوبة وضعه للسيّد ميهوبي، وعلمت من أصدقاء مشتركين أنّه بصدد التحضير لزيارة سيقوم بها إلى تونس، مرفقاً بوفد من الكتاب الجزائريين من أصدقاء الفقيد للقيام بالواجب، بما يليق بشاعر تونس الكبير.. تماماً مثلما كانت الأيام الأخيرة لأبي القاسم الشابيّ بنواحي المشروحة بسوق أهراس.

في جنازته تدافعت النسوة لحمل نعشه ووضعه بمثواه الأخير، ضاربات عرضَ العبث بتلك العادات الذكورية في التشييع، وفاءً لمن قال "نساءُ بلادي نساءٌ ونصف"، فكانت ميتةً بغاية الرمزية وتكسير التابوهات الجنائزية؛ وكان الحالُ أقربَ إلى قصيدة يكتبها أولاد أحمد من غيابه، منها إلى تكريس عادات عنصرية في توديع الموتى. وهذه إضافة نوعيةٌ عجز عنها الملوك والرؤساء، في حياتهم كما في مماتهم؛ فيما نجح الشاعر، وهو ينتقلُ إلى الأبديةِ، في جعل المشيّعين جنساً واحداً ووحيداً، تجمعهم قيم الإنسانية والمحبّة الخالصة لوجه الشعر والإبداع. فهنيئاً لك يا صديقي هذه الميتةُ الباذخة بمعاني المحبّة والحياة، ولترقد حيث شئتَ، فهذه من "حالات الطريق" أيّها الرفيق.


* نعرف أن الشاعر المميز بوزيد حرز الله هو الذي جمع قصائدك التي كنت تنشرها على الفيسبوك وأصدرها في كتاب صدر عن دار العين تحت عنوان "ميت على قيد الفيسبوك"، ولكن نريد أن نحفر أعمق من هذا السبب المباشر لعودتك إلى الشعر: ما الأسباب التي جعلت عادل صياد يواصل كتابة الشعر – عن وعي أو دونه – رغم أنه دفن الشاعر فيه؟

أنا في الحقيقة لم أتوقف عن كتابة الشعر، فقط أعلنت موتي وتواريت عن الأنظار، لأرى ما سيحدث بعد وفاتي. وفي السياق الذي دام سبع سنوات، كنت مقلاً جداً في الاشتغال على موضوع الشعر، فكلما تفاقمت رغبتي بالكتابة، كنت أخطّها وأعبث بنشرها على حسابي الفيسبوكي وأوقعها بأسماء مجانين من منطقتي في تبسة، تفادياً للشبهة. كنت أرفع من سقف الكتابة وبهدوء وعدم تحمّل تبعات ذلك. وهنا يمكنني القول إنّ ما صدر عن دار العين "ميت على قيد الفيسبوك" كان صرخة أقلّ عنفاً، لكنها استمرار ناعم لثورة ذاتية، أعدت بها ترميم ذاتي وتحيين أسئلتي. كنت بحاجة ماسة لاستخدام أسلحة وأدوات شعرية جديدة، تبقيني من جهة على قيد الحياة دون لفت للانتباه، وتمكّنني من جهة أخرى، من إحداث دمارات شاملة بلا صخب. لقد أصبحت بذلك، في علاقتي بالشعر، أكثر حساسية بالمضامين والأشكال الجديدة، وأكثر التصاقاً بلحظتي التاريخية واشتعالاتها ودلالاتها. لم أعد بالنتيجة أدخل في معارك ومواجهات مباشرة ومحفوفة بالخطر، بقدر ما صرت أصنع المعارك التي أفوز بها مسبقًا، وأنكّل فيها بالأصنام والأشكال الجاهزة.

* الذي يعرف عادل صياد من قرب يجد تفسيراً لثالوثِ أعمدةٍ أراها شخصياً أسسَ كونه الشعري خصوصاً في ديوانك الأخير، وهي في نظري: الحزن والسخرية والتمرّد، إلى أي مدى تتفق معي في هذه القراءة لتجربتك الشعرية؟

هل تعتقد أنّ شخصاً مثلي، وبعد كلّ الأهوال التي عشتها في حياتي، أن أصير اليوم سعيداً مثل بقية الحيوانات الناطقة في زريبة معطوبي الكتابة والحياة؟ فالحزن كما السخرية والتمرّد، حالات متقدّمة من شعوري الراهن بأنّ خساراتي كانت جسيمة وممتعة، ولولاها لانتهى بي الأمر إلى مجرّد كاتب عموميّ، يمدح ويهجو ويعبّر عن مكبوتاته الجنسية. أنا حزين لأنني لا أقبل بسعادة سخيفة، وساخر لأنني لا أستطيع مواجهة الهباء والخواء بجدية غير محمودة العواقب، ومتمرّد لأنّ الوضع لا يناسبني تماماً ولا يشبهني ولا يغريني على الاستئناس إليه. ومن الطبيعي جداً أن أصل إلى طريق تبدو مسدودة، لكنني أعرف بحكم خبرتي في استخدام أسلحة الدمار الشامل، كيف أجعلها مسالك سرية، أنفذ منها إلى غاياتي وسبلي الشريرة للبقاء على القيد لأكبر وقت ممكن، والمشي بالاتجاهات التي أعتبرها أكثر أمناً، وتتيح لي فرصاً غير مسبوقة في جعل حياتي برمتها نصاً مفتوحاً على كلّ المخاطر. فأنا بحاجة للخطر كي أشعر بالأمان.


* نعرف شعراء كثيرين تختلف أساليبهم في الحياة عن أكوانهم الشعرية وما يؤسسون له شعرياً من مواقف وآراء وانفعالات، غير أنك، كما يلاحظ ذلك كثيرون، تعيش حياتك شاعراً بمعنى أن عادل يتطابق فيه الإنسان والشاعر. هل هذا اختيار؟ وما رأيك في من يؤسس شعرياً لما ليس هو؟

قد أكون أجبت عن هذا السؤال بشكل أو بآخر في الإجابة السابقة. ثمّ من يأخذون المسألة الشعرية بما يبدو جديةً زائدة عن اللزوم كما لو كانوا يشتغلون في الإدارات الرسمية العمومية ويحافظون على الدوام، وخارج أوقات العمل، يعودون إلى خمّ الحياة الطبيعية، وينشغلون بأخبار الترقيات ومصائر أبطال المسلسلات ونتائج الـ"بارصا" و"الريال"، ويتفاعلون مع هذه المسائل بجوهرية منقطعة النظير. ما يجعلني شاعراً باعتقادي، أو هكذا أتوهّم، أنّني نجحت في أن أبقى خارج القطيع. لا يثيرني ما يثير عامة الكتاب العموميين، فكلّ وقتي أقضيه في الحفر والبحث عن ذاتي وما يميّزها عن بقية دجاج الخمّ اللعين. فإن تطابقت حياتي إنساناً مع حياتي شاعراً، وهذا ما يحصل معي، فذلك ما أعتبره انتصاراً كبيراً لذاتي إنساناً قبل صفتي شاعراً: هل يمكن للواحد أن يكون شاعراً وهو عاجز عن أن يصير إنساناً؟ هذا هو السؤال الحقيقي باعتقادي. فرق كبير بين من يكتب ومن هو كاتب.. هذا هو الفرق.

* في ديوانك "ميت على قيد الفيسبوك" سخط وغضب توزّعه على الشعراء والهراء والأصدقاء والخواء والنقاد.. حمم من الغضب تنهال على العالم؛ ما سبب سخط عادل صياد؟ وهل يؤسس الغضب للشعر؟

عندما يكون الواحد سعيداً فمن الأفضل له أن يرسل بطاقات تهنئة للقراء والمعجبين، وليس نصوصاً. الغضب موقف وحالة وجودية، ورفض كامل الأركان لوضع غير مقبول، لا يستحقّ غير وضع الألغام لتهشيم أسسه وقطع الطريق على الوافدين الجدد إليه، انتصاراً للمستقبل. الغضب والرفض أساس من أسس كتابتي الأدبية، له مبرراته وأسبابه الذاتية والموضوعية، ولا أعتقد أبداً أنّ الفرح والطمأنينة والاستئناس حالات موقظة للرغبة والحاجة للكتابة. أعرف كتّاباً بغاية السعادة، حينما تقرأ أدبهم لا تكاد تفرقه عن البطاقات البريدية التذكارية الخالية تماماً من الأوجاع التي تخلّدها اللوحات الفنية، وهنا الفرق بين الأشكال الباهتة الميتة، والمضامين الغاضبة والحالمة التي تعجّ بالأسئلة والحياة. غضبي ناتج عن حيرة وليس عن سلوك شخص ما، وهو موقف وليس ردّ فعل.. هو سؤال وليس شعوراً، هو ما يدفعني إلى الأمام وليس ما يربطني بالماضي.


* تشير في متن "ميت على قيد الفيسبوك" إلى "شاعر قديم" تصفه بأنه "يقرأ بحماسة عروضية/ ما جادت به أمراضه النفسية"، وهذا يجرنا إلى الحديث عن موقف عادل صياد من "المعارك" والسجالات في الساحة الشعرية العربية عن العمودي وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ما جدوى هذه السجالات؟ وهل يمكن "الانتصار" لنوع شعريّ دون غيره في نظرك؟

هذه السجالات هي برأيي تعبير عن حالة متقدّمة منَ التعفّن والبهتان الذي يساق إليه قطيع الكتبة وجمهوره من صحفجية الأقسام الثقافية، وهو نقاش ساذج وعقيم وباهت وغير منتج لقيمة فنية مضافة. هل يعقل أن نشدّ الرحال اليوم من الجزائر العاصمة إلى وهران، أو من تونس العاصمة إلى سوسة عبر الطريق السيار على متن ناقة أو حصان؟ وفاء الشاعر للشكل العمودي هو ذاته وفاء المسافر لتلك الوسيلة البدائية. ثم من يصل بسرعة، ومن يصل بجهد ووقت كبير، لم تعد زمنية اليوم تستسيغه، بغضّ النظر عن تعطيله للحركة وتسببه في الحوادث والفضول. وهذا نتاج روح سلفية مصدرها الدين وتأويلاته غير المنطقية، وثقافة اجتماعية وفاؤها للماضي يفوق بكثير مقدرتها على اختراق المستقبل. وهنا أجدني من موقعي شاعراً مولعاً بتحطيم الأصنام والرموز البالية، مضطراً إلى إثارة المسألة بطريقتي في الاستخفاف بالأوثان والجهل المقدّس، لعلني أنقذ أجيالاً من الغرق في بحور شعر لم تعد السباحة فيها تجلب ما يتطلبه الراهن من سياح شغوفين باقتناء تذكرة نحو المتع الحقيقية بدلاً عن تركهم يصارعون أمواج بحور وهمية الغرق فيها أكيد.

* بعد تجربة شعرية تراكمت خلال ثلاثين عاماً، هل ما زال عادل صياد يرى أن الزمن "زمن الشعر"؟

الشعر الحقيقي لا يموت وكل العصور عصره، قد يكون تأثيره تراجع بشكل محسوس بالنظر لاختراع وسائط اتصال وتأثير جديدة؛ وسيادة أنماط وأنواع أدبية حديثة النشأة. وما لم يستثمر الشاعر في هذه الوسائط ويجدد من أدواته سينتهي به الأمر كما انتهى بكل الكائنات والأشكال المنقرضة. هذه هي طبيعة التاريخ وتحولاته الكبرى: أن تكتب اليوم نصاً عمودياً يفوق بكثير في مستواه ومضمونه ما كتبه امرئ القيس فلن ينتبه إليك أحد، أما أن تكتب من موقع لحظتك المشتعلة "نساء بلادي نساء ونصف"، كما كتب أولاد أحمد، فذلك ما يبقيك شاعراً متميزاً وقادراً على الاستمرار بفرادة وحنكة وذكاء.

* تشتغل في هذه الأثناء على رواية، ما سبب هذه "الهجرة" إلى هذا العالم الجديد بالنسبة إليك؟ وما موقفك من مسألة التخصص في الأجناس الأدبية كأن يكون هذا شاعراً وذاك قاصاً والأخرى روائية؟ هل ثمة حدود بين هذه الأجناس في القرن الحادي والعشرين؟

السرد تجربة رائعة عليّ خوضها طالما اقتضتها عليّ أسئلة جديدة لم يعد الشعر قادراً على طرحها. الشاعر كائن قادر على التحوّل إلى سارد والعكس لم يثبت بعد، ولم نسمع بعد بقاص أو روائيّ تحوّل إلى الشعر. على ألّا يسقط هذا الانتقال في الاستسهال، فكم من شاعر أضاع طريقه إلى السرد ولم يجد سبيله للعودة إلى الشعر، كقصة الحمامة الشهيرة وهي تقلّد مشية الغراب.. فلا صارت غراباً ولا عادت حمامة.

* قرر عادل صياد الإنسان أن يواري الشاعر فيه التراب، فإذا بالشاعر يتمرّد ويرغي ويزبد مجدداً، هل ما زالت هناك إمكانية لقتل الشاعر فيك مستقبلاً أم إنك استسلمت وانتهى الأمر؟

أنا بطبعي شخص عدوّ للثبات والجاهز، وبقدر ما أقبل على الحياة، لا أخاف أبداً من توقفها في أيّ لحظة، وأكبر انتصار لي فيها هو بقائي على القيد رغم كلّ الميتات التي تعرضت لها؛ أما الشعر فمن الأفضل قتله كلّ يوم ومع أيّ نص جديد، وذلك هو مصيره الأوحد للبقاء والبصق في وجوه الثابتين على عهده وأوثانه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.