}

البشير الدامون: أعمالي تمتلك عُقدة مغربيّة

نجيب مبارك 22 أكتوبر 2017

 

 

 

يعدّ البشير الدامون من الروائيين المغاربة المتميّزين حالياً، وتلقى أعماله صدى متزايداً واهتماماً وحضوراً لافتين ضمن مدونة الرواية المغربية المعاصرة. انطلقت مسيرته الروائية قبل عقد من الزمن تقريباً، مع إصدار روايته الأولى "سرير الأسرار" عن دار الآداب ببيروت، التي حظيت آنذاك بتقدير كبير من طرف النقاد والقراء على السواء، بل وتمّ تحويلها إلى فيلم سينمائي من طرف المخرج المغربي المعروف جيلالي فرحاتي. تلَتها بعد ذلك رواية "أرض المدامع"، ثمّ رواية "هديل سيّدة حرة"، وأخيراً رواية "حكاية مغربية"، الّتي صدرت قبل عام. ولتقريب القارئ أكثر من عالم البشير الدامون الروائي، ومناخات أعماله التي تمتلك "عُقدة مغربية" خاصّة بها، كان لنا معه هذا الحوار: 


*لم تكن معروفاً في الوسط الأدبي المغربي قبل نشر روايتك الأولى "سرير الأسرار" منذ عقدٍ من الزمن تقريباً، وجئتَ من حقول معرفية لا علاقة لها بالأدب، هل في الأمر نوعٌ من الاستعداد الكافي والتأنّي اللّازم قبل خوضِ مغامرة الكتابة والنشر، أم ثمّة أسباب أخرى؟

القدومُ إلى الكتابة الروائية بالنسبة لي أمرٌ مهيب، خاصّة و أنّني أرى أنّ كتابة نصّ ما والعمل على نشره هو مسؤولية. وأنا يومَ قرّرت كتابة أولى أسطر روايتي "سرير الأسرار" لم أكن قد فكّرت يوماً في أن أكتب. كنت مكتفياً بالمتعة الكبيرة الّتي تخوّلها لي القراءة، والّتي تعوّدت عليها منذ الطفولة.
ما أنا متأكّد منه هو أنّ استعدادي للكتابة لم يكن عن وعي، أعني أنّني قبل أن أكتب لم أفكّر يوماً في أن أستعدّ لهذا العمل الكبير. كنت دائماً أقرأ فحسب، وإحساسي بمدى صعوبة مهمّة الكتابة انطلق حين بدأت أكتب الصفحات الأولى من روايتي الأولى، فاكتشفتُ أنّني غُصت في لجّة ذات مسالك وعرة ولا سبيل للنّجاة منها إلّا بمواصلة الكتابة.


*تقول في أوّل جملة من روايتك الأولى "سرير الأسرار": "أن تَنسى، مهمّة صعبة الإتقان"، ومرّةً قلتَ بشأن هذه الرواية إنّها كانت صرخة أو إنّك فيها "كتبت صرخةً وصرختَ كتابة"، سؤالي: هل أَنسَتك الروايات الثّلاث التّالية هذه الصّرخة الأولى أم أنّها ما تزال تتمدّد مع حكايات جديدة؟

كتابة رواية "سرير الأسرار" جاءت إثر معاناة مع مخاضٍ نفسي مؤلم، وربّما كان ذلك السبب الرئيسي لكتابة الرواية. كانت الأسئلة الجارحة قد ملأتني وكلّما حاولت القبض على جواب يريحني، ولو لبعض الوقت، إلّا وتولّدت منه أسئلة أكثر جرحاً... وهكذا، وجدت نفسي في دوّامة من الصرخات لا مهرب منها إلّا بأن أصرخ، ربّما بحثاً عمن يشاركني الصرخة، وربّما بحثاً عمن يسمعني.
ما ظننتُ أنّه سيخفّف عنّي بمجرد البوح به أبى إلّا أن يظلّ يسكنني ليتبلور من جديد فيما كتبتُه من بعد. جاءت رواية "أرض المدامع" كتتمّة لـ"سرير الأسرار" وكمرثية لانكسار أحلامنا في بناء أملٍ جديد، و كمرثية للإنسان ككلّ، مرثية لهزيمته أمام حلمه بتحقيق الأحلام الكبيرة.
رواية "هديل سيد حرة" ظلّت تتساءل وتطرح أسئلتنا المؤرقة: لماذا كلّ هذا القتل والتقتيل باسم الدين والله واحد؟ وذلك عبر صوت أميرة حلمت بحماية أهلها، من أنظمة جائرة ترى أنّ ما وصلت إليه من قوّة يخوّل لها استعباد وتقتيل الشعوب الأخرى الّتي لم يحالفها الحظ، ولأسبابٍ عدّة، في مسايرة التطوّر الإنساني.
رواية "حكاية مغربية" لا يخرج موضوعها عن دوّامة التخلّف الذي نتخبّط فيه والّذي كانت الساردة ضحيته. هي حكاية فتاة تحلم بحقها في حياة كريمة لكنّها تُصدم بما يسود حياتنا من تخلّف وارتشاء وظلم وفوضى. تُصدم أيضاً بما تعرّض له أخوها من اغتصاب، وكذلك ممّا تعرّضت له هي من اغتصابٍ جسدي ونفسي...هي رواية عن علاقات اجتماعية غير سويّة، أعني كلّ العلاقات الاجتماعية غير السويّة التي تسود مجتمعات العالم الثالث والّتي يكون الإنسان ضحيتها. الساردة أمام ما تعيشه و تعايشه ينتهي بها المطاف إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث تحكي لنا حكايتها وهي تزرعُ الحلم بحياة أفضل.


*في روايتك الثّانية "أرض المدامع"، حاولتَ الحفر تحت طبقات تاريخ مدينة تطوان بحثاً عن كنز مفقود، عائداً إلى العصر الروماني، وفي روايتك الثّالثة "هديل سيدة حرّة" استلهمت شخصية تاريخية، هي "السيّدة الحرّة" الّتي حكَمت المدينة خلال بداية القرن السّادس عشر، وفي "سرير الأسرار" و"حكاية مغربية" استرجاع لفترة الثمانينيات الحرجة في تطوان، هل يقوم مشروعك الروائي في العُمق على إعادة قراءة تاريخ مدينة تطوان روائياً، قديماً وحديثاً؟

مدينة تطوان يمكن اعتبارها منبعاً للحكايات. المدينةُ عايشت حضاراتٍ مختلفة، بدايةً من مرحلة كانت نواتها الأولى مدينة "تمودة" الّتي بناها الرومان، مروراً بمرحلة الأمازيغ والعرب، ثمّ فترة إعادة بنائها واستيطانها من طرف الموريسكيين الهاربين من الأندلس، ثمّ فترة معايشتها للحضارة الإسبانية مؤخّراً. كما أنّ التّباين الاجتماعي الواضح بين طبقة ثريّة وطبقات أخرى فقيرة، وما يخلقه هذا من علاقاتٍ اجتماعية متوتّرة تحملُ الكثير من التّناقض، يجعلُ حياة المدينة قابلةً لأن نستنبط منها حكاياتٍ إنسانية تُغني السرد وكتابة الرواية.
لا أحملُ مشروعاً روائياً محددّ المعالم والرؤى، ولا أفكّر في أن أبني مشروعاً روائياً ينبش في إعادة قراءة تاريخ مدينة تطوان، قديماً وحديثاً. لحدّ الآن، أرى أنّني إزاء طرح تساؤلاتٍ عبر كتابة الرواية محاولاً صياغتها بطريقة فنّية وأدبية جميلة، تساؤلاتٌ يصبّ معظمها حول معاناة النّفس الإنسانية أمام جبروت واقعها المتخلّف، وأمام قوّة وسلطة أقدارها، وما مدى استطاعة هذه الشخصيات المُواجهة والصمود أمام آفات وُجودها. ولكن الأهمّ ليس أن نكتب هذه التساؤلات، بل هو كيف نكتبها، وذلك هو التحدّي الأكبر عند كتابة الرواية.
وطرحُ مثل هذه الأسئلة من الضروريّ أن يجرّك للنّبش في التاريخ، فما اليوم سوى مخاض الأمس، وما الخوض في الماضي إلّا محاولة لمعرفة الحاضر واستشراف المستقبل، وأكرّر هنا قولة سبق وردّدتُها، وهي أنّني أكتب حالماً بألا يكون أمسُنا أمس، ويومُنا أمس، وغدُنا أمس.


*يُلاحظ في أغلب رواياتك نزوع نحو النّقد السوسيولوجي لكثير من الظواهر الاجتماعية الشاذة، وخصوصاً تسليط الضوء على الفئات الهشّة والأحياء الشعبية وما يعتمل بداخلها من تناقضات ومآس، هل هذا تفرضهُ الشّخصيات أم الفضاء أم طبيعة الحكاية نفسها؟

أظنُّ أنّ هذا المحكي يفرضهُ ما أعيشه في دواخلي، وما يسكنُني من أسئلة مقلقة. وكأنّني أريد القول: لماذا كلّ هذا...؟ أولَسنا جديرين بحياة أفضل؟ أوليس الإنسان جديراً بحياة أفضل؟
حين يعمّ التخلّف تكاد تصبح ما أسميتَه بالظّواهر الشاذة هي الظواهر السائدة والظواهر الطبيعية هي الشاذّة، وذلك مآل كلّ مجتمع لم يعمل ولا يعمل على محاربة التخلّف، وحين نقول التخلّف نقول التّناقضات الاجتماعية وما يسايرها من جهلٍ وفقر. وبالطّبع، كلّ هذا سينتج حتماً مآسيَ وفواجع إنسانية تَخصَّصنا نحن العرب في إنتاجها وإعادة إنتاجها.
الرواية بالنسبة لي هي حكاية قبل كلّ شيء، والحكاية إن لم تكُن متماسكة ومتناسقة لن تكون مُستساغة، وحين تفرض عليك نفسك الكتابة عن موضوع معيّن اصطفَته نفسك، وربّما لاشعورياً، يبقى عليك أن تؤلّف بين الشخصيات والفضاء وطبيعة الحكاية حتّى تكتب عملاً متناسقاً ومنسجماً.


*ألا ترى أنّك سايرتَ الرقيب الذاتي في بعض المقاطع الّتي، ربّما، كانت تقتضي نوعاً من الجرأة، علماً أنّ الكاتب في وقتنا الراهن لا تُفرض عليه قيود كما في السابق، وهل تؤمن بوجود لغة أدبية "نظيفة" و"أنيقة" وأخرى "جريئة" و"ساقطة"؟

أظنّ أنّه ليس هناك كاتب عربي لم يمارس رقابة ذاتية على نفسه خلال الكتابة، وذلك حتّى بين من كتبوا نصوصاً وُصفت بالجريئة والصادمة. الكاتب العربي هو ابن بيئته، وبيئةٌ محكومة بأن يعاني كاتبها من رهاب ما يُحيط به لا يُمكنها أن تُعطي كاتباً جريئاً، منسلخاً وعارياً كما يُقال، وحتّى النصوص العالمية الّتي حكت بجرأة يلفّها الصدق قليلة جدّاً.
بالنسبة إلي، اللّغة التي أحبّذها هي اللّغة الأنيقة، وحين أقول لغة أنيقة أقصدُ لغة سلسة تحمل بعض الشّعرية الخفيفة، وتُمكّن المتلقي من مواصلة القراءة في انسيابٍ جميل دون مطبّات لغوية وفنّية تكسر ذلك التّماشي السلس. أمّا إذا أقحمنا لغة ساقطة، فقط لأنّنا نروم الجرأة على حساب تماسك وفنية النصّ، فحتماً سنقدّم نصاً مهلهلاً.


*روايتك الأخيرة "حكاية مغربية" صدرت بالتزامن مع رواية أخرى لعبد الكريم جويطي بعنوان "المغاربة". هذه المصادفة في حضور كلمة "مغربي" في العنوانين تثير تساؤلاً لطالما أرّق أجيالاً من النقّاد والقرّاء: متى تكون لدينا رواية "مغربية" خالصة، غير متأثّرة لا بالمشرق ولا بالغرب، رواية تمتلك "عُقدة مغربية" خاصّة بها، بتعبير أستاذنا عبد الله العروي؟

الرواية تصوّرٌ ورُؤية توجّهها ذاتية الكاتب. والكاتبُ يمكنه اختلاق فضاء لا ينتمي له كفضاء لروايته، إلّا أنّ ما هو إنساني من مشاعر وأحاسيس ومواقف في كتابته لا يخلو من الذاتية.
أنا حين كتبتُ، كتبت ذاتي وما يُلاطمها من أحاسيس، كتبتُ عن حيوات شخصيات أنتمي إليها "نفسيّاً" وجغرافياً وحضارياً وأعيش نمط حياتها نفسه. إذاً، يمكنني القول إنّني كنتُ أكتب رواية بهويّة مغربية دون أن أقصد تحديد الهويّة مسبقاً. ويمكننا الأخذ بحكم أستاذنا العروي وأقول نعم، إنّ أعمالي تمتلك "عُقدة مغربية"، وإنّني أرى أنّ كل رواية يجب أن تمتلك "عقدة إنسانية"، وأقول هنا بالفكرة المتداولة الّتي ترى أنّ أبدعَ الروايات هي الّتي تنطلق مما هو محلّي إلى ما هو إنساني وكوني.


*قام المخرج المغربي المعروف جيلالي فرحاتي بتحويل روايتك الأولى "سرير الأسرار" إلى فيلم سينمائي، حدّثنا عن هذه التجربة الفريدة بالنّسبة إليك، هل يمكن القول إنه تمّ التصالح أخيراً بين الرواية والسينما في المغرب؟

ما زالت عملية التّصالح بين الرواية والسينما في المغرب غير ناضجة. عددٌ قليل من الروايات المغربية تمّ تحويلها إلى أعمال سينمائية، والمثيرُ في الأمر هو أنّ معظمها كانت أعمالاً سينمائية ناجحة، ورغم هذا يظلّ تعامل السينمائيين المغاربة مع النّصوص الأدبية أمراً نادراً.
ولا يمكنُ حصر الأسباب في سبب واحد، فإلى جانب عدم اطّلاع معظم المخرجين المغاربة على الروايات المغربية، وعدم اهتمامهم بقراءة الأعمال الإبداعية، تبقى نرجسيّة معظم هؤلاء هي السّبب. فعادةً ما يقوم المخرج المغربي بكتابة القصة والسيناريو والحوار والإخراج والتمثيل، وقد يقوم أحياناً بدور البطولة. وهذا يعطينا أعمالاً سينمائية متواضعة. والأكيد أنّه حين تتضافر جهود مختلفة لإنتاج عمل سينمائيّ ما سيكون الفيلم راقياً.


*سؤال أخير وتقليدي ربّما: هل لديك طقوس في كتابة الرواية، وما هي المشاريع الّتي تشتغل عليها حالياً؟

أنا لا طقس معيّناً لديّ في الكتابة. كلّ ما يمكنني قوله هو إنّني أجلس بين الأطفال حين أكون أكتب، ومراراً ما يُقاطعني أحد أبنائي بسؤالٍ ما أو شقاوة قبل أن أعود لأواصل الكتابة أو القراءة.
لقد انتهيتُ مؤخّراً من كتابة عملٍ روائي، سيصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي تحت عنوان (زهرةُ الجبال الصمّاء). الرواية تحكي فصولاً من حياة فتاة في البادية اختفى والدها في ظروف غامضة بعدما أحيا حفلة غناء بين الجبال. رفيقا والدها الطبّال والزمّار قُتلا بالرّصاص، أمّا عمّتها المُردّدة في الجوقة فقد صارت عمياء جرّاء ما تناثر من دماء رفيقيها على وجهها لحظة مقتلهما. كان والد الفتاة يعزف ويغنّي للجبال الصماء الّتي تحيط بالقرية لعلّ سمع الجبال يرقّ وقلبها يحنو فتقلّل ممّا تنثره من شقاء وقسوة على سكّان أهل القرية. ظلّت الفتاة تعاني من الفقر والضياع رفقة والدتها وعمّتها العمياء، حالمةً بأن تهاجر يوماً إلى المدينة حتّى تتمّكن من ولوج المدرسة وتغيّر حياتها نحو الأفضل. أظنُّ أنّ الرواية تُسائل الوجود وبعض ما يطبع حياتنا من أساطير وتصوّرات. الرّواية مهداة إلى روح أمّي وهي موجودة في النصّ بشكلٍ كبير.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.