}

حسن بحراوي: للتراث شعبٌ يحميه

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 4 فبراير 2017
حوارات حسن بحراوي: للتراث شعبٌ يحميه
حسن بحرواي

حسن بحراوي ناقد ومترجم وباحث في المسرح والأدب الشعبي. قلم مواكب، منذ السبعينيات، للسرد المغربي، رواية وقصة قصيرة، وللمسرح، بنوعيه الهاوي والمحترف، وللأدب الشعبي وأنماطه من غناء وحكي. راكم عدّة كتب، منذ كتابه الشهير "بنية الشكل الروائي"، الذي صدرت منه طبعات كثيرة، إلى ترجماته للكتابات الإثنوغرافية. هو من كبار رُعاة اتحاد كتاب المغرب، المؤسسة الثقافية التي تحمّل عدة مسؤوليات في مكتبها المركزي. يعمل أستاذاً للأدب الحديث والسرد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية. هذا الحوار يقرّبنا منه.


*أنت باحث في السرد والأدب الشعبي والترجمة، أي تخصص هو الأصل؟

دعنا نقول بأننا في ثقافتنا العربية لا ننعم بحرية التخصص، أي اختيار الحقل المعرفي الذي نشأ العمل في نطاقه، وإنما في غالب الأحيان نساق إلى ذلك عن طريق المصادفة والاتفاق..انشغلتُ في وقت مبكر في إطار أكاديمي بالنقد الروائي وساهمت  في تطوير طرائق البحث في السرد من منظور كان جديداً في ذلك الإبان، هو المقاربة البنيوية الشكلية ذات المرجعية الفرنسية تحديداً والتي كانت تلحّ على القطع مع أسلوب النظر الإيديولوجي إلى الإبداع الأدبي وتدشّن مرحلة في النقد العربي تعطي الاعتبار للنص في تحقّقاته التعبيرية واللغوية قبل محاكمته من جهة مضمراته الفكرية وأبعاده الإيديولوجية.. وقد قضيتُ العقود الثلاثة الماضية وفياً إلى هذا الحد أو ذاك لهذا التصور البنيوي في ما أكتبه ومثابراً على تطويره والانتصار له في الجامعة المغربية.

*بعد كتابك المهم في النقد الروائي "بنية الشكل الروائي" انتقلت إلى الاهتمام بالمسرح، كيف جاء هذا الانتقال؟

قادتني ظروف شخصية وموضوعية إلى الاهتمام بالمسرح (ممارسته في إطار الهواية وتدريسه كمادة في الكلية..) وكان المنطلق هو السعي إلى فهم إشكالية لماذا تأخر العرب في استضافة هذا الفن وتوطينه في ثقافتهم مع أنه نشأ وازدهر على مرمى حجر من أرضهم.. وهنا تبيّنتْ لي أهمية الأشكال المسماة (ماقبل مسرحية) أي تلك التعبيرات الفطرية التي تدخل مدخل الفُرجات الشعبية التي دأب مواطنونا على إقامتها في احتفالاتهم وأعيادهم الدينية خاصة.. وتهيأ لي مع مرور الوقت واستمرار البحث في أشكال ذلك الموروث الشعبي أنها ربما تكون هي ما زهّدنا في استقبال المسرح ذي الشكل الإيطالي المعروف عند الغرب.. والسبب المحتمل في تأخر احتضانه إلى أواسط القرن التاسع عشر في الشرق وإلى مستهل القرن العشرين في المغرب.


*لكن من اكتشف الجوهر المسرحي (الفرجوي) في تلك الأشكال؟

لما كان الإثنوغرافيون الفرنسيون إبان الحماية على المغرب (بين 1912 و1956) قد أبدوا اهتمامهم بتلك الممارسات الشعبية مثل البساط (نوع من المسرح الفطري) وسلطان الطلبة (احتفال تمثيلي طلابي) وغيرهما من هزليات المغاربة مسلمين ويهوداً.. فقد توليت ترجمة بعض دراساتهم في الموضوع وتقديمها بمظهر البديل لما شاع لدى مؤرخينا وإخباريينا من إدارة الظهر لكل ما هو تعبير شعبي يخص العامة، وبالتالي لا يستحق أدنى اهتمام أو اعتبار. وتوجد أصداء لذلك في كتابي "المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية 1994".


*كيف بدأ الاهتمام بالحركة المسرحية المعاصرة؟

في موازاة الاهتمام بأركيولوجيا الممارسة الدرامية في المغرب والوطن العربي كان لا بد لي أن أساير تطور الحركة المسرحية المعاصرة متابعة ونقداً على مدى سنوات طويلة، أتيح لي خلالها أن أقف عند محطات وشخصيات وظواهر، رأيتُ أنها تؤسس لنوع من التفكير التحليلي لمسار المسرح في المغرب، وتلقي الضوء على أكثر لحظاته قوة وتأثيرا في المجتمع والثقافة المغربيين تحديداً.

إهمال الثقافة الشعبية


*برزت بعدة دراسات في الأدب الشعبي، ما هي أهمية هذه الانتقالات لباحث يهتم بالأشكال التعبيرية؟

لا يتعلق الأمر بانتقالات بالمعنى القطاعي للكلمة، وإنما على الأرجح بامتداد أو استطالة نحو اهتمامات أوسع وأكثر إلحاحاً على الكاتب من غيرها. وبالمناسبة لا تنس أنني بدأت حياتي الأدبية في مستهل الشباب بكتابة الشعر والقصة ثم انعطفت نحو النقد في جناحه الأكاديمي خاصة الذي استغرقني لمدة ثلاثة عقود وأنجزت في نطاقه العديد من المؤلفات قبل أن أحط الرحال مجدداً في دائرة الإبداع وأنشر في بحر 2016 روايتي الأولى "النمر الفيتنامي" ومجموعتي القصصية "أستوديو الجماهير" وينتظر أن يصدر خلال أيام قلائل ديواني الشعري الأول "الأرض الأخيرة لعشاق الترامواي".
إذن يمكن الحديث في الحقيقة عن نوع من الذهاب والإياب بين الانشغالات الأدبية والاستغراقات الأكاديمية والانفتاح المتجدد بدون انقطاع على ألوان مختلفة من التفكير والتعبير، حسب اطراد المراحل العمرية وتغير الحساسية والمزاج.


*مع ذلك يمكن القول إن الثقافة الشعبية اخذت حيّزاً مهمّاً من اهتمامك؟

نعم، فعلاً، بالنسبة للثقافة الشعبية كان مبرر الانكباب عليها هو مواجهة الإهمال المتزايد الذي تكابده وحالة الاحتضار التي تعيشها في انتظار اليد الرحيمة التي تربت عليها وتنتصر لقيمها الجميلة الذاهبة أدراج الرياح مثل كل شيء هامشي في وجودنا.. ومعلوم أن الإثنوغرافيا الكولونيالية كانت قد اهتمت بتلك التعبيرات الفطرية لأسباب غير بريئة قطعاً، ليس أقلها أن تتعرف على ذهنية هؤلاء الذين تقوم باستعمارهم واستغلال خيراتهم ولذلك كان رد فعل نخبة الحركة الوطنية في المغرب هو صرف النظر عن هذه المظاهر التي أثارت الفضول الاستعماري فكانت النتيجة هي إدارة الظهر لكل ما هو تراث أو إبداع شعبي باعتباره تعبيراً عن أحط ما في المجتمع تنتجه العامة والدهماء ولا يستحق اهتماماً من أي نوع. وهكذا كان علينا نحن (سلالة العامة) الذين جئنا بعد الاستقلال أن نعيد الاعتبار لذلك الميراث غير المادي من حكايات وأمثال ومرددات وطقوس احتفالية ونحاول بالقليل الذي بين أيدينا أن نصونه ونقدمه للأجيال اللاحقة حتى لا تبقى منقطعة الجذور وفاقدة الهوية ومبلبلة الانتماء. وفي هذا السياق تندرج بعض كتاباتي سواء منها المنشورة أو التي ما تزال تنتظر النشر.

*كتابك عن "حلقة رواة طنجة" استكمال للبحث في الحكايات الشعبية، أو الحكي الشعبي، ما هي خلاصات هذا الكتاب؟

في ترابط مع الاهتمام بهذا الإنتاج الذهني الشعبي الهامشي، أو الذي أريدَ له أن يعيش على الهامش، اتجهت بعنايتي أوائل التسعينيات إلى قطاع آخر من الإبداع الفطري ممثلاً في ما أنتجته "حلقة رواة طنجة"، وهي طائفة من المبدعين الشعبيين الذين التفوا حول الكاتب الأميركي بول بولز وقدّموا لنا منذ بداية الستينيات، عن طريق الرواية الشفوية، أعمالاً حكائية رائدة، جعلت أسماء العربي العياشي ومحمد المرابط ثم محمد شكري تشتهر لدى قراء الإنكليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات، باستثناء العربية طبعا. وتوليت التعريف بهذه الحلقة وتقديم نماذج من إنتاجها الذي كل ما فيه أصيل ويمتد عميقاً في التربة المغربية غير أن الشروط السوسيوثقافية شاءت أن يولد وينشأ مغترباً.


*إذن، يمكن القول عن الكتاب إنه كشف للطاقة الحكائية عند الشعب؟

تبيّن لي في أعقاب هذه التجربة أن الطاقات الحكائية الكامنة لدى الفئات الشعبية غزيرة ولا حدّ لغناها ولا تنتظر في الحقيقة سوى الشرارة التي تطلقها. ولم يفعل الأميركي بول بولز نزيل طنجة في الحقيقة أكثر من استدراج هؤلاء الرواة الفطريين وتشجيعهم على تسجيل محكياتهم وسرودهم التي جاءت غاية في الإبداع وآية في الجمال بعد تشذيبها والعمل على ترجمتها وتدوينها ثم نشرها على أوسع نطاق. وهو ما لم يفعله أبناء جلدتهم أو يحاولوه في أقل الأحوال.

*تهتم أيضاً بالغناء الشعبي، فن "العيطة" على الخصوص، هل أبحاثك في الشكل تساعدك على فهم أفضل لهذا اللون الغنائي؟

يعتبر فن "العيْطة" في المغرب تنويعاً على سجل الغناء الشعبي ذي الجذور الزراعية والرعوية، الذي كانت القبائل تحتفي به وتجعله في صميم طقوسها الاحتفالية، خاصة في الأصياف والمواسم. وقد تعرّض هذا الفن الفطري خلال حقبة الحماية إلى حملة ممنهجة لتغريبه عن واقعه، وتحويله عن أهدافه القائمة في أصل نشأته. ثم تدخّلت الدولة بعد الاستقلال لجعله في خدمة الماسكين بالسلطة وتدجين أربابه، حتى صار إلى إسفاف وابتذال لا مزيد عنهما. جاء كتابي المذكور (2003) وأطروحة صديقنا حسن نجمي الجامعية للمناداة برجوع فنّ العيطة إلى سكّته الأولى، ووقف رحلة النزيف الطويلة ليعود كما كان لوناً موسيقياً أصيلاً يفرغ فيه الشعب همومه وأفراحه بعيداً عن أية وصاية أو توجيهات فوقية.

الترجمة كصلة بين الشعوب


*تهتمُّ أيضاً بالترجمة وقضاياها، وقد نلت شهادة الدكتوراه في الترجمة، هذا إضافة إلى ترجمتك للعديد من النصوص، ما معنى أن تقترن داخلك كل هذه الحقول؟

أما الانشغال بقضايا الترجمة ونظرياتها التي راكمت فيها حتى الآن خمسة مؤلفات، فالأصل فيه تخصص أكاديمي صرف كانت وراءه الرغبة في سد الفراغ المهول الذي تشكو منه المكتبة العربية التي ظلت تعيش عَلى فُتات الموائد الأجنبية، ولا تقدم أية إضافة نوعية، رغم أن العرب كانوا سباقين إلى التنظير للترجمة وطرح إشكالاتها، على الأقل منذ أقدم الجاحظ على تدشين هذا المبحث قبل عشرة قرون من الآن.. وسواء في كتابي "أبراج بابل"، الذي نشرته كلية الآداب بالرباط، أو عبر "مأوى الغريب"، الذي صدر عن المركز القومي للترجمة بمصر، أو "مدارات المستحيل"، الذي تبنّته مؤسسة بيت الشعر بالمغرب أو الكتابين الصادرين عن مجلة الرافد بالشارقة والمجلة العربية بالسعودية، فإن الهاجس كان دائماً هو تقديم شيء من المعرفة الحديثة حول الترجمة بوصفهما ممارسة تواصلية وهمزة وصل بين اللغات والثقافات منذ العصور السحيقة.


*وماذا عن ترجماتك؟

في موازاة مع هذا الجهد المتواضع لإشاعة المعرفة الترجمية وقضاياها النظرية والإجرائية قمت باليد الأخرى بتقديم ترجمات متعددة لأعمال تخص التاريخ الاجتماعي للمغرب الحديث، مما ألّفه الباحثون الفرنسيون غالباً برسم الحديث الإثنوغرافي عن بلد غريب كان في طريقه إلى أن يصير مستعمرة مثل كتاب "في المغرب" لبيير لوتي 1898. أو وقد صار كذلك بالفعل مثل كتاب "الرباط أو الأوقات المغربية" للأخوين طارو 1917، أو "الرحالون الفرنسيون في المغرب" لروني برونيل 1932.
وإجمالاً فإن العمل في نطاق الترجمة تنظيراً وممارسة كان هو أحد السبل الممكنة للانتساب للعصر الذي نعيشه ونتفاعل مع أهله بلغاتهم وثقافاتهم وحساسياتهم المختلفة، حتى عندما تكون مناوئة لنا أو تقف في الطرف الآخر من فكرنا ومعتقداتنا.

إشكاليات الأدب الشعبي


*بعد عدة دراسات ومشاركات في ندوات حول الأدب الشعبي، هل توصلت إلى خلاصات حول هذا الحقل؟

يوجد الأدب الشعبي في منطقتنا العربية سجين مأزق عسير يسير بنا نحو منعطف حاسم، بل قل معضلة حقيقية إذا لم نتدارك الأمر بما يتطلب من جدية وحزم، فهو من جهة مهدد في وجوده ذاتياً بسبب طابعه الشفوي الهش القائم في أصله والذي يعرّضه على الدوام للتلاشي والاختفاء. ومن هنا الحاجة القائمة إلى تدوينه وأرشفته وتقديمه بمظهر الإنتاج المحترم والمعبر عن فئات عريضة من المواطنين. ثم إنه يعيش منافسة غير عادلة يخوضها إلى جانب وسائل الترفيه المعولمة الطارئة على مشهدنا الإعلامي والثقافي ويجد نفسه في وضعية عجز تام عن أداء وظائفه السابقة. فالجدة التي كانت تتولى حكي الخرافات للأطفال صارت هي نفسها مشدودة إلى شاشة التلفزيون أو الحاسوب. ورجل الحلقة الذي كان يقيم فرجته في الأسواق والمواسم ويمارس بكل اقتدار أشكال الفكاهة والارتجال أمام حشود المتفرجين بات اليوم يجد صعوبة في إثارة انتباه المارة الذين استقطبتهم الفرجات العصرية وأبعدتهم عن ارتياد الحلقات الشعبية التي كانت إلى وقت قريب تشغل الناس وتحرك مشاعرهم.


*هل الجامعة المغربية، والعربية عموماً، تهتم بهذا اللون الثقافي؟

لا توجد في معظم جامعاتنا كراسي للأدب الشعبي ولا أقسام متخصصة في تدريسه وتحليله وبحثه. وإذا ما وجدت فهي محض هياكل تنقصها الدينامية ومشكوك في جدواها. كما أن المجلات والدوريات المهتمة بهذا الجانب من الإبداع تعاني من النقص الفادح (أقل من عدد أصابع اليد الواحدة في مجموع الرقعة العربية الشاسعة). ولا وجود تقريباً لمراكز البحث والمعاهد المتخصصة في البحث التراثي اللهم في حدود جد ضيقة وبأقل ما يكون الإشعاع والتأثير على أجيال الطلاب المتعطشة للمعرفة. وإذا أضفنا إلى كل ذلك الشيوع المتزايد لنظرة الانتقاص لكل ما هو تراثي وعتيق من طرف المسؤولين الوقتيين وموقف التجاهل العام لجميع ما يحيل على الماضي في شقه الثقافي والأدبي.. صحّ لدينا أن الوضعية الراهنة للأدب الشعبي لا تسرّ أحداً ويصير من الصعب التنبؤ له بشيء في المستقبل المنظور.
وحتى لا ننهي الحوار على هذا الإيقاع المتشائم نسارع إلى القول بأن للتراث في النهاية شعبٌ يحميه، غير أنه يستحق منا وقد نشأنا في كنفه أن نمدّ له يد الغوث في عصر العولمة المفقرة هاته التي تريد أن تُميتَه وتمشي في جنازته.



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.