ماتت نادية لطفي، وللرحيل جلال يستدعي الحديث عن أشياء أكثر جدية ستحاول هذه السطور ألا تتجاهلها، لكن بعض المصارحة لن تضر الإنسانية في شيء، والعزاء أن عشرات وربما مئات ممن اهتموا برحيلها تحدثوا كفاية عما هو جاد في حياتها من مواقف سياسية محترمة ومساندة معروفة للقضية الفلسطينية وزيارتها لياسر عرفات ورفاقه لدعمهم تحت حصار العدو الصهيوني. تحدث كثيرون عن هذه الأمور المحترمة، ولن تضيف إشارتك لها الكثير، ولكنها أعراف المتابعات الصحافية لما يقع من أحداث.
هنا، أيضاً، مناسبة للمرور على واحد من أدوار أفسدتها خضوع الكتابة لقالب الإصلاح والتهذيب وكتالوج الرضا المجتمعي المُعلن حتى أيام الملامح الليبرالية للبلاد، حيث نادية في دور مادي فتاة "النظارة السوداء"، النزقة المحبة لملذات الحياة، وكيف كان ممكناً أن تبقى على جاذبيتها كامرأة غر عادية، لولا ما أراده لها مؤلفها إحسان عبد القدوس من تحول أخلاقي اشترطه لتصير فاعلة ومفيدة ومهتمة بشؤون ومشاكل الغير بعد تعرفها على المهندس المشغول بقضايا العمال، ذلك الارتباط الشرطي بين الأركان المعروفة للأخلاق الحميدة وبين أن تكون شخصاً غير سطحي. أي كتابة تلك وأي فن يا عم إحسان؟ بل أي فكرة للمؤلف عن تركيبات النفس البشرية أو عن المهتمين بقايا البسطاء؟ على أي حال، لإحسان عبد القدوس حق كتابة ما يرى، ولكن كنت أحب أن تبقى فتاة "النظارة السوداء" على مرحها النزق في تحول اهتماماتها لقضايا العمال، ربما لو كان تركها المؤلف دون تمريرها على الفلتر التقليدي للأخلاق الحميدة، وبصناعة سينما في حال أفضل، لكان لدينا واحدة من الأدوار النسائية المميزة في التاريخ السينمائي.
والسطور السابقة لا تقصد تأطير نادية لطفي بداخل أدوار الإغراء أو صعوبة تلقيها خارجها، ولكن هي إشارة لأسئلة وأفكار الواحد حول كتابة الشخصية أو الفيلم ليس أكثر، أما عن نادية فلها من الأدوار ما صدقنا فيه كونها ابنة بارة للبراءة بل والتقوى الدينية أحياناً. هنا مثلاً "الخطايا"، حيث الفتاة الجامعية الوقورة العاقلة الجادة، والخجولة حين يغازلها عبد الحليم حافظ بأغنية "الحلوة"، التي هي واحدة من أغانيه اللطيفة، وحولتها الصحف إلى عنوان تقليدي وكليشيهي في متابعات رحيلها. وهي أيضاً "لويز الطاهرة البريئة" في عمل يوسف شاهين "الناصر صلاح الدين"، الذي رغم إشارة البعض لعدد من الأخطاء التاريخية التي وردت فيه يعتبر من الأفلام الكبيرة والمهمة في التاريخ السينمائي العربي، فضلا عن كونه من الأفلام الجماهيرية القليلة لشاهين. صدقنا نادية في دور القديسة، كما لم نصدق المقولة الشهيرة لكونراد أو محمود المليجي، شيطان الفيلم في اتهامه لها: "هكذا سقطت لويز".
ربما لم تكن موهبة نادية لطفي التمثيلية فادحة، لكنها كانت مضبوطة إلى حد لا يجعلك تستغربها في أدوار متنوعة، حتى مع التخلي عن سمات الجمال الأوروبي والتحول لفتاة ليل شعبية كما في "السمان والخريف"، أو كراقصة لعوب شعبية أيضاً في "قصر الشوق".
قبل أسابيع قليلة، صدر كتاب الشاعرة المصرية إيمان مرسال: "في أثر عنايات الزيات"، عن سيرة شيقة لكاتبة لم تكن معروفة لكثيرين هي عنايات الزيات، التي كانت صديقة نادية لطفي القريبة قبل رحيلها الذي أثار فضول إيمان وكان كطرف خيط منحها حكاية سردية لافتة. الكتاب يحتاج مساحة أخرى للكلام، لكن بعض حكايات إيمان، عن نادية لطفي، بداخل الكتاب أو حول أجواء كتابته، حيث لجأت إليها إيمان في تتبعها لأثر عنايات هي حكايات صوبت بعض الأعين تجاه نادية في أيامها الأخيرة. تحكي في تدوينة مصحوبة بصور مبهجة: "نادية لطفي طلبت مني أقلب غرفة المستشفى على مشبك شعر، وأرفع لها خصلة على جنب، وبعدين بصت لنفسها في المراية وقالت برضا: دلوقت ممكن نتصور". رحلت بعدها بأيام مطمئنة إلى أن صورتها الأخيرة على ما يرام.
# محبّو نادية لطفي وزملاؤها في وداعها الأخير.