}

نادية لطفي.. ضبطت خصلة شعرها ورحلت

هشام أصلان 8 فبراير 2020
هنا/الآن نادية لطفي.. ضبطت خصلة شعرها ورحلت
نادية لطفي... أخلصت للسينما والقضايا العربية
مدفوعاً بذكريات شهوة الطفولة التي لم تكن قد وجدت بعد ما يطفئها، يأتي اسم نادية لطفي ككلمتي بحث، تفتحان في المخيلة واحداً من المشاهد القديمة التي تفتحها كلمات شبيهة، وأتذكر فوراً الدقائق منذ لحظة وقوفها خلف باب زجاجي، يهطل فوقها المطر بمبالغة كما كل أفلام الأبيض والأسود التي صورت المطر، قبل أن يفتح لها رشدي أباظة الباب، وتدخل إلى بهو البيت مدعية الاستنجاد بصاحبه من سوء الطقس، لتخلع ملابسها وتقف بقميص نوم مبتل يُظهر ما تحته أمام المدفأة، وهي تواصل الاعتذار عما سببته من إزعاج لعدو المرأة. وأنت تنتظر طيلة الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، "عدو المرأة"، لعل اللقطة الجريئة تتطور إلى ما هو أكثر جرأة، وتسرح مخيلتك في تأليف مشاهد بديلة لتلك التي ألفها محمد التابعي ووضع لها السيناريو محمد أبو يوسف. المؤكد أن مشاهدك البديلة كانت ستساعد كثيراً في إنجاح خطة السيدة الجميلة التي راهنت صديقاتها على فك شفرة عدوهن اللدود لتعود بسر عدائيته المشهورة للجنس الناعم.
ماتت نادية لطفي، وللرحيل جلال يستدعي الحديث عن أشياء أكثر جدية ستحاول هذه السطور ألا تتجاهلها، لكن بعض المصارحة لن تضر الإنسانية في شيء، والعزاء أن عشرات وربما مئات ممن اهتموا برحيلها تحدثوا كفاية عما هو جاد في حياتها من مواقف سياسية محترمة ومساندة معروفة للقضية الفلسطينية وزيارتها لياسر عرفات ورفاقه لدعمهم تحت حصار العدو الصهيوني. تحدث كثيرون عن هذه الأمور المحترمة، ولن تضيف إشارتك لها الكثير، ولكنها أعراف المتابعات الصحافية لما يقع من أحداث.
هنا، أيضاً، مناسبة للمرور على واحد من أدوار أفسدتها خضوع الكتابة لقالب الإصلاح والتهذيب وكتالوج الرضا المجتمعي المُعلن حتى أيام الملامح الليبرالية للبلاد، حيث نادية في دور مادي فتاة "النظارة السوداء"، النزقة المحبة لملذات الحياة، وكيف كان ممكناً أن تبقى على جاذبيتها كامرأة غر عادية، لولا ما أراده لها مؤلفها إحسان عبد القدوس من تحول أخلاقي اشترطه لتصير فاعلة ومفيدة ومهتمة بشؤون ومشاكل الغير بعد تعرفها على المهندس المشغول بقضايا العمال، ذلك الارتباط الشرطي بين الأركان المعروفة للأخلاق الحميدة وبين أن تكون شخصاً غير سطحي. أي كتابة تلك وأي فن يا عم إحسان؟ بل أي فكرة للمؤلف عن تركيبات النفس البشرية أو عن المهتمين بقايا البسطاء؟ على أي حال، لإحسان عبد القدوس حق كتابة ما يرى، ولكن كنت أحب أن تبقى فتاة "النظارة السوداء" على مرحها النزق في تحول اهتماماتها لقضايا العمال، ربما لو كان تركها المؤلف دون تمريرها على الفلتر التقليدي للأخلاق الحميدة، وبصناعة سينما في حال أفضل، لكان لدينا واحدة من الأدوار النسائية المميزة في التاريخ السينمائي.
والسطور السابقة لا تقصد تأطير نادية لطفي بداخل أدوار الإغراء أو صعوبة تلقيها خارجها، ولكن هي إشارة لأسئلة وأفكار الواحد حول كتابة الشخصية أو الفيلم ليس أكثر، أما عن نادية فلها من الأدوار ما صدقنا فيه كونها ابنة بارة للبراءة بل والتقوى الدينية أحياناً. هنا مثلاً "الخطايا"، حيث الفتاة الجامعية الوقورة العاقلة الجادة، والخجولة حين يغازلها عبد الحليم حافظ بأغنية "الحلوة"، التي هي واحدة من أغانيه اللطيفة، وحولتها الصحف إلى عنوان تقليدي وكليشيهي في متابعات رحيلها. وهي أيضاً "لويز الطاهرة البريئة" في عمل يوسف شاهين "الناصر صلاح الدين"، الذي رغم إشارة البعض لعدد من الأخطاء التاريخية التي وردت فيه يعتبر من الأفلام الكبيرة والمهمة في التاريخ السينمائي العربي، فضلا عن كونه من الأفلام الجماهيرية القليلة لشاهين. صدقنا نادية في دور القديسة، كما لم نصدق المقولة الشهيرة لكونراد أو محمود المليجي، شيطان الفيلم في اتهامه لها: "هكذا سقطت لويز".
ربما لم تكن موهبة نادية لطفي التمثيلية فادحة، لكنها كانت مضبوطة إلى حد لا يجعلك تستغربها في أدوار متنوعة، حتى مع التخلي عن سمات الجمال الأوروبي والتحول لفتاة ليل شعبية كما في "السمان والخريف"، أو كراقصة لعوب شعبية أيضاً في "قصر الشوق".
قبل أسابيع قليلة، صدر كتاب الشاعرة المصرية إيمان مرسال: "في أثر عنايات الزيات"، عن سيرة شيقة لكاتبة لم تكن معروفة لكثيرين هي عنايات الزيات، التي كانت صديقة نادية لطفي القريبة قبل رحيلها الذي أثار فضول إيمان وكان كطرف خيط منحها حكاية سردية لافتة. الكتاب يحتاج مساحة أخرى للكلام، لكن بعض حكايات إيمان، عن نادية لطفي، بداخل الكتاب أو حول أجواء كتابته، حيث لجأت إليها إيمان في تتبعها لأثر عنايات هي حكايات صوبت بعض الأعين تجاه نادية في أيامها الأخيرة. تحكي في تدوينة مصحوبة بصور مبهجة: "نادية لطفي طلبت مني أقلب غرفة المستشفى على مشبك شعر، وأرفع لها خصلة على جنب، وبعدين بصت لنفسها في المراية وقالت برضا: دلوقت ممكن نتصور". رحلت بعدها بأيام مطمئنة إلى أن صورتها الأخيرة على ما يرام.



# محبّو نادية لطفي وزملاؤها في وداعها الأخير.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.