}

عام على الحراك الجزائري.. ماذا عن دور المثقفين؟

بوعلام رمضاني 26 فبراير 2020
هنا/الآن عام على الحراك الجزائري.. ماذا عن دور المثقفين؟
مقام الشهيد لتخليد ضحايا حرب استقلال الجزائر بالعاصمة الجزائرية(Getty)
"أين ذهب كل المثقفين" عنوان كتاب الأميركي فرانك فوريدي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كينت، ومؤلف عدد من الكتب المهمة بما فيها "سياسة الخوف" و"ثقافة الخوف". في الطبعة الإنكليزية الأولى بيّن فوريدي كيف أصبح المثقف مهددا بالانقراض، وكيف أن أشخاصا مثل برتراند راسل أو ريموند وليامز أو حنه أرندت يمتلكون معارف حقيقية ورؤية واسعة ويهتمون بالقضايا العامة لكنهم استبدلوا بمتحدثين سطحيين وإعتذاريي مراكز الأبحاث ومختصي صناعة الأخبار والصور التلفزيونية.

عدت إلى الكتاب الذي صدر عام 2004 لأن تردّد عشرات من حملة القلم بكافة أصنافهم للمشاركة في هذا التحقيق، تركني أتساءل عن حقيقة خلفيات الأعذار التي وصلتني من كتاب كثر عرفوا بمواقف مؤيدة ومناهضة للحراك الجزائري غير المسبوق جزائريا وعربيا وعالميا بغض النظر عن رأينا في أسباب استمراره وأهدافه الظاهرة والخفية. هذه الأسباب دفعت بجزء كبير منهم لتبني مقاربة السلطة للحراك وراء مكاتبهم المكيفة في تعبير واضح ضد حملة قلم ما زالوا يخرجون لمناهضة سلطة الأمر الواقع، كما يطلقون عليها، مؤكدين عدم انقراض المثقف العضوي المطالب بالمساهمة في التغيير السياسي والاجتماعي. ومقابل تأكيد مثقفين على حتمية القيام بدورهم الاجتماعي، راح مثقفون وصفهم سلام الكواكبي بالتقنيين، يخوّنون حملة قلم آخرين، كما جاء في كتاب "خيانة المثقف" لجوليان بندا الذي اتهم فيه المثقفين في عشرينيات القرن الماضي بتخليهم عن دورهم بوصفهم حماة للحقيقة مقابل الارتباط السياسي.


الحراك الجزائري بين تأزم البعض وانتهازية البعض الآخر
تأكدت، وأنا أجاهد حوالي أربعة أشهر أمام أبواب عشرات حملة القلم، من صحة آنية الحقائق التي جاءت في كتاب "أين ذهب كل المثقفين" من خلال فئة نخبوية مؤيدة للحراك بيسارية فكر بيار بورديو في علاقته بالتغيير الذي يتطلع إليه عامة الناس غير المؤدلجين يساريا بالضرورة، وثانية مضادة مكونة من أساتذة جامعيين لا يعدون مثقفين في نظره لأنهم بقوا أسرى تخصصهم الأكاديمي، وثالثة مهتمة بمصالحها الخاصة، ومنغمسة في المؤسسة الرسمية التي تقضي على استقلالية المثقف، والذي يجب أن يرقى حسب بومان فوق الإنشغال الجزئي الذي تفرضه مهنته  للمشاركة في القضايا العامة. فوريدي تحدث في "أين ذهب كل المثقفين" عن المثقفين السلطويين الذين يخدمون الطغمة المسيطرة ويتحولون إلى أيديولوجيين وإعتذاريين يغتربون عن الأنشطة الفكرية، وعن المثقفين العالميين الذين يعتبرهم المحافظون غير وطنيين لأنهم يطرحون أسئلة مقلقة حول الأعراف والإفتراضات السائدة من منطلق حركة التنوير حسب إدوارد سعيد.

العشرات من الذين اتصلت بهم بشتى الطرق احتلوا بلاتوهات القنوات التلفزيونية باسم التحليل الفكري ورفضوا الرد على أسئلة "ضفة ثالثة" بدعوى مبرر ضغوطات شخصية ومهنية، وفضلوا الإعلام الأحادي لتمرير مواقفهم الوطنية ضد بعض المثقفين الطلائعيين الذين أصبحوا يتهمون بالعمالة لاضطرارهم إلى الكتابة في الخارج، والظهور في قنوات أجنبية أو عربية تبث من شتى أنحاء العالم. ورغم عدم تجاوب أكثر من كاتب وطني وقومي وتقدمي يساري معرب ومفرنس وإسلامي وباديسي ونوفمبري، لم نفشل، وتمكنا من محاورة مثقفين ومبدعين في مجالات متنوعة، واستطعنا ضمان فسحة معتبرة للرأي وللرأي الآخر المنشود مهنيا. وفي ظل الاختلاف اللغوي والأيديولوجي الذي سعينا لضمانه رغم الصعوبة المذكورة، خرجنا بحصيلة آراء مفيدة وغنية وناطقة بمواقف تراوحت بين التشكيك والتأكيد والنفي لمفاهيم تتعلق بدور ما يسمى بالمثقفين في الحراك الجزائري الذي احتفل يوم 22 فبراير/شباط بذكرى انطلاقته على مرأى ومسمع إعلام عالمي خضع له مكرها تحت وطأة أبجديات الممارسة المهنية.

زمن المثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي قد ولى كما قال تشومسكي نفسه

















ماهية المثقف.. بين أزراج وشنيقي
هل ساهم المثقفون بمفهومهم التقليدي في مرافقة الحراك الشعبي والتأثير فيه أم تجاوزهم كما حدث في بلدان الموجة الأولى والموجة الثانية لثورات أو انتفاضات الربيع العربي كما صنفها المفكر عزمي بشارة؟ ماذا عن ظاهرة مساهمة أساتذة جامعة يدعون أنهم من النخبة المثقفة في الثورة المضادة كما يقول البعض الآخر من منطلق خطاب يتقاطع مع حديث السلطة عن مثقفين تغريبيين باسم الديمقراطية والحداثة؟ وأخيراً هل تؤكدون أن زمن المثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي قد ولى كما قال تشومسكي نفسه، وما هي نسبية صحة طرحه في حالة الحراك الجزائري الذي تصدر غلاف مجلة "نيوزويك" الأميركية وليس مجلة أوروبية أو فرنسية؟
إنها الأسئلة التي رد عليها كتاب وباحثون وأدباء وأساتذة وصحافيون ونقاد ورسام كاريكاتير شهير قضى نصف قرن ملتزما سياسيا واجتماعيا، وهو الرسام الذي أهدى لنا رسما خاصا بالحراك. وكلهم يستحقون شكرنا لأنهم تحملوا مسؤولياتهم التاريخية كحملة قلم وليس كمثقفين حتما، وبفضلهم سيتمكن القراء من معرفة مقاربة هذا وذاك لإشكال يتجاوز بتعقده الفكري العالمين العربي والإسلامي بوجه عام والجزائر بوجه خاص.
انطلاق رحلتنا بأزراج عمر وأحمد شنيقي كان منهجيا أيضاً، لأنهما أكدا على تحديد مفهوم المثقف الذي يعني إنتاج الفكر والنقد الأمر الذي لا ينطبق على الصحافي والجامعي والمحامي ومهنيين آخرين في نظرهما. في الجزائر وكما هي الحال في البلدان العربية ـ يقول شنيقي ـ معظم الجامعيين يعملون ببساطة على إعادة إنتاج المعرفة من منطلق التدجين السياسي الرسمي للجامعة التابعة للسلطة الريعية، وليس من باب المصادفة أن رافق بعض الكتاب المثقفين الحراك بعد أن شاركوا في الصراعات الفكرية التي عرفتها الجامعة، وهذا يعني في نظره أنهم استبقوا الحراك بمطالبتهم بدولة القانون والمدنية والديمقراطية؛ "وإذا كان الحراك قد دفع الكثيرين إلى التفكير في الحراك بوعي غير مسبوق، فإنه يضم بين طياته طاقات وجماعات وتنظيمات اجتماعية متنوعة ومختلفة في شكل صراع طبقي قائم بينها وبين الكتلة الحاكمة"، على حد تعبير هذا الباحث والأستاذ الجامعي والناقد المسرحي المعروف.

وعن دفاع أساتذة وكتاب وصحافيين معروفين بتوجه وطني يقوم على مزج هوياتي ديني وقومي عروبي، كممثلين للثورة المضادة كما يصفها البعض، رد شنيقي أن الأمر غير جديد تاريخيا: "ومن الطبيعي أن يحارب أعضاء هيئات مثل المجلس الوطني للتعليم العالي واتحاد الكتاب الجزائريين الحراك إذا عرفنا أنهم كانوا من المنتفعين اجتماعيا، ومن بينهم الشعراء الذين مدحوا الرؤساء كشعراء البلاط، وهذا ما تم مع الرئيس المخلوع بوتفليقة". ونبه شنيقي إلى حقيقة تأييد آخرين من الكتاب والجامعيين للحراك الجزائري الذي لا يعد تعميقا لما سمي بالثورات العربية، لأنه يدخل في مسار تصفية الإستعمار الذي كان تراجيديا بآثاره المدمرة على كافة الأصعدة في الحالة الجزائرية، كما هي الحال في بلدان مستعمرة سابقا لكن ليس بنفس الوطأة. أخيرا أكد شنيقي أن المستوى التعليمي وتكنولوجيا الإعلام والاتصال يعدان عاملين مركزيين ساعدا على بروز الحراك، ورغم أهميتهما، لا يجب إلغاء دور مثقفين نقديين يواجهون منع الإعلام الرسمي. المزج بين الجانبين النظري والعملي جمع فكريا بين شنيقي وأزراج، وكان التنبيه لمفاهيم محيطة بالإشكال المطروح سيد الموقف عندهما رغم ظلال الاختلاف النسبي الطفيف خلافا لما بينه لاحقا أصحاب الرأي الآخر المناقض الذي جاهدت من أجل الحصول عليه. المثقف عند الشاعر والمفكر والصحافي الجزائري اللندني مواطن بين عامة الناس أولا، ويفترض فيه أنه يملك المعرفة النقدية، ويدرك تعقيدات الأوضاع أكثر من الناس البسطاء، وتتوفر لديه أدوات التحليل العلمي للمشكلات والأزمات التي بموجبها يتم قهرها وتجاوزها، وخلق بدائل أكثر قدرة على توفير شروط التحول الحداثي في مجتمع تقليدي جدا مثل المجتمع الجزائري. هذا المجتمع لم يتمكن في نظره من تكوين شرائح تنطبق عليها تسمية المثقف الطليعي أو الريادي أو القيادي بالمعنى الذي عرفته أوروبا لأسباب تاريخية معروفة، وفي مقدمتها الاستعمار. في تقديره، الكثير من الصحافيين والأساتذة والمدرسين والكتاب هم أبناء الثقافة التقليدية ويعيدون إنتاج ثقافة شيخ الجامع ومعلم المدرسة والأديب التقليدي والقاضي الفقيه السلفوي، وعليه: "لا يوجد أثر جوهري لمفكرين وفلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاديين، وعلماء وتقنيين عصريين وعالميين، خارج البنية المذكورة التي يمكن وصفها بالرجعية في غالب الأحيان.

سيطرة العسكر أثناء حركة التحرر الوطني، وما تلاه خلال الاستقلال، كانت السبب في غياب المجتمع المدني الذي يتربى فيه المثقفون". خلو الحراك من المثقفين المنظرين والمحركين للفكر والمؤسسين لاستراتيجيات ثورة التغيير في جميع المجالات هو نتيجة للخلفية التاريخية المذكورة، والشريحة المتعلمة ـ كما وصفها أزراج والمكونة من المحامين والأطباء والمعلمين والأساتذة المساهمين في الحراك ـ لا تشكل مثقفين نقديين يملكون السلطة الفكرية. الأفراد الذين يؤلفون الشريحة المهنية التي جاءت على لسان أزراج تتكون من مهنيين يفتقدون إلى مشاريع الدولة الحديثة بكافة مظاهرها الفكرية والأدبية والفكرية والجمالية والاجتماعية. والكمشة المكونة من عدد قليل جدا من المثقفين لا يشكلون ثقلا فكريا مؤثرا عمليا، وضاعوا أو غيبوا وسط الهرج والمرج والتلفيق الإعلامي، حسب تعبيره.

      سليم، أشهر رسامي الكاريكاتير منذ الاستقلال، فضل إهداء "ضفة ثالثة" رسما فنيا بسيطا وبديعا ومعبرا عن حراك راوغ الكتاب أو المثقفين على حد تعبيره 

















في إشارة غير مباشرة الى كتاب يعتبرون أنفسهم مثقفين طلائعيين، قال الإعلامي إبراهيم قارعلي دون الخوض في الإشكال الفلسفي الذي يطرحه مفهوم المثقف، إن "الكثير من المثقفين الجزائريين أخطأوا في فهم السلطة والمجتمع على حد سواء، ومن بينهم المثقف العضوي الذي يحتك بالسلطة والمتمرد الذي يعارضها، والذي أصبح يعارض حتى المجتمع عندما يقف ضد قيمه وثوابته وهويته، والمثقف الجزائري يبقى يتفرج في كل مرة بسلبية وانتهازية بوجه عام على ما يحدث" على حد تعبيره. الثورة الشعبية السلمية ليست ملكا لأحد، ومن "الطبيعي أن تكون لكل ثورة ثورة مضادة، والتخوين الذي شاركت فيه السلطة والمعارضة ليس أمرا جديدا، وتم في صفوف متعلمين ومثقفين يدعون محاربة التجاوزات الظالمة بكل أشكالها"، استطرد قائلا. الانتكاسة التي قد تطال الحراك أو الثورة لم تنتج في نظر قارعلي بسبب إجهاز سلطة الأمر الواقع عليها فحسب، بل جراء تلوين الثورة الشعبية بالشعارات الحزبية والأيديولوجية لأسباب مصلحية ضيقة يريد أصحابها الالتفاف حولها. والشعبوية أجهزت في الأخير، حسب قارعلي، على المثقف الذي كان في قلعته العاجية، والخروج إلى الشارع في ظل النظرة الاجتماعية للمثقف العضوي وغير العضوي بالإضافة إلى الإنتهازية حقيقة جعلت المثقف يساير الغوغائية، ويخاف من النقد الذاتي بعدما انتهى زمن النضال التقليدي الذي تكاد تقضي عليه البدائل الجديدة للسلطة والأحزاب والصحافة بفضل ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال.

حراك الجزائر (تصوير: رياض كرامدي/فرانس برس) 


















المثقفون بين "السيلفي" والانحراف والتحجيم
إذا كان من الضروري عند أزراج وشنيقي تعريف المثقف للرد على أسئلة "ضفة ثالثة" بكثير من الأكاديمية، فإن الباحث الأدبي ونائب رئيس الاتحاد البرلماني العربي نور الدين السد والشاعر حسين عبروس فضلا الحديث عن مثقفين شاركوا في الحراك بقوة، لكن ليس بطريقة بناءة دائما بسبب انحراف منشوراتهم نحو التفتين وإثارة الأحقاد والفرقة بين الجزائريين: "وهو الأمر الذي حماه الجيش الشعبي الوطني ضد المنحرفين والدخلاء" على حد تعبير الأول. الحراك ـ الذي يحتاج إلى دراسة فكرية معمقة لمعرفة خلفياته واستراتيجيته ولإسهام المثقفين حسب السد ـ تقاطع مع قول عبروس أن "جهة ما من النظام أوعزت للشباب أن يتحركوا ضد الفاسدين، ولو لم يكن ذلك لكان القمع مصيرهم مثل ما حدث في تونس وليبيا ومصر واليمن"، كما لا يعني الحراك "التجوال في الشوارع والتقاط الصور عبر تقنية السيلفي". الحراك حالة رفض داخلية للتواقين للحرية وللرافضين للنظام المتعفن سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والصمت والجبن والهجرة إلى الخارج، والانتهازية والتزلف للنظام، هي حقائق مرادفة لمواقف من يزعمون الانتماء إلى النخبة المثقفة على حد تعبير عبروس. حديث السد عن خلفيات الحراك الحقيقية، وقارعلي عن مثقفين ضد المجتمع، يتقاطع مجددا مع حديث عبروس عن مندسين نسبوا الحراك إليهم، ورغم وقوف معظم أساتذة الجامعة ورؤسائها وعمدائها في صف السلطة حفاظا على عروشهم، فـإن بعض الشرفاء ساندوا الحراك وواجهوا الموقف بالرأي والمسيرة على حد تعبيره.

الشاعر والإعلامي السعيد حمودي أكد بدوره غياب المثقف العضوي بالصيغة الغرامشية في الجزائر قبل وأثناء الحراك بسبب "تأثير ليبرالية براغماتية اليوم في حركية التاريخ، وفي صياغة إنسان مستلب بفعل عواصف تكنولوجيا التواصل الإعلامي العابر للقارات، وتحجيم دور المثقفين منذ الاستقلال وانخراط الكثير منهم في خدمة الأيديولوجيا، وفي الانتهازية التي تسببت في فقدان آخر أوراق الثقة بين المواطن والمثقف كرائد ومؤطر للتغيير الأمر الذي يفسر تأخره عن الهبة الشعبية التي تطالب بالحرية والكرامة والعدل" على حد قوله. أمام هكذا أمر واقع، لم يعد في تقدير حمودي للمثقف الحقيقي حتى وإن كان ملتزما أن يلقي حجرا في المياه الراكدة في ظل العبثية التي يعيشها المجتمع، وسيظل التغيير المنشود مرهونا بإرادة سياسية مجتمعية في كل مفاصل الحياة داخل مؤسسات الدولة وخارجها. وأنهى مساهمته قائلا: "قد يبدو حلما طوباويا، ونحن جميعا في انتظار غودو".

الثورة الشعبية السلمية ليست ملكا لأحد 


















القاص والروائي والإعلامي عبد العزيز بوشفيرات أكد الغياب التاريخي للمثقفين قبل وبعد الحراك مستثنيا مرحلة ما قبل الثمانينيات، ومنطلقا من مرحلة الإنفتاح الديمقراطي المؤقت التي انتهت دون وجود للمثقفين، ومرورا من عشرية الإرهاب السوداء التي دفعوا ثمنها غاليا، وصولا إلى الحراك الشعبي الذي ما زال مستمرا منذ سنة بسلمية شعبية مبهرة تمت في ظل انقسام النخبة المتعلمة ودون إسهام فعال للمثقفين في نظره. حراك الشعب الجزائري المزلزل فريد من نوعه، ولا يشبه ثورات أو انتفاضات الربيع العربي ـ مضى يقول بوشفيرات ـ لأنه "استفاد من أخطاء الماضي داخليا وخارجيا، وتحدى السلطة الفاسدة بمقاومته، وبذكائه وبوعيه وبحسه الحضاري المكتسب، خلافا لأصحاب المنافع في منظومات مهنية نخبوية قبلت خرافة مرافقة السلطة للحراك وتحقيق مطالبه، ووحدها فئة قليلة من المثقفين رفضت الخنوع، وفضلت ضنك العيش على الاستسلام واللحاق بركب الانتهازيين من شعبويي السلطة". المثقف العضوي لم يعد مفهوما صالحا، وحراك الجزائر أكد صحة ذلك مجددا، والمثقف يبحث اليوم عن مخارج أخرى لاستعادة مكانته في عالم أصبحت القوة تحسم الصراعات، على حد تعبير بوشفيرات.

 حميد العربي ألح بدوره على الطابع الشعبي الخارق للثورة المستمرة التي أبهرت العالم، وتجاوزت المثقفين الذين ركبوا قطارها 


















سليم يسقي الحراك المستمر بريشته
سليم، أشهر رسامي الكاريكاتير منذ الاستقلال، فضل إهداء "ضفة ثالثة" رسما فنيا بسيطا وبديعا ومعبرا عن حراك راوغ الكتاب أو المثقفين على حد تعبيره. وسليم نفسه يعترف أن إندلاعه كان أقرب إلى مفهوم الخبر الكاذب من فرط التعود على الانسداد واليأس والعبث المستمر، وفي تقديره لا شيء من شأنه أن يوقف حراك شعب قرر أن يستعيد الثورة التي سرقت منه ويحقق الاستقلال الحقيقي والكامل.


أحمد بجاوي، أشهر النقاد والدارسين للسينما العربية والعالمية في الجزائر، وظف خبرته محذرا من سرقة الحراك أو الثورة الجزائرية الثانية كما تم مع الثورة التحريرية، وذلك باستنطاقه مجددا الصحافي الذي قال في فيلم "العصفور" للراحل يوسف شاهين "نتحدث كثيرا عن الثورة لكي لا نقوم بها".
بجاوي وضع فكريا حراك الجزائر في سياق التحرر من بقايا الإستعمار ومن آثار الماضي السياسي العربي المثقل بالاستبداد الأيديولوجي الأحادي التوجه الذي دفع ثمنه غاليا الكثير من المثقفين خلافا لآخرين راحوا يبررون التوجهين اليساري والقومي على حساب تعددية ديمقراطية أنتجت تطرفا دينيا خرج من رحم أزمة الوطنية. خروج الحراك من رحم الجماهير الشعبية بشكل عفوي دون قيادات نخبوية تقليدية، لا يتناقض مع المشاركة الفعلية لمثقفين قليلين. في تقدير بجاوي، تعتبر المرافقة العملية للحراك بالموقف وبالكتابة الفكرية دون التحدث باسم إرادة الشعب واستغلال الظرف للتسلق خدمة للسلطة حقائق ملموسة ميزت سلوكات بعض المثقفين في الوقت الذي رفض فيه آخرون الوقوع في فخ التدجين والاحتواء.
شهادة الشاعرة نصيرة محمدي صبت في مجرى كلام بجاوي بقولها إن "مثقف الحراك شارك في الثورة ومشى في المسيرات، وكتب عنها تحليلا ونقدا ونقاشا كطريقة لدفعها نحو المستقبل متقبلا المختلف، وطارحا الأسئلة الحقيقية التي تبني جزائر جديدة قائمة على الإنفتاح والحريات والمدنية بهدف صياغة مشروع وطني يجمع كل الحساسيات، وينتصر للفكر التنويري الحر". نفس المتحدثة أضافت: "تعرف الثورات دائما الإنتهازيين والسماسرة والعبيد الذين يحاولون كسر التنوير وتدمير العقل ولكن التاريخ ينتصر للأنبل والأعمق والأجمل" على حد تعبيرها.  


سلام الكواكبي كمشاركة عربية خاصة
الأستاذ الجامعي دحمان توشنت يرى أن الحديث عن دور المثقفين في الحراك يحدده تاريخ الجزائر الثوري المعاصر، واندلع الحراك كما اندلعت الثورة التحريرية من دونهم. انطلق واستمر الحراك الشعبي، في تقديره، بالشباب الساخط على الوضع أكثر من شريحة أخرى، وخاصة شباب الملاعب، وبمناضلين جمعويين وبعدد قليل جدا من المثقفين غير المدجنين خلافا لآخرين معروفين تاريخيا بتقربهم من السلطة الأمر الذي يفسر مشاركتهم في الثورة المضادة القائمة عن طريق التخوين اعتمادا على معايير الدين واللغة والجهوية في الوقت الذي انتفض فيه الشعب بكل فئاته وحساسياته متجاوزا التخندق الأيديولوجي الذي ميز السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.
الشعب المستمر في انتفاضته حتى ساعة كتابة هذه السطور ـ أردف توشنت يقول ـ تجاوز الأطروحات النخبوية التقليدية والضيقة الأفق أيديولوجيا، وخرج عاري الصدر بسلمية خارقة للعادة يطالب بدولة القانون والمدنية والتداول على السلطة والحريات الفردية والمواطنة والمساواة والديمقراطية. واعتماد الشباب بوجه خاص على خطاب مطلبي غير نخبوي اللغة شكلا ومضمونا، يبين الشرخ العميق "الذي أصبح يفصل بين المثقفين المحنطين، والجيل الصاعد الذي اتخذ من وسائط التواصل الرقمي وسيلة أضحت ثقافة جديدة بقدرتها على اختراق الممنوع، والقوالب الخطابية الرسمية والمقاربات النخبوية لمتعلمين يتاجرون بفزاعات الهوية والجهوية والمؤامرة الخارجية".

الكاتب الصحافي والشاعر حميد العربي ألح بدوره على الطابع الشعبي الخارق للثورة المستمرة التي أبهرت العالم، وتجاوزت المثقفين الذين ركبوا قطارها بوتيرة متفاوتة في ظل التعتيم الإعلامي الجزائري والعالمي. ردة أشباه مثقفين آخرين لن يغفرها التاريخ على حد تعبيره، وهو التاريخ الذي سيخلد الدور الذي يلعبه الطلبة بمختلف حساسياتهم في المطالبة بإزاحة النظام المتسلط والفاسد. حقائق مثل إسهام المرأة والموسيقيين والرسامين والممثلين والكتاب، والجامعيين والمقاولين والعمال والصحافيين، والشرائح الاجتماعية الدنيا المختلفة، والنقابات والجمعيات المدنية، في ثورة سلمية مستمرة منذ أكثر من سنة رغم كل محاولات الإجهاض حقيقة تمثل فرادة لا تشبه في شيء ثورات الربيع العربي.
الكاتب والمحلل السياسي السوري ومسؤول المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سلام الكواكبي كان الوحيد من كتاب عرب تمنينا مشاركتهم أكثر من منطلق مقاربتنا العربية للتحقيق، وتكتسي شهادة الأستاذ سلام أهمية خاصة باعتباره أحد أقدر المثقفين العرب العارفين بالوضع في الجزائر بحكم صداقاته وعلاقاته مع عدد غير قليل من المثقفين الجزائريين. قال سلام في البداية إن مجمل الثورات والانتفاضات العربية تجاوزت نسبيا المثقفين جراء انقطاع المثقف بتعريفه العام عن الشارع، وبعده عن نبض الناس، وعدم التعرف عن كثب على مسارات بناء وتطور وعيهم. وخلافا لضيوف متدخلين سابقين، لم يتردد سلام، حفيد صاحب "طبائع الاستبداد"، في استعمال مفهوم المثقف العضوي في الحالة الجزائرية من خلال الدور الهام الذي لعبه أكاديميون وحقوقيون منذ انطلاق الحراك دون الخوض بحكم المقام في تفاصيل المفهوم فلسفيا وفي تفاصيل المواقف التي يقتضيها. سلام المنفي الذي يعرف معنى التضحيات الجسام التي يقدمها المثقف العضوي حينما يتحدى نظاما قمعيا مثل النظام السوري، كالقتل والتنكيل والتعذيب والاعتقال والاضطرار إلى الهجرة، لم يستغرب أمر المثقفين الذين يدعمون الحكام الفاسدين ضد الشعب باحثين عن أمان منشود أو منفعة آنية أو اعتراف طال انتظاره، و"سبق الكثير من المثقفين المصريين التقنيين كما وصفهم  نظراءهم في  الجزائر، ومن الطبيعي أن يحيط الحاكم الفاسد والضحل الفكر نفسه بمثقفي بلاط لا شك في تراكم معارفهم ولكن لا ضمير حي لديهم ولا التزام" على حد تعبيره. سلام الذي يختلف مع أصحاب المعادلات الصفرية وكل أنواع الحسم، أضاف يقول: "إن المثقف العضوي هو في أوج نشاطه في جزائر الحراك، واستطاع أن يسترجعه من براثن المستبدين والظلاميين، ولست أعني المعروفين منهم بالضرورة الذين يلعبون دورا في التأطير والتوجيه دون القيادة". الأمر لا يقتصر على الجزائر فحسب في تقديره، ونرى عودة "هذا الصنف من المثقفين في الساحات النقاشية في مختلف دول العالم، والدول العربية هي جزء حي من هذا العالم"، ختم شهادته التي بحثنا عن مثيلاتها عند مثقفين جزائريين وعرب كثر سعيا وراء معالجة أكثر توازنا، سواء تعلق الأمر بتنوع مواقعهم وهوياتهم الفكرية والإبداعية أو بتضارب أفكارهم ومواقفهم. للأسف الشديد، الكثير منهم أخفوا رؤوسهم تحت الرمال ويتحملون مسؤولية ما ينجر عن الكسل والنرجسية والخطاب الشعاراتي المختلف المشارب الفكرية، وهي العوامل التي تفوّت فرصة التعبير عن مواقف الوجود واللاوجود بحرية في منبر يواكب النبض الثقافي عربيا وعالميا.

الشعب المستمر في انتفاضته حتى ساعة كتابة هذه السطور تجاوز الأطروحات النخبوية التقليدية والضيقة الأفق أيديولوجيا

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.