}

سوق الأدب العربيّ بالغرب.. عن "مقاولي الثّقافة العربيّة"! (8)

عماد فؤاد 9 سبتمبر 2019
هنا/الآن سوق الأدب العربيّ بالغرب.. عن "مقاولي الثّقافة العربيّة"! (8)
ملصقات مهرجانات أدبية في أنحاء العالم
  • ماذا لو تلقّيتَ اليوم دعوةً مفاجئةً للمشاركة في مهرجان شِعري دوليّ بالخطأ؟ شاءت المصادفات القدريّة أن يتشابه اسمك على مُنظّمي المهرجان مع اسم الشَّاعر المستحَقّ للدّعوة، فأرسلوا إليك وهم يظنّونك شخصاً آخر؟ ألن تزيدك هذه المصادفة الإلهيّة ثقة في نفسك وتأكيداً على موهبتك؟
  • ماذا لو كتبتَ بعد محاولات مُضنية - كما هو واضح - روايتك الرّديئة الأولى، وحشوتها بشعاراتك السياسيّة الزّاعقة، والمدافعة عن الأقلّية التي تنتمي إليها، ورغم هذا تحصد - يا للحظّ ويا للمصادفات العجيبة! - إحدى الجوائز العربية الكبرى المتاحة اليوم، والمكلّلة بمبلغ مالي لا يُستهان به، لا لشيء إلا لأنّ أحد أعضاء لجنة التّحكيم التي منحتك الجائزة، ينتمي إلى ذات الأقلّية التي تنتمي إليها وتدافع عنها؟ ألن تزيدك هذه المصادفة الإلهيّة ثقّة في نفسك وتأكيداً على موهبتك؟
  • وماذا لو تغلغلتَ في المؤسّسات الثّقافية الأجنبيّة، وأصبحت في مركز يؤهّلكَ لتبادل المصالح الشّخصية، فتدعو هذا إلى فعالياتك الثّقافية وتمنع ذاك، ليردّ عليك الأوّل لاحقاً بفعالية أحسن منها هنا.. ودعوة أرقى هناك؟
  • ماذا لو صدّقتَ اللايكات على صفحتك الشّخصية على الفيسبوك أو تويتر، والتي تأتيكَ من كلّ حدب وصوب من جمهور سطحي الثّقافة، فقط لمجرّد أنّك تكرّر - بدأب تُحسد والله عليه - الفكرة ذاتها والمفردات نفسها فيما تسمّيه قصيدة كلّ يوم؟
  • ماذا لو تاجرتَ بقضيّة بلدك السّياسية وصنعت منها أكشاكاً للبيع في السّوق الأوروبيّة المُربحة، ويا حبّذا لو كان لديك قضيّتان، إن تعبت من المتاجرة بإحدَاهما سارعت وانتقلت إلى الأخرى، كلاعب سيرك محترف، حتى تربح تجارتك وتصبح "كاتباً عربياً متحقّقاً في الغرب"؟

 جاءت الأسئلة أعلاه من نوعيّة "ماذا لو"، ليس لأنّ حدوثها مستحيل لا قدَّر الله، بل لأنّها صارت الواقع الحقيقي الذي نحياه ونراه يتحقّق حولنا يوماً بعد يوم، واقع من الأحداث العبثيّة التي تجعلنا نؤمن بعودة زمن المعجزات المضحكة، تلك الضّحكات التي عادة ما تنقلب إلى أحد شيئين؛ فإمّا قهقهات ساخرة.. أو تنهّدات على ما نشهده من عوار واقعنا الثّقافي العربي الرّاهن.
خذ مثلاً على ذلك ضيوف معارض الكتب في العواصم العربيّة من المحيط إلى الخليج، هم أنفسهم لا يتغيّرون ولا يتبدّلون يا أخي. فيما يشبه المعجزة؛ ستجد الأسماء ذاتها حاضرة عاماً بعد آخر، في هذا المعرض الدّولي للكِتاب أو ذاك. الصّور ذاتها والتّجمعات نفسها والكُتّاب هم هم، دون مللٍ أو كلل، فيما يشبه احتكاراً لا مناص لهم عنه إلّا بالموت. إلى الدّرجة التي تدفع بالواحد أحياناً أن يتساءل - بينه وبين نفسه - عن أسباب تدنّي نسبة كُريّات الخجل في دماء هؤلاء. أو على أقلّ تقدير، أن يدعو الله في سرِّه بأن يمنّ عليهم بالشّفاء العاجل ممّا هم فيه من تهافت وتدافع بالأكتاف. الحال ذاتها ستجدها أينما ولّيت وجهك للأسف، وفي كل المجالات تقريباً، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً. ثمّة احتكار - مؤكّد ومعروف ومُعلن - يُمَارَس من قِبل الكثيرين للفعاليّات والأنشطة الثّقافية العربية والدّولية، إلى الحدّ الذي يمكننا معه أن نقرّ بوجود ما يمكن لنا أن نسمّيه هنا "اتّحاد مقاولي الثّقافة العربيّة في الدّاخل والخارج"، متبوعاً بالعبارة المعتادة: "ليس لدينا فروع أخرى".



من أين تُؤكل الكتف؟
لـ"سوق الأدب العربي بالغرب"، مثلها مثل أيّ سوق من أيّ نوع، مافيات وشِلَل تعرف جيّداً من أين تُؤكل الكتف، وهذا ما لا نريد تعميمه أو سحبه هنا على (كلّ) المشتغلين والفاعلين في هذه السّوق الدّولية للأدب العربي، حيث يحبّ أن يتوقّف دائماً هواة الاصطياد في الماء العكر، ليتهمّونا بالتّعميم وبإطلاقٍ أعمى للأحكام. لكن هذه التّكتلات المافيويّة، من المتاجرين باسم الثّقافة العربيّة ومقاوليها في الخارج - شئنا أم أبينا - موجودة وفاعلة في الحراك الثّقافي العربي الرّاهن بالغرب. وبنظرة سريعة حولنا، سنجد أسماءهم تتكرّر في كلّ مكان وعلى كلّ منبر، بدءاً من لجان تحكيم أغلب الجوائز العربية، مروراً بالمرشّحين للجوائز ذاتها، وصولاً إلى الفائزين بها!
سنقرأ أسماءهم ضمن الحاصلين على منح مؤسّسات الدّعم الثّقافية، كما قرأناها من قبل في لجان التّحكيم المانحة. سنجدهم ضمن المسؤولين عن منابر الثّقافة ومواقعها الإلكترونية، كما سنجد كتاباتهم أوّل ما يتصدّر - دون خجل - صفحات هذه المواقع. ومؤكّد ستجد بعضهم - لا محالة - ضمن المشاركين "المزمنين" في أغلب المهرجانات الشِّعرية والأدبية الدّولية، خاصة أولئك اللُطفاء من هواة إغراق صفحاتهم على منصّات السوشيال ميديا كلّ صباح بعشرات الصّور مع كُتَّاب وشعراء "عالميّين"، متبوعة بعبارات إنجليزية ركيكة، تأكيداً على كونهم هم أيضاً صاروا عالميّين، عملاً بالمثل الشّائع: "من جاور الحدّاد انكوى بناره"، أو بالأحرى: "من جاور العالميّ انكوى بعالميّته".
وعلى ذكر مهرجانات الأدب العالميّة، والتي صارت هي الأخرى ساحة لتبادل المصالح الشّخصية، وعُرضة لاحتكار أسماء بعينها من شعرائنا وكتَّابنا العرب "النُّشطاء" (فصيل استعراضي يكاد يُقيم أفراده في المطارات، ويقال إن بعضهم يستطيع التّواجد في خمس عواصم أوروبيّة وآسيويّة في الوقت ذاته، ومن المفضّل أن يُتبع ذكر أسمائهم بعبارة "وامْسك الخشب")..

شهدت مهرجانات الأدب العالميّة في السّنوات القليلة الماضية هي الأخرى ازدياداً كبيراً في

هيمنة مافيات "الشِّلَل" الثّقافية العربية في الغرب، ومن والاها، خاصّة في ترشيح أسماء الشّعراء والكُتّاب المفضّلين على هذه المهرجانات، واستبعاد غير المرغوب فيهم. فيما دفعت الأحداث السّياسية التي عصفت بكثير من بلدان العالم العربي في السّنوات القليلة الماضية، إلى أن تغيّر المهرجانات الثّقافية في أوروبا من سياساتها في استقبال كُتّاب بلدان ثورات الرّبيع العربي، خوفاً من طلب الضّيوف حقّ اللجوء السّياسي لدى دول الاتحاد الأوروبي المنظّمة لهذه المهرجانات. وهو ما رصدناه منذ 3 سنوات في مقال سابق نشر في 31 آذار/مارس 2015 بعنوان "غياب العرب عن "روتردام للشِّعر.. إقصاءٌ متعمّد أم سهو؟"، وفيه جاء: "لا سيما إذا كانت هذه المشاركة العربيّة آتية من بلد يعاني زلزلة "الربيع العربي"، الذي صار ذكره في الإعلام الغربي مرتبط بظهور "داعش" في العراق وسورية وليبيا واليمن، وهو أمر يلقي من دون شكّ بظلال من التحفّظ والخوف على دوائر اتّخاذ القرارات الثّقافية في عديد من البلدان الأوروبيّة والغربيّة".
وكان من نتيجة هذا التحفّظ، أن أغلقت الكثير من المؤسّسات الأوروبية الدّاعمة للثقافة باب دعواتها لأيٍّ من الكُتّاب العرب الموجودين داخل بلادهم، بعد أن زلزلها الحراك السياسي قبل عدّة سنوات، خاصّة بعد أزمة اللجوء إلى أوروبا، واكتفت غالبية تلك المؤسّسات بدعوة الكُتّاب العرب الذين نجحوا في الحصول على اللجوء الأوروبي، وهو ما خلق أمامنا مشهد "الكيل بمكيالين" الذي نراه اليوم، حيث ستدعم المؤسّسات الأوروبية كُتّاباً عرباً حظوا باللجوء إلى أوروبا، فيما لن تدعم كُتَّاب الدّاخل!
في ظلّ هذه البيئة غير السّليمة، انتعشت تجارة مقاولي الأدب العربيّ بالخارج، وصار لدينا نماذج فاضحة من فئة المقاولين النّشطاء، "جامعو الأنفار" لهذه الفعالية الثقافية أو ذاك المهرجان الأدبي، اتّحدت المصالح هنا وتنافرت هناك، فأثمرت عن شِلَل عن اليمين وشِلَل عن اليسار، كلٌ يريد لجماعته أن تكون الأبرز والأقوى والأكثر حضوراً، وكلٌ يميل إلى شبيهه كما يقولون، فصار الأمر أشبه ما يكون بهديَّة تُهْدى كي تُردُّ بأسرع وقت ممكن، فإن رُشِّحتَ من قِبَلِ أحدهم للمشاركة في مهرجان أدبي ما، فعليكَ أن تردَّ الجميل بأفضل منه، وبدعوة أكثر كرماً. وإن حالفك الحظّ في المشاركة مصادفة بأحد هذه المهرجانات، فلا تنسى أن تتقرّب إلى الشّعراء والأدباء المشاركين معك، فلربّما منحك أحدهم فرصة للمشاركة في مهرجان أدبي أو شعري في بلاده، من يعلم؟ ولأنّ لا أحد يعلم، فلدينا هنا ما يُحْكى.. وما يُضْحِك.



والمغضوب عليهم؟!
تستعين أغلب مهرجانات الأدب العالمية، بلجان دائمة من الأسماء الفاعلة في الحقل الأدبي

والثّقافي، لاختيار الأدباء والشُّعراء المشاركين كلّ عام، وتتولّى هذه اللجان ترشيح أسماء الكُتّاب الضّيوف. وبعض المهرجانات الأدبية العالمية الكبرى لا تبدّل لجانها هذه على مدى سنوات طوال، ومن ثمّ تصبح اختيارات أسماء الشُّعراء والكتّاب المرشَّحين للمشاركة في أنشطة المهرجان الأدبي، رهناً بنظرة الرّضى من قِبل أفراد هذه اللجان، والتي عادة لن تخرج في اختياراتها عن حساباتها الشّخصية تجاه هذا الضّيف أو ذاك، ما يعني ترشيح المَرْضيّ عنه وإبعاد المغضوب عليهم. وعلى هذا النّحو، وفي ظلّ هذا المناخ الذي يمكن توصيفه بأنه غير صحيّ، تتشكّل التكتّلات وتنمو الشِّلَل الثّقافية ذات المصالح المتبادلة، لتحتكر وجود شركائها ضمن هذه الأطر من الفعاليّات الثّقافية وتمنع الآخرين عنها.
وكي لا نذهب بعيداً نضرب بعض الأمثلة على ما نقول: يعلن مهرجان سيت الدّولي للشِّعر في فرنسا عن أن لجنة اختيار الشّعراء المشاركين به تتكوّن من 18 اسماً، من بينهم عربياً: محمد بنيس (المغرب)، كاترين فرحي (مصر)، أنطوان جوكي وفينوس خوري غاتا (لبنان)، وغسان زقطان من فلسطين. هؤلاء هم المكلّفون بترشيح أسماء الشّعراء عن مناطقهم الجغرافية وبلدانهم. في حين يعلن مهرجان الشّعر العالمي في روتردام (وهو بالمناسبة أهم مهرجانات الشّعر في أوروبا، نظراً إلى قلّة الشّعراء المدعوين به كلّ عام) أن مرجعيته الرئيسية في اختيار الشُّعراء العرب هي مجلة "بانيبال" النّاطقة بالإنكليزية، والتي تصدر في العاصمة البريطانية لندن منذ ما يربو على العشرين عاماً، وتقدّم صورة نشطة وحيويّة عن الأدب العربي المعاصر باللغة الإنكليزية.
هنا يكمن معنى ما نقصده بكلمة "الاحتكار"، إن كان على المستوى الشّخصي والفرداني (كما في لجنة مهرجان سيت الدولي للشّعر، والمكونة من أفراد)، أو على المستوى المؤسّساتي والمنبري (متمثّلاً في مجلة "بانيبال")، ففي الحالة الأولى، لن يشارك شاعر من فلسطين مثلاً في مهرجان سيت الفرنسي إلا بعد أن يختاره الشّاعر الفلسطيني الموجود بلجنة المهرجان، كما لن يشارك شاعر من المغرب إلا بترشيح من قبل الشّاعر المغربي والموجود بلجنة المهرجان الدائمة، وكذلك لن يشارك في مهرجان الشِّعر العالمي في روتردام شاعر لم تنشر له مجلة "بانيبال"!
وعلى جانب آخر، يشهد واقعنا الثقافي العربي الراهن العديد من ظواهر المشاركة الفردية

الدؤوبة من قبل (بعض) الأسماء، التي تكاد تحتكر هي الأخرى (بعض) هذه المهرجانات الأدبية والشّعرية العالمية، وتكاد هذه الأسماء لا تفعل شيئاً آخر في حياتها غير المشاركة في هذه المهرجانات والتّنقل من بلد إلى آخر، حتى ليتساءل المرء متى يعملون وكيف يعيشون ومن أين يتقاضون أجورهم؟ وهم كلّ يوم في مدينة أجنبية ما، حتى صار يُطلق على بعض هؤلاء كاتب أو شاعر "مهرجانات"، ولم لا وقد صار من العادي أن تسمع اليوم عن أصناف جديدة من الكُتّاب والأدباء لم نسمع بها من قبل، فصرنا نقول "كاتب المنح والإقامات الأدبيّة" و"كاتب الجوائز" و"الكاتب الإعلامي" و"الكاتب الصحافي"، ناهيك عن فصيل فريد من الكُتّاب المتقاعدين والمتربّعين منذ عقود في المؤسسات الثقافية العربية أو الأجنبية.
وكما أن لكلّ تجارة صانعيها، فلكل تجارة أيضاً مقاوليها، وحين توضع إمكانية الاختيار في أياد قليلة، تصبح الاختيارات محفوفة بالمخاطر ومثيرة للشّبهات، وغير بعيدة عن الأهواء الشّخصية والميول التي تختلف من شخص إلى آخر، كان من الأجدى أن تعمل إدارات هذه المهرجانات الثّقافية الدولية على تجديد لجانها المكلّفة باختيار الكُتّاب المشاركين بها بشكل سنويّ، كما تفعل بعض الجوائز الأدبية المحترمة، إذ تبدّل من الأشخاص المحكّمين في لجانها سنة بعد أخرى، إبعاداً لشبهة المحاباة أو تفضيل هذا عن ذاك، وكي يكون الاختيار نابعاً عن استحقاق أدبي أو إبداعي، وليس مجاملة تُمْنَحُ اليوم.. لتُستردّ غداً.


هامش
عثرنا على ثلاث إجابات فقط لأسئلتنا التي طرحناها أعلاه:

  • شارك فلان الفلاني بالمهرجان العالمي للشِّعر، بعد أن وصلته الدعوة بالخطأ، وصار الآن يكتب شعراً أكثر رداءة أثناء طيرانه بين المهرجانات التي عرف سكَّتها جيداً. وقد زادته هذه المصادفة الإلهيّة ثقة في نفسه وتأكيداً على موهبته.
  • عرض كاتبنا "الأقلويّ" مبلغاً خيالياً باليورو على أحد المترجمين ليترجم روايته الرديئة إلى إحدى اللغات، وأمام ضخامة المبلغ قَبِل المترجم أن يخوض التّجربة، إلا أنه قرّر (بعد قراءة 15 صفحة فقط) أن يلْكم الروائي لو رآه يوماً، وعلى الرغم من هذا، فقد زادت الجائزة المالية الضخمة من ثقة كاتبنا وأكّدت على موهبته. وهو الآن لا يطمح إلى شيء غير "نوبل".. قادِر يا كريم!
  • صديقنا النّشط والمتغلغل في المؤسّسات الثّقافية الأجنبيّة لا يزال يعمل بدأب وجدّية.. ومن خلف عشرات الوجوه، ولله الحمد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.