}

جاك شيراك.. آمن بدور الثقافة في تقريب الشعوب

بوعلام رمضاني 27 سبتمبر 2019
هنا/الآن جاك شيراك.. آمن بدور الثقافة في تقريب الشعوب
شيراك.. تحدى الجنود الإسرائيليين بلهجة قاسية
استيقظت حزينا أمس الخميس على خبر رحيل أقرب رؤساء فرنسا الى قلبي ليس لأنني أكن ودا كبيرا للرجل الذي تحدى الجنود الإسرائيليين بلهجة قاسية تعكس موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي فحسب بل لأنني تصورت وأنا أستمع للخبر رئيسا عربيا يتحدى إسرائيل بهذا الشكل ويخطب على لسان وزير خارجيته الشاعر والمبدع دومنيك دو فلبا منددا بالغزو الأميركي للعراق.

أقول هذا الكلام وأصر عليه رغم أنني أعرف أن الكثير من الزملاء الذين عاثوا فسادا في عهد

الرئيس المخلوع بوتفليقة نابليون الجزائر، الذي كان تابعا لفرنسا، وغير المتوقفين عن فسادهم تحت القبعة العسكرية، سيؤكدون صحة اتهامهم لأمثالي بالعمالة لأنني أكرم رئيسا فرنسيا تجاوز بخصاله الإنسانية والسيكولوجية والشخصية وبثقافته الواسعة وبحبه للفنون وللتقاليد الحضارية العريقة مستوى المواقف السياسية الضيقة التي جعلت الكثير من الفرنسيين ينفرون منه إثر فشله في حل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية الكثيرة. أكتب مكرما الراحل جاك شيراك من منظور يجهله عنه الكثير من العرب والمسلمين الذين يرون في الأجنبي عدوا مبدئيا مهما عظم فضله على وطنه أولاً وعليهم أيضاً، باعتباره الرئيس الفرنسي الوحيد الذي تميز بموقف سياسي لم يخدم إسرائيل خلافا لرؤساء فرنسيين آخرين أيدوا الكيان الغاصب دون مواربة. وإذا كنت أتصور سخط الكثيرين علي وهم يقرأون مقالي معترفا بحقهم الديمقراطي في ذلك من منطلق رحمة الاختلاف، فإن سخطهم لن ينقص من تكريمي شيراك الرئيس الذي رحل في الوقت الذي يحتضن فيه المتحف الذي يحمل اسمه  (كي برانلي أيضا) معرضا فريدا يخلد الرجل الذي نافس الرئيس الراحل والكبير الآخر فرنسوا ميتران في ثقافته الواسعة لكنه لم يكن صديقا قريبا من إسرائيل مثله، والثقافة والفنون هما العامل المشترك بين رجلين مختلفين مزاجيا وسياسيا، وشيراك الذي كان وحشا سياسيا مثل ميتران، كما يقال عن كبار السياسة، كان مثل منافسه اليساري وحشا ثقافيا أيضاً وذلك ما لا يختلف حوله كل الفرنسيين ما دام التاريخ يؤكد ذلك .
صباح الخميس حزنت السماء أيضا برحيل شيراك وبكته بغزارة، ولم يقتصر المتدخلون في بلاتوهات القنوات التلفزيونية والإذاعية أو عبر الهاتف على تكريم الراحل كوحش سياسي كما حدث مع السياسيين الكبار في فرنسا وفي غيرها من بلدان المعمورة البشرية. فعلاوة على الإشادة بالوحش السياسي، أسهب الكثيرون في لفت الانتباه إلى الوحش الثقافي والفني الذي تحول إلى دليل في المتحف الذي سيخلده على مرأى شاب فقد بوصلته في 20 حزيران/يونيو عام 2006 كما بينت ذلك جيداً كاميرا إحدى قنوات التلفزة وهي تبرز شرح رئيس فقيه في الفنون والثقافات القديمة (الآسيوية والأفريقية والهندية أساسا) ومؤمن بدور الثقافة في تقريب الشعوب لبعضها البعض باعتبارها الأداة الإنسانية الأنجع لمحاربة الأفكار المسبقة والجامعة للوجدان المشترك والمضادة للعنصرية، وعليه لم يكن غريبا أن اقتصر تكريم جان ماري لوبان  للراحل على قوله في كلمتين تقطران بالحقد: "يجب احترام الموتى.."!.

الثقافة ومصير العالم
يوم تدشين متحف كي برانلي ومتحف جاك شيراك حاليا، ألقى الراحل كلمة تاريخية ليس

كرجل سياسي ضحل الثقافة والبصيرة ولكن كمثقف يعي الدور الحضاري والإنساني الذي تلعبه في المجتمعات المتقدمة والتي يقف من أجلها الآلاف في طوابير طويلة متحدين المطر والبرد والقيظ كما شهد ذلك كاتب هذه السطور يوم مدد تاريخ معرض بيكاسو في عز الشتاء وتناوب محبوه على الأماكن واقفين لصعوبة التحدي الأكبر. قبل 13 عاما قال الراحل وهو يتحول الى دليل فني في متحفه: "يوجد مصير العالم هنا أكثر من أي وقت مضى لأنه المكان الذي يمكننا من الرؤية التعليمية المؤدية إلى التحاور بين أصحاب الثقافات المختلفة والمغايرة". هذا هو شيراك الذي تبكيه فرنسا الثقافة والفنون وليس فقط المواقف السياسية التي قد نختلف معه حولها كما هو الأمر مع قادة آخرين في العالم، وهذا هو شيراك الذي لفت الانتباه أيضا أثناء زيارته للصين حينما راح يشرح تاريخ وخصوصية تحف عسكرية مصنوعة من الطين الغارق في تاريخ الإنسانية. خلافا للشائعات التي انتشرت حوله كقارئ للروايات البوليسية فقط وللصورة التي رسخت عنه كمحب لكل أنواع الأكل وللموسيقى العسكرية ولأفلام الوسترن وكمداعب في الجلسات الحميمية الخاصة، تحدثت كريستين البنال وزيرة الثقافة التي اشتغلت مع الراحل مؤكدة "كانت تلك واجهته المزيفة لإخفاء حدائقه السرية". بعد انسحابه من الحياة السياسية صرح الراحل بما يؤكد تصوره للمسؤولية كمثقف صاحب مواقف من خلال المؤسسة التي حملت اسمه أيضا: "مسؤوليات رجل الدولة لا تتوقف عند انسحابه من الحياة السياسية. بعد الالتزام السياسي يبقى الالتزام الإنساني والمعنى الحقيقي لنضالاته ولما يؤمن به".
ستفتقد فرنسا شيراك الرجل الذي آمن بعبق الثقافة والفنون كجسر تعبر منه الإنسانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.